بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    اتحاد طنجة يفوز على نهضة بركان    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعرية السخرية
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 08 - 05 - 2015

تتصف التجربة الشعرية لأحمد لمسيح بعدة خاصيات جمالية وموضوعاتية وتاريخية..فهو أولا: واكب القصيدة الزجلية الحداثية منذ أواسط السبعينات سواء كمبدع أو كمؤطر لها تقديما وتنظيرا ونقدا وبالتالي فمزاوجته بين الإبداع والتنظير منحت مشروعه الشعري عمقا نظريا واستمرارية في الزمان .الملمح الثاني المميز لهذه التجربة أن صاحبها كتب في الشعر المعرب كما في الزجل الأمر الذي جعل روافده الجمالية متعددة.ثالث خاصية أنه كان سباقا لنشر ديوان زجلي في وقت كان فيه الصراع بين الدارجة والعربية المعربة ذا مسحة سياسية ،حيث كان كل من كتب بالدارجة ينعت بالعمالة للفركفونية وهو تخوين لازالت له أصداء عند أصحاب نظرية المؤامرة..رابع نقطة تحسب لهذه التجربة وهي أنها قطعت مع الزجل الغنائي وأعطت فسحة للذات المفردة بدل الإنشاد الجماعي والاهتمام بالفرد باعتباره بؤرة رهانات الحداثة بشكل عام..وخامس ملمح لهذا المسار هو تسليط الضوء من جديد على إحدى منتجات الثقافة «الشعبية «.فالزجل بقوة الأشياء ينتسب لثقافة الهامش.هامش مبعد وقائم في الظل أو ما اصطلح عليه بالأدب الملعون أو الكتابة اللقيطة والتي يفترض أنها تفتقد الى أب شرعي. وهي ذات المحنة التي عاشها الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية.فقط تجدر الإشارة أن السياق العام لتاريخ الفكر يسير في اتجاه دفع ثقافة الهامش للواجهة ولاسيما الفكر الحداثي المؤمن بالتعدد والاختلاف. فالهامش أصبح مخلخلا لمركزية الثقافة الممأسسة.أفكر في انجازات عبد الكبير الخطيبي وحديثه عن الوشم في الثقافة المغربية مثلا..ثم مشروع فاطمة المرنيسي عن هندسة الجنس وهامشية المرأة..دون نسيان المشروع الضخم لمشيل فوكو عن الهامشية المزعومة للحمق مقابل رجاحة وجدوائية العقل الغربي.فضلا عن حديث كلود ليفي سترواس عن هامشية البدائي مقابل المتحضر والقائمة طويلة..
في هذا السياق أفهم الزجل كمكون من مكونات ثقافة الهامش وأدب الظل دون أن يفهم من مقاربتنا أنها تطمح لتأسيس خطاب معياري(أي الماينبغيات)أو خطاب الإطلاق(اليقينيان).فأقصى ما نطمح إليه هو تسليط الضوء على جمالية وقوة أدب الهامش والتي تكمن في انفلاته من تقنينات المؤسسة وقواعدها الصارمة متخذين من التجربة الشعرية لأحمد لمسيح متنا للاشتغال..
هذا الشاعر المتسكع بالمعنى الفلسفي للمفهوم..والقصد بالتسكع في هذه المقاربة هو التيه الواعي والهجرة المخطط لها في اتجاه ضفاف بكر وذلك بنية رد الاعتبار للسؤال حول دواعي إجبار الدارجة المغربية على الإقصاء.ومدى صدقية تحويل مفرداتها من بعد تواصلي صرف إلى خطاب جمالي.
وللتحقق من زيف أو صدقية هذه الافتراضات كان لزاما علينا الوقوف عند :
1-خصوصية خطابه الشعري وحدود انفتاحه على سجلات لسانية تبدأ من معجم شطار الطرق مرورا بالخطابات الرومانسية مرتقين لعلياء خطاب الحكمة .
2-مروحة اللغات الشعرية المستعملة حيث عاينا حضور الدارجة والعربية المعربة واللغة الفرنسية المدرجة والفرنسية الرصينة مع استحضار بعض النتف الشعرية الأمازيغية كما حدث في ديوان «أنا ما كاينش»
3-خصوصية الأساليب الفنية و أدوات التبالغ والإقناع الجمالي حيث حضرت السخرية بشكل ملفت للانتباه في مجمل تجاربه الشعرية.(المعربة والزجلية)
4-ميزة التسكع الفني بين روافد الكتابة في الفنون الأصيلة بدءا من العيطة والحلقة والملحون..مرورا بالأمثال الشعبية وقوفا عندا الألغاز والأحجيات كما سيمر معنا في صلب المقاربة.
وبالعودة إلى مفهوم التسكع باعتباره تمردا على الإقامة الجبرية في خيمة شعرية واحدة، فانه في مستوى أول حفز الشاعر على تشييد حقيقته الشعرية الخاصة..وأسعفه في مستوى ثان على تجريب أدوات فنية واختبار قيمتها من داخل الممارسة الشعرية .والتسكع الجمالي بهذا المعنى هو إحدى المقومات الأنطلوجية للكتابة لأنه إذا ارتفع انتهى سر الكتابة. وبالتالي التسكع ارتهان لتجاوز الذات باستمرار وتغذيتها بعملية النفي المتتالية حيث اعتبر الشاعر السخرية من الذات ومن الآخر رهانا استراتيجيا قصد حيازة هذه الغاية..
1-تحديد مفهوم السخرية:
تعد السخرية وظيفيا أداة تواصلية وفنية تؤزم المعنى وتنسب الحقيقة الأدبية وتضعها محل استفهام دائم.هي ترجمة لتوثر عاصف وخطاب يعري الأعطاب والاختلالات وسيلتها في ذلك المبالغات والتشويهات».(1).السخرية مفارقة في الغالب لأنها تضحك من الواقع المبكي وتستهزئ من المواقف الجادة.على المستوى النفسي هي أداة مقاومة لأنها تحمي الساخر والمتواطئ معه من السقوط في هاوية الاستسلام والضعف(2).تحتفي غالبا باللايقين والارتياب وتمجد الشك.الساخر في العمق يلعب بالمعنى بجدية طفل ويلوي عنق الدلالة بتطرف مناضل.الساخر بهذا المعنى يستغور الأعطاب ويستقطر هشاشة الذات وضعف الآخر.يقول ميلان كوندرا في هذا السياق:»السخرية تنتج لذة غريبة تتولد عن اليقين أن لا يقين»بهذا المعنى فالساخر متمرد على البديهيات مروض للمفارقات مزاوج للعب بالجد والمرح بالمأساة والشك باليقين والحزن بالفرح.إنها تمثل تعويضا وملاذا للمقصي والمبعد وطريقة لمراوغة الفشل ومهادنة الفقد.ولجلال السخرية خلدتها الكثير من الحضارات الإنسانية بآلهة مخصوصة.فالثقافة الفرعونية كان عندها الإله «بس»اله المرح في الألفية الثالثة قبل الميلاد.وعند اليونان كان ديونزوس اله النبيذ والضحك.وذات الوظيفة شغلها باخوس عند الرومان.أما في سياق الثقافة العربية فقد ارتبطت السخرية بالأفراد ومؤنسي القصور تحديدا كأبي دلامة والبهلول الذي انتقد هارون الرشيد فوجد نفسه في مأزق مدعيا الحمق وفقدان العقل وهو إليه أقرب من الخليفة..الآن وبعد أن مرت الكثير من المياه تحت جسر التاريخ العربي يحق لنا طرح السؤال التالي:من كان الحاكم ومن كان الساخر:البهلول أم هارون الرشيد؟
في السياق الغربي ثمة إلتماعات وتأطيرات في غاية العمق والثراء..يكفي ذكر السخرية الكرنفالية لميخائيل باختين ومفهوم تعدد الأصوات ..وهي أدوات للسخرية من اللغة الثابتة و الخشبية ..فضلا عن أنطلوجية السخرية السوداء لأندري برتون الشاعر الفرنسي السريالي.أما السخرية في الأدب المغربي فهي تتوزع على مختلف الأجناس الأدبية ويكفي أن نذكر سخرية أحمد بوزفور وادريس الخوري و محمد زفزاف في القصة. وسخرية الطيب الصديقي في المسرح. وسخرية محمد ابن إبراهيم في الشعر المعرب. وسخرية أحمد لمسيح في الزجل..
2-السخرية في التجربة الشعرية لأحمد لمسيح:
2-1 السخرية اللفظية:
إن السخرية اللفظية في الأساس سخرية لعبيه تسخر من المعنى بعبثها بالأصوات وعلامات الترقيم والتكرار و آلية القلب الدلالي وتحريف ترتيب الكلمات والحروف كما تعارف عليها الناس.وهي بهذا تفصح إلى حد ما عن عدوانية مبررة من طرف المبدع اتجاه فاشية اللغة.كما تضمر نزعة تدميرية عند المبدع عله يرد الاعتبار لنفسه من خلال إنتاج متواليات لسانية جديدة.. علما أن هذه الخاصية حضرت حتى في ديوان أحمد لمسيح المعرب وبشكل صريح .يقول في ديوانه المعرب «فيضان الثلج»ص62:»
«أي جسر أحاور به الحياة غير السخرية؟
أي نصل أطعن به ساق عدميتي
وأخون فوضاي؟»(3)
إن مفارقة السخرية عامة عند احمد لمسيح تكمن في توجهها للذات ولا تقتصر على الآخر والظواهر الاجتماعية العامة ..وبسبب ذلك تنتج معاني غير متوقعة وهذا باد للعيان منذ عناوينه المفارقة يكفي الوقوف عند:»أنا ما كاينش»»توحشت راسي»»تودرت في نعاسي»»حريق الما» واللائحة طويلة جدا.. فسخرية هذه العناوين تدفع اللغة إلى التخلي عن طابعها القطعي متجاوزة كونها أداة فنية لتمسي موقفا وتصورا من الوجود..ففعل نفي كينونة الذات في عنوان «أنا ما كاينش»يسير عكس تضخم الذوات الذي نعيشه في حياتنا اليومية أو حتى في الشعر الغنائي مثلا.فتدمير الذات والإطاحة بأوهام الأنا كان لصالح ضمير «النحن». وهو ما خلصت إليه قصيدة»أنا ما كاينش»حيث قال الشاعر في ص11:»بلا بكم أنا ماكاينش»
غير أن نفي الذات هو نفي متلون بإثباتها وفق جدلية تستدعي تفاعل الأضداد وصراع الشيء ونقيضه.فبعد نفي الذات في مستهل القصيدة يعود الشاعر ليثبتها دون وثوقية.حيث يقول في ص13:»
يمكن كنت حرف على الورقة.
(.....)
يمكن كنت سطر محرز.»
ثم يعود لينفي هذا الإثبات الهش بنفي النفي.حيث يقول مجددا:»يمكن أنا كذبة.»
إن جملة :أنا ما كاينش»تكررت سبع مرات في القصيدة،والتكرار في البلاغة القديمة يفيد الإقرار والتأكيد لكنه في تجربة أحمد لمسيح الشعرية يفيد الارتياب والالتباس حيث ينتهي القارئ من القصيدة وذهنه لا يكف عن طرح السؤال التالي:كيف للشاعر أن لا يكون وهو يكتب؟علما أن الكتابة هي أحد الأجوبة الممكنة لجرح الموت.إن التكرار في هذا السياق وظف لغير غايته الكلاسيكية بسبب تحول النواة الشعرية»أنا ما كاينش»لجملة ساخرة من كينونة القارئ نفسه.وذلك من خلال خلخلة اطمئنانه الزائف لكينونته هو بتبادله المواقع مع الشاعر أولا .وثانيا حفز الشاعر للقارئ على تأمل مستويات الكينونة الرمزية والبيولوجية والسياسية وما شابه ذلك.»إن الدور الايجابي للمتهكم ،هو أن يعيد الفرد من جديد إلى نفسه،وأن يخلق فيه اهتماما بوجوده الأخلاقي،فلا يمكن أن يكون هناك حياة بشرية أصيلة بغير التهكم.»(5)
وبالإضافة للتكرار كتجل ساخر من الذات والبلاغة الكلاسيكية. هناك تجل ثان للسخرية اللفظية وهو نقط الحذف التي سخرت من الكتابة التي لا تستطيع أن تقول كل شيء إما لعجز أو إكراه أو تسلط أو لا مبالاة.الأمر الذي حمل الشاعر على الكتابة بالحبر والبياض فضلا عن نقط الحذف كذلك حيث حذف عنوة ستة أسطر شعرية في القصيدة المدروسة أعلاه واضعا محلها نقط حذف..إن كتابة البياض هنا تدل على أن قارئ الحبر دون بياضه وحذفه قارئ أعمى.
ثالث مظهر ساخر على مستوى السخرية اللفظية هناك تهجين اللغة وتلويث صفائها المقامي. تلويث جعل القصيدة مصبا تلتقي فيه الدارجة باللغة العربية المعربة بالفرنسية بالأمازيغية.ففي ديوانه المعرب:»فيضان الثلج»تتسلق جدران القصائد مقاطع شعرية تنتسب للزجل الزنجي(تكنويت).حيث يقول في قصيدة»العودة من القيامة»ص20:
سيدي ضرب لالة
لالة ضربت الخادم
الخادم ضربت مبارك
مبارك بقى عادم.»
إن الانتقال من نسق لغوي إلى آخر كالانتقال من المعرب إلى الدارج يصاحبه التحول من بنية تنتج المعنى بالحركة الإعرابية إلى بنية تنتج المعنى بالسياق.. وهذا في حد ذاته سخرية من صنمية الأنساق على اعتبار أن الشعر طقس وجودي خاص وكيمياء تفاعلية من الأحاسيس ورؤية العالم بشكل جديد أكثر منه لغة فقط..إن هذه الانتقالات سنجدها معكوسة في الدواوين الزجلية لأحمد لمسيح حيث أن اللغة الحاضنة هي الدارجة واللغات المحضونة هي العربية المعربة والفرنسية المدرجة كورود مفردة: السيكاتريس(ص166/ج1)تكوانسى(ص168/ج1)البانضي (ص191/ج1)الفلاش(ص223/ج1)دون نسيان ورود مقاطع أمازيغية كما في قصيدة»تودرت في نعاسي»ص22من ديوان «أنا ما كاينش».
رابع مظهر ساخر لفظيا هو الأصوات الساخرة من رزانة اللغة وجديتها المزعومة .أصوات تقوم على اللعب بالحروف والأصوات متحررة من الإجماع حول معنى محدد سلفا..وهو ما وقع في قصيدة»شكون طرزالما».يقول الشاعر في ص17:
«واحد اعطاه ارزيق
ومضى ليه العريق
يبيتو ف غوير ضيق
البوشونات ما تسمع غير باق باق
يضرب الجلد طاق طرطلاق
واللي تفنفن يعطيه صرملاق.»
وفي ذات الاتجاه تحضر شذرة فرنسية في قصيدة «توحشت راسي»ص212.يقول الشاعر:
Tu exagères
Tu es nihiliste
C est ça la vie, depuis Adam.
Mais toi ,tu as dans la tète des guerres
Et des paroles sont comme un tam-tam.
إن تجاور أصوات مماثلة بقدر ما تخلص الشاعر من مفردات جاهزة وذات معان متفق عليها مسبقا..بقدر ما تعطي إيقاعا مخصوص للجملة الشعرية بل وتسخر من الجاهز مروضة الأصوات لدرجة جعلها تدل بأريحية على وفرة من المعاني .فحرفا «الطاء» و»القاف»..يحيلان في ذات الآن على صوت الصفع والتصفيق كما قد يحيلان على آلة الطبل .هذه الأداة الملتبسة من حيث الوظيفة حيث تستعمل لحظة الفرح كما لحظة الاستعداد للحرب..وبالإضافة لهذا الملمح هناك التلاعب بالمفردات من خلال تقديم أو تأخير الحرف للسخرية من إحالتها الدلالية كما فعل الشاعر مع كلمة «مخزن «و أرجعها مخنز..أو تلك المفردات المنحوتة والدالة على تمرد أو تأفف الشاعر من بعض الجهات المدعية كما ورد في قصيدة»المكانة»حيث وردت كلمة»النموقراطية(ص92)»إن هذه الرؤية العبثية والسريالية التي يواجه بها الكاتب العالم،هي نتيجة طبيعية لانهيار الأحلام الكبيرة وتفاقم الشعور باللاجدوى.ذلك أن السخرية هنا أصبحت أداة معرفة وأداة إدانة.»(6)
2-2سخرية الموقف:
تتأسس سخرية الموقف على مفارقات الأحداث والوقائع وتنافر عنصرين سياقيين وتعارض فعلين متلازمين..ففي قصيدة»هي التي تحرضني»من ديوان»رياح.. التي ستأتي»يسخر الشاعر من رابطة الدم..والقاعدة العربية أخلاقيا تتحدث عن»أنا وابن عمي على الغريب»يقول في ص13:
«الدم ما ينفع الدم
والضحكة ولات سم
عيطت عيطة واحد دابرو الهم
فاقو الدياب ونعسو ولاد العم.»
الموقف هنا يقتضي نصرة أبناء العمومة للشاعر لكنه أصيب بالخذلان دون أن ينكسر من موقف مماثل.. وللإستقواء على موقف شبيه لم يكن أمام الشاعر من خيار سوى سخرية الموقف أعلاه.وفي ذات الاتجاه تسير قصيدة»تجاعيد فجر بلادي»من نفس الديوان.يقول الشاعر ص34:
«صوروني على الثلج بالفاخر
وبالما على الرمل كتبو اسمي
وغناو يانانان يانانان
وغنيت أنا...أنا أوليدي
هي ..هي جاية تحمار وتخضار
أنا وليدي
هي..هي جاية قايدها عمر.»
في هذه القصيدة يتم تقديم طرفين في حالة تعارض سياقي وهما:أنا الشاعر /وهم الخصوم.دون أن يصرح الشاعر بهوية الطرفين..لكن الإحالات اللغوية تقودنا لمعرفة طرفي المعادلة.فالقرينة النصية»وغناو يانانان»جملة تحيل على طرب الآلة كغناء مخصوص للطبقة الأرستقراطية بالمغرب..طبقة نافدة الحضور على واجهة الأحداث اليومية والدال اللغوي على حضورها»يانانان»المحيلة لغويا ?وبشكل ساخر-على تضخم مرضي لضمير المتكلم الجمعي(أنا الطبقة الأرستقراطية).لكن الشاعر لتبخيس الخصم بل وقتله رمزيا وظف ضمير الغائب/الجمع النكرة(هم-غناو يا نانان) لكن بالعودة إلى الشاعر نجده يتغنى بالعيطة»أنا وليدي»والعيطة هي الغناء المفضل عند الطبقات الشعبية وهنا يتم رسم تقابل ضدي بين الأنا والهم دون الإفصاح الصريح عن هوية طرفي التضاد في القصيدة..
في قصيدة «حبات»من ديوان «أنا ما كاينش» يستثمر الشاعر موقف تقابل الصمت مع الكلام والبصر بالعمى ليخلص إلى أن غياب العضو أو الأداة لا يقصي الوظيفة.يقول في شذرة ص36:
«زين الكلام بالصمت
راك تكول
زين النظر بالعمى
راك تشوف.»
إن شذرة بهذا العمق تحمل قارئها على إعادة النظر في البديهيات وتأمل حقيقة الأشياء ووظائفها.فالسخرية بهذا المعنى تتجاوز سقفها البلاغي لتصل إلى حيز تاريخ الأفكار والتأمل الفلسفي.والمثال الموالي دال على هذا الزعم.فالماء كأداة للوضوء تخلى عن وظيفته التطهيرية وأضحى مفتقرا هو بنفسه للنقاوة.يقول الشاعر في قصيدة»وضي ماك»ص61:
«وضي ماك
سقي به حروفك.»
التعارض المقامي هنا بين وظيفة الفاعل التي استحالت إلى مفعول به تمثلت في تحول صورة الماء المطهر إلى سائل مفتقد للطهارة ..و أضحت الحروف دون سقي باطلة وعاجزة عن إنتاج المعنى.وبالتالي تحول الكتابة إلى صلاة يلزمها الكثير من الإيمان لحيازة رضى اله الشعر.
إن سخرية بهذا العمق تصير ممتلكة لعنف صدمة إدراكية من خلال تنسيب الحقائق بواسطة إشعال نار السؤال والدهشة.. تضرب بعنف إعصار محيط منتجة قارئها الخاص لأنها لا تقول سوى جزء من الحقيقة وتحتفظ بالجزء الثاني للمستقبل.وعلى حد تعبير الفيلسوف كيكجرد»:إن المتهكم يحصل على لذة عندما لا يتم فهمه،أكبر من تلك التي يحصل عليها عندما يتم فهمه،وكأنه فهم يقيد حريته في التهكم أو يقلل منها.»
إحالات:
*الصفحات الواردة داخل متن المقاربة تحيل على صفحات الأعمال الزجلية لأحمد لمسيح.(الأجزاء الثلاث)منشورات وزارة الثقافة.2011.
1 -Philipe Hamon .Stylistique de l ironie.in Qu? est ce que le- style..Ed.puf.paris.p148.
Beda Alleman.l ironie en tant que principe littéraire.in poétique. Coll. Flammarion1964.p15.-2
3- لمسيح أحمد.فيضان الثلج.دار قرطبة للطباعة والنشر.1986.ص62.
4-لمسيح أحمد.أنا ما كاينش.البوكيلي للطباعة والنشر.2013.ص11.
5-شاكر عبد الحميد.الفكاهة والضحك.مجلة عالم المعرفة.عدد289 2003.ص100.
6-الزموري محمد.شعرية السخرية في القصة القصيرة.مطبعة أنفو-برانت2007.ص109..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.