باحثة: الضحك يقدر يكون وسيلة واعرة لعلاج الناس    عندها الزهر لي كيهرس الحجر.. مرا ربحات 2 مرات فالقمر فقل من 3 شهر    دعوة من بيت الذاكرة لترسيخ التنوع الثقافي من أجل إشاعة قيم السلام    الإنتحار أزمة نفسية أم تنموية    سيدات مجد طنجة لكرة السلة يتأهلن لنهائي كأس العرش.. وإقصاء مخيب لسيدات اتحاد طنجة    الأرشيف المستدام    اعتصامات طلاب أمريكا...جيل أمريكي جديد مساند لفلسطين    العفو الملكي    شحنة كبيرة من الكوكايين تستنفر أمن طنجة    رأي حداثي في تيار الحداثة    دراسة مواقف وسلوكيات الشعوب الأوروبية تجاه اللاجئين المسلمين التجريد الصارخ من الإنسانية    دراسة أمريكية: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    طقس الإثنين.. أجواء حارة وأمطار خفيفة ببعض مناطق المملكة    التضامن يعلو مجددا في طنجة .. مسيرة للتذكير بمأساة غ.زة    دراسة حديثة تحذر المراهقين من تأثير السجائر الإلكترونية على أدمغتهم    يوسف النصيري دخل تاريخ إشبيلية مع أحسن 10 هدافين دازو عندهم    النصيري يعاقب "غرناطة" بهدف جديد    رئيس جمهورية غامبيا يستقبل المدير العام للإيسيسكو في بانجول    الفيدرالية المغربية لناشري الصحف تنتقد تدبير قطاع الاتصال..وتنبه لوضعية المقاولات الصغرى والجهوية    الزمالك يحدد موعد الوصول إلى بركان    "عكاشة" يكذب محاولة "تصفية سجين"    حسنية أكادير تنفي حصولها على منحة 15 مليون من الرجاء    المغربي اسماعيل الصيباري يتوج بلقب الدوري الهولندي رفقة إيندهوفن    البرتغالي گيريرو غايب على البايرن فماتشها ضد الريال    نتانياهو سد "الجزيرة" فإسرائيل    النقابة الوطنية للعدل تدعو إلى إضراب وطني بالمحاكم لثلاثة أيام    نتنياهو يريد بقاء حماس في السلطة، "ودوافعه الخفية كُشفت" – جيروزاليم بوست    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    "فنون شعبية على ضفاف درعة".. وثائقي يسلط الضوء على التحولات التي شهدتها فنون زاكورة (فيديو)    وزارة الثقافة تسعى لحماية "شباب التيكتوك" من الانحلال الأخلاقي    فيلم "من عبدول إلى ليلى" يفوز بالجائزة الكبرى لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط        مؤتمر القمة الإسلامي يؤكد رفضه التام للمخططات الانفصالية التي تستهدف المس بسيادة الدول    وصل لأعلى مستوياته التاريخية.. التداول النقدي فات 400 مليار درهم    موجة حر مرتقبة بمناطق في المغرب    المغربية آية العوني تتوج ببطولة أنطاليا لكرة المضرب    جواد مبروكي: الحمل والدور الحاسم للأب    منظمة تدعو لفتح تحقيق في مصرع عامل بمعمل تصبير السمك بآسفي    لشكر زعيم الاتحاد الاشتراكي: الشعب الجزائري يؤدي الثمن على دفاع نظامه على قضية خاسرة والعالم كله يناصر مغربية الصحراء    قتلى ومفقودون جراء فيضانات البرازيل    المغرب يسحب أول دفعة من قرض 1.3 مليار دولار من صندوق النقد الدولي    المكتب الوطني المغربي للسياحة غيربط غران كاناريا بورزازات مع شركة بينتر للطيران    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    نشرة إنذارية.. موجة حر مرتقبة من الثلاثاء إلى الجمعة بعدد من مناطق المملكة    "نوستالجيا" تحصد جائزة الجم للمسرح    حقيبة يد فاخرة بسعر سيارة .. استثمار ذو وزن    برنامج دعم السكن ومشاريع المونديال تنعش قطاع البناء خلال اوائل 2024    برلماني يسائل وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات..    هل زيادة 1000 درهم في الأجور قادرة على مواكبة نفقات الأسر المغربية؟    ڤيديوهات    الفنان الجم يكشف حقيقة إشاعة وفاته    وضعية الماء فالمغرب باقا فمرحلة "الإنعاش".. نسبة ملء السدود وصلت ل32 فالمية وبدات فالتراجع    قلعة مكونة تحتضن الدورة 59 للمعرض الدولي للورد العطري    طنجة.. مهرجان "هاوس أوف بيوتيفول بيزنيس" يرفع شعار الإبداع والتلاقح الفني    الأمثال العامية بتطوان... (589)    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض مني
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 25 - 07 - 2012

في شهر رمضان من عام 1970 طلب مني الكاتب العام للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني الأستاذ محمد الطاهري القيام بجولة تفقدية على فروع الجمعية في منطقة الجنوب المغربي ، فذهبت إلى مدينة أسفي ومنها إلى مدينة مراكش ثم إلى أكادير وتارودانت ، ذهبت برفقة أحد طلبتنا واسمه بكر أبو بكر بسيارة مكتب المنظمة وهي من نوع فولكس فاغن .
في مدينة آسفي كان لنا لقاء مع كاتب فرع الجمعية السيد محمد البركة وأمين مالها السيد محمد بن الطالب الفلكي ، حيث أعدّا لي لقاء مع السيد عبد الرحمن الشقوري الذي كنت أعرفه جيدا بحكم أن الأخ نبيل الرملاوي متزوج من إبنة أخيه ، وكان رئيسا لجمعية مصبّري الأسماك في المغرب . وقد قمت معه بجولة على أرباب معامل التصبير وجمعنا حوالي أربع مئة ألف درهم . كما أعدّا لي لقاء مع السيد باكا الذي كان رئيسا لجمعية ربابنة سفن الصيد ، وقمت معه بجولة على الربابنة وجمعنا قرابة مائتي ألف درهم .
في مدينة مراكش أصيب الأخ بكر بتوعك صحي ناجم عن هبوط نسبة السكر في دمه فنصحه الطبيب بعدم الصيام ، وكان كاتب فرع الجمعية آنذاك الأستاذ الحبيب الفرقاني وهو عالم فقيه وشاعر فقال له أن الحديث النبوي الشريف يقول ( إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يؤخذ بعزائمه ) ، فأفطر الأخ بكر. وصلنا إلى مدينة أكادير قبيل الظهر واجتمعنا مع الأخ محمد الوثيق كاتب فرع الجمعية باكادير ، وقبل أن نتوجه إلى مدينة تارودانت دخلنا أحد الفنادق وتوجهنا إلى المطعم مباشرة ، حيث كان عدد من السياح الأجانب يتناولون غداءهم . جاءنا نادل المطعم وسألنا بالفرنسية عما نريد أن نأكل ، فقلت له بأن زميلي نصراني ويريد أن يتغدى ، فسألني وماذا تريدني أن أحضر له ، هنا تكلم الأخ بكر باللغة العربية ليحدد ما يريد أكله ، وفورا سمعت نادل المطعم يصرخ في وجهي قائلا : كيف تقول أنه نصراني وها هو يتحدث بالعربية ؟ فقلت له انه عربي ولكن ديانته نصرانية . فقال لي : كيف يمكن أن يكون نصرانيا وهو عربي ؟ وطلب منا مغادرة المطعم قبل أن يحضر لنا الشرطة . فاضطررنا للخروج ، وكان هذا درس لي بأن عموم الناس في المغرب ترتبط لديهم العروبة بالإسلام .
توجهنا إلى مدينة تارودانت والتقينا بالأستاذ الفقيه عمر المتوكل الساحلي أحد مؤسسي الجمعية وأحد قادة العمل الوطني في المنطقة ، وبحثنا معه بشأن تشكيل فرع للجمعية في تارودانت . ورغم إلحاحه علينا بالبقاء في تارودانت والإفطار والمبيت عنده ، فإننا اعتذرنا له بكوننا مرتبطين مع الأستاذ الحبيب الفرقاني بمراكش للإفطار عنده والقاء محاضرة بعد الإفطار. في مخرج مدينة تارودانت وجدنا لافتتين إحداهما تؤشر الى مدينة أكادير والثانية تؤشر إلى مدينة مراكش عبر منطقة تيزي نتاست ، وعندما حسبنا المسافات وجدنا أننا إذا ذهبنا مباشرة إلى مراكش سنوفر أكثر من مائة وخمسين كيلومترا ، فقررنا أخذ الطريق المباشرإلى مراكش دون أن نستفسرعن طبيعة وحالة الطريق .
كانت الساعة حوالي الثانية والنصف ظهرا فقدّرنا أننا سنصل إلى مراكش قبل الإفطار ، وهنا انطبق علينا المثل المغربي القائل ( ما تمشي غير فين ما مشّاك الله ) . كانت بداية الطريق عادية ، ولكنها شيئا فشيئا بدأت تضيق وتتحفّر وتصعد ، وبدأنا نصادف صخورا متساقطة من الجبال حيث توجد لافتات على جانبي الطريق تحذر من تساقط الصخور . بدأ الليل يتسلل مع بداية تها طل الأمطار ثم اشتد نزولها مما جعل ماسحات الزجاج تعجزعن مسح الماء . وهكذا احتجنا لأربع ساعات وربع لنقطع الطريق الواصلة بين قرية ايجو كاك وبلدة اسني التي تبلغ تسعة وستين كيلومترا فقط .
في هذه المسافة صادفنا سائقي شاحنات متميزين عمن ألفناهم من سائقي الشاحنات ، فقد كانوا محترمين جدا ، يرون أضواء سيارتنا فيبحثون عن مقطع عريض من الطريق يقفون فيه ليفسحوا لنا المجال لنمر بيسر . وقبل أن نصل إلى بلدة اسني فوجئنا بسيل جارف يقطع الطريق مما اضطرنا إلى التوقف ، فلاحظنا على الضفة الأخرى من السيل مجموعة من الناس يجتمعون حول نار ، ثم تقدم نحونا أحدهم وهو يحمل قنديلا فحيّانا وقال لنا بأن علينا إما أن نبيت في مكاننا حتى الصباح ، أو أن نسوق السيارة بسرعة الغيار الأول ونتبعه وسط السيل حيث سيمر بنا عبر المنطقة الأسلم للعبور ، فاخترنا أن نتبعه وأن نسير كما قال حتى اجتزنا السيل وأوقفنا السيارة وترجّلنا لنسلّم على الجماعة .
كانت الشمس قد غابت منذ أكثر من ساعة فقالوا لنا : من المؤكد أنكم لا زلتم صائمين وأعطونا بضع حبات من التمر وكأسين من الأتاي ، وطمأنونا بأن صعوبات الطريق قد أوشكت على الإنتهاء ، حيث لم يبق للطريق الجيدة التي تبتديء من بلدة اسني سوى بضعة كيلومترات . وهنا فكرت بطريقة تبيّنت خطأها لاحقا ، إذ فكرت بأن عليّ أن أعطي الشخص الذي أرشدنا لعبور السيل شيئا من النقود ، وبمجرد أن وضعت يدي في جيبي سمعته يصيح بي بلغة عربية مكسّرة ? حيث أن المنطقة يسكنها الأمازيغ : ماذا ستفعل ؟ نحن هنا لا نأخذ أجرا على عمل الخير ، إنك تريد أن تحرمنا من ثواب الله . فأخذت أعتذر إليه وأشكره على ما فعل . وكان هذا هو الدرس الثاني لي في هذه الرحلة ، حيث تيقنّت بأن المغرب لا زال بألف خير .. فأهل البوادي كانوا وقتها يشكلون أكثر من ثلاثة أرباع السكان ، فما دامت هذه هي قيمهم وأخلاقهم فالمغرب بألف خير .
كانت خاتمة الرحلة طريفة ، فما أن وصلنا مدخل بلدة اسني حتى أوقفنا حاجز للدرك الملكي وتقدم أحد أفراده نحوي وقال لي : هل انت واصف منصور ؟ هنا ارتبكت وخشيت من حدوث ما لا أحب ، فمن أين عرف هذا الدركي إسمي ؟ فلما أجبته بنعم ، اتصل بجهة ما بواسطة جهاز اللاسلكي الذي كان في سيارتهم ، وسمعته يقول : ياسيدي وجدنا الشخص المفقود وسيتوجه الآن إلى مراكش . فاستفسرت الدركي عن الأمر فقال بان قيادة الدرك الملكي ببلدة أسني تلقّت إشارة من قيادة الدرك بمراكش تفيد بأن سيارة من نوع فولكس فاغن على متنها شخصان أحدهما يدعى واصف منصور ، من المقرر أن تصل إلى مراكش قبل الإفطار لكنها لم تصل رغم أن الساعة وصلت التاسعة ليلا ، مما يعني احتمال تعرضها لخطرما. تابعنا طريقنا إلى مدينة مراكش لنجد عند مدخلها الأخ أبو جاسم/ مسؤول العمل الفلسطيني في مدينة مراكش ، والأخوة الحبيب الفرقاني وأحمد الخرّاص ومحمد ثابت وبعض أعضاء مكتب الجمعية ، فاستقبلونا بلهفة ولامونا على مجيئنا عبر طريق تيزي نتاست التي لم أعبر في حياتي طريقا أصعب منها حتى الآن .
وسأتوقف قليلا عند الآستاذ الفقيه عمر المتوكل الساحلي الذي هو رمز من رموز الثقافة العربية الإسلامية في جنوب المغرب رغم أنه أمازيغي قح . ففي أوائل التسعينات كنت في أكاديرصحبة الأخوات فاطمة بلمودن وأمينة أوشّلح وفتيحة سداس لإلقاء سلسلة من المحاضرات مع القطاع النسائي في حزب الإتحاد الإشتراكي ، وعلمت صدفة بأن قبائل الجنوب تقيم احتفالا خاصا لتكريم الاستاذ الساحلي في مدينة تيزنيت مسقط رأسه . توجهت والأخوات فورا نحو تيزنيت فوجدنا حشدا يضم عشرات آلاف الأشخاص بعضهم على قدميه والبعض الآخر يركب خيلا أو جمالا، يتجمعون وسط الساحة الرئيسية للمدينة . زاحمت الناس حوالي ساعة حتى وصلت إلى حافة المنصة التي يجلس عليها الأستاذ الساحلي والخطباء ، فرآني ولداه محمد ومصطفى فأسرعا إليّ وأصعداني إلى المنصة وأجلساني بجانب الأستاذ .
ألقيت كلمة في المهرجان وألقى الكثيرون كلماتهم وقصائدهم بالعربية والأمازيغية ، ثم تقدمت مجموعة من شيوخ القبائل بمنظر مهيب ، يلبسون جلابيب بيضاء وفوقها برانس ويتقلدون خناجر معقوفة ويغطون رؤوسهم بعمامات بيضاء أو سوداء ، وقدموا للأستاذ سيفا فضيا مكتوب عليه إسمه . تناول الأستاذ الكلمة لبضع دقائق حيث أن صحته بدأت تعتلّ ، وقال في ختامها إنه يشكر القبائل على هديتهم ولكنه يستأذنهم في أنه سيقدمها لي لأسلمها للمجاهد القائد ياسرعرفات ليضعها في المسجد الأقصى ، رمزا لإخوة الشعبين المغربي والفلسطيني ولجهادهما المشترك . ولمحض الصدفة فقد حضر الأخ ياسرعرفات إلى المغرب بعد بضعة أيام وسلمته الهدية ، فبكى وقال : هذا فأل خير ودليل على أننا لا بد وأن ننتصر بإذن الله .
هناك طرق وعرة كثيرة في المغرب ولكن بدرجة أقل من طريق تيزي نتاست ، ويوجد كثير من هذه الطرق في منطقة الريف بشمال المغرب . وتتجلى خطورة هذه الطرق في فصل الشتاء ، حيث يغطيها ضباب كثيف يجعلك لا ترى أبعد من خمسة أمتار ، وقد تشهد أمطارا غزيرة تتحول إلى سيول تجرف كل ما تصادفه من تربة وأشجار ومواشي وأكواخ ، وتخلف خسائر مادية فادحة وخسائر بشرية ليست قليلة .
كنت ذات يوم بصحبة الأخ مصطفى عيد في مدينة الحسيمة حيث ألقيت محاضرة هناك في ذكرى إنطلاقة الثورة الفلسطينية ، وأردت أن أعود ليلا إلى مدينة الناظورالتي يعمل فيها الأخ مصطفى حيث كنت مرتبطا بإلقاء محاضرة صباح اليوم التالي ، مع أن عامل الإقليم السيد سعيد المذكوري أخبرنا بأنه حجز لنا غرفتين في الفندق . خرجنا ليلا والأمطار تتهاطل ولكنها ازدادت غزارة لدرجة أنها محت معالم الطريق ، وسقت السيارة متتبعا خط وجود الأشجار على جانبي الطريق . ورغم أن الأخ مصطفى لا يغلق فمه في الأحوال العادية ، إلا انه ظل ساكتا طيلة الوقت ولم يتكلم سوى مرة واحدة عندما استبدّ به الخوف من سقوط سيارتنا في أحد الأودية السحيقة ، فسألني هل نحن في الاتجاه الصحيح ؟ وهل نحن سائرون على الطريق العام ؟ . وفي الحقيقة أن حالي لم تكن أفضل من حاله ، لكنني تغلبت على خوفي بقراءة كل ما أحفظه من القرآن الكريم .
وذات يوم كنت بصحبة الأخ خضر حاطوم في مدينة الناضور بسيارة الفولكس فاغن السالفة الذكر، وقضينا في المنطقة عدة أيام زرنا خلالها معظم قرى وبلدات المنطقة . وقد لفت نظري أن معظم البيوت التي دخلناها تحتوي على صور للأمير عبدالكريم الخطابي وللرئيس جمال عبد الناصر إلى جانب الصور الأخرى المعلقة. وبعد أن القينا عددا من المحاضرات ، أخذنا طريقنا إلى الرباط مرورا بمدينة كرسيف ، وساعدنا ضوء النهارعلى التغلب على وعورة الطريق . وصلنا إلى مدينة تازة بعد الظهر ، فدخلنا مطعما وتغدينا وارتحنا بعض الوقت ثم تابعنا سيرنا إلى مدينة فاس لنكمل الطريق إلى الرباط . كانت الطريق بين مدينتي فاس وتازة جبلية كثيرة التعرجات فكنا نسير ببطء شديد جعل الشمس تغيب ونحن لازلنا في منتصف الطريق . كان منظر وجو الطريق يثير الرهبة في النفوس ، وزاد من رهبته حديث الأخ خضر عما سمعه من جدته وهو صغير من قصص الجن والغول وغيرها .
كانت هذه الأحاديث وكأنها تمهيد لمشاهدة أحد أفلام الفريد هتشكوك المرعبة .إ ذ فجأة وبينما نحن نسير نزولا ، لاح لنا من بعيد شبح إمرأة وسط الطريق العام ، وبدا لنا شعرها منفوشا ويداها ممدودتين تسدّان الأفق . كان الأخ خضر هو الذي يسوق السيارة فأبطأ سيره حتى توقف وقال لي : ما هذا الذي نرى ؟ وكيف سنتصرف ؟ ورغم أنني لا أؤمن بالخرافات إلا أنني احترت في تفسيرما تراه عيناي .
هنا تذكرت أمرا كنت قد نسيته ، تذكرت أنني أحتفظ معي في السيارة بالمسدس السالف الذكر. فأخرجت المسدس وجهّزته لإطلاق النار ، وطلبت من الأخ خضر أن يتشجّع ويمشي الهوينى لنقترب أكثر فأكثر لنتحقق مما نرى . ولما صرنا على بعد حوالي ثلاثين مترا وأضواء السيارة العالية مسلّطة على الشيء الذي رأيناه ، ظهرت لنا امرأة تلبس جلبابا وتلوّح بيديها لنا لنقف ونأخذها .
طلبت من الأخ خضر أن يمشي على جانب الطريق المحاذي للجبل مما يجعل المرأة في مواجهتي ، وأشهرت مسدسي لإطلاق النار على ذلك الشيء إذا استدعى الأمر. سرنا حتى وصلنا قرب المرأة وسمعتها تبكي وتتوسل أن نأخذها معنا . وبلمح البصر أوقفنا السيارة ونزلت وفتحت الباب ودفعت المرأة داخل السيارة وانطلقنا بسرعة كبيرة ، تحسبا من وجود كمين وملاحقته لنا .
ظلّت المرأة أكثر من ربع ساعة صامتة ، ولما ابتعدنا كثيرا عن مكانها السابق أطلقت تنهيدة طويلة وحكت حكايتها . قالت أنها من منطقة الخميسات ، وقد تعرف شقيقها على شخص من هذه المنطقة كانا يشتغلان معا في ورشة للأشغال العامة ، فاستضافه ذات يوم ورآها فطلبها للزواج فزوّجها أهلها له دون أن يكلفوا أنفسهم عناء السؤال عنه . وقد سكن وإياها في بيت أهلها إلى أن انتهى العمل في الورشة ، فأخذها وذهب بها عند أهله . هناك اكتشفت أنه متزوج من إبنة خالته وله منها أولاد وبنات ، وقالت أن أمه وزوجته الأولى وأبناءه وبناته كانوا يضربونها يوميا ويجوّعونها ويعاملونها كخادمة ، وقالت أن زوجها لم يكن يدافع عنها .
في تلك الليلة كان هناك عرس في القرية ، ذهبت كل العائلة إليه وتركوها لتحرس الدار. استقر رأيها على الهرب والنزول إلى الطريق العام المؤدي إلى مدينة فاس . قطعت الطريق الجبلية الصخرية التي تزيد عن عشرة كيلومترات في الظلام الدامس جريا ولم تتوقف إلا عند بلوغها الشارع في المكان الذي وجدناها فيه . فسألناها وماذا ستفعلين في فاس ؟ فقالت إن لها أختا متزوجة وتسكن في فاس وأنها تعرف كيف تصل إلى عنوانها . أوصلناها إلى وسط مدينة فاس وأعطيناها شيئا من الدراهم وأكملنا طريقنا إلى الرباط .
في أواخر ستينات القرن الماضي وفدت علينا بالرباط شخصيتان غريبتان ، أولهما غريبة في شكلها وملكاتها وممارساتها ، والثانية غريبة في كيفية وصولها إلينا . فقد وفد إلينا طالب عراقي إسمه قتيبة ، له وجه طفولي وطيبة متناهية وسذاجة تصل حدّ البله ، وله جسم يكاد يصل المئة وخمسين كيلوغراما مما يجعله يسير متمايلا وبسرعة السلحفاة .
علمنا بعد مدة ممن عرفوه في العراق واسبانيا أن أباه ضابط كبير في الجيش العراقي ومن الضباط الأحرار الذين ساهموا في ثورة عبدالكريم قاسم عام 1948 ، وأنه ظل بدون أطفال قرابة عشر سنين من الزواج وتعالج عند أمهر الأطباء وتناول مختلف أنواع الأدوية والمقوّيات إلى أن رزقه الله بهذا الطفل ، الذي أفرح والديه وكل عائلتهم ومعارفهم رغم ما يبدو عليه من بلاهة . وعلمنا أنه حصل على شهادة البكالوريا في فترة ما سمي ( الزحف المقدس ) ، حيث أنه كان في سنة البكالوريا عندما قامت ثورة عبد الكريم قاسم في 14 تموز / يوليوز عام 1958 ، فلم تجر إمتحانات في تلك السنة ، وتم ترفيع كل الطلاب إلى الأقسام الموالية ، مما أدى إلى إعطاء كل طلبة سنة البكالوريا شهادة نجاح تتيح لهم دخول الجامعات .
ونظرا لنفوذ أبيه وقدرته المالية فقد أرسله ليدرس في إسبانيا ، وبعد أن أمضى بضع سنين في الجامعات الإسبانية دون أن يتمكن حتى من تعلم اللغة الإسبانية ، استمع لنصيحة أحد معارفه بالذهاب إلى المغرب ليجرب حظه باللغة العربية . جاء إلى المغرب في العام الدراسي 1967/1968 وأمضى عدة سنوات دون أي نجاح مما اضطر السفارة العراقية إلى وضعه قسرا على متن إحدى طائرات الخطوط الجوية العراقية وشحنه إلى العراق .
من طرائف الأخ قتيبة أنه سكن مع بعض الطلبة المشارقة ، استطاعوا أن يطلعوا على رسالة أرسلها له والده ردا على رسالة منه يقول فيها بأنه سينجح هذا العام ، تقول رسالة الوالد بأنه مستعد لأن يرسل له كل ما يطلبه على شرط أن لا يعود إلى بغداد إلا حاملا معه شهادة ولو في الطبخ ، وكتب له ممازحا ( إذا نجحت هذا العام ، فستكون أفضل حمار يمشي تحت سماء بغداد ) مما يبيّن أن والده لا يريده أن يعود للعراق لكيلا يسبب له الخجل والإحراج .
ويروي الأخ صالح أبوجزر الذي استضافه في مدينة ابن سليمان التي كان يعمل مدرسا فيها ، يروي أنه عندما حضر عنده إلى المدرسة ورآه المدير قال لصالح : هل هذا قريبك ؟ فلما أجابه بنعم قال له ( مادام عندكم بشر كهذا، فيكف انتصرعليكم الاسرائيليون ؟ ). ويروي أيضا أنه ذات صباح قال لقتيبة : يا أخي إن نومك مزعج ، فبالأمس ظللت تتقلب إلى أن وقعت عن السرير . فقال قتيبة ولكنني عندما صحوت وجدت نفسي فوق السرير ، فقال صالح : لقد حملتك ووضعتك على السرير. فقال قتيبة : أن أسقط عن السرير فهذا أمر ممكن ، ولكن أن تحملني أنت وحدك وتعيدني إلى السرير فهذا مستحيل .
والشخصية الثانية شاب فلسطيني إسمه يوسف أبو جزر ? من أبناء عمومة الأخ صالح . دخل علينا في مكتب منظمة التحرير بالرباط فجأة عام 1968 ، فبهت صالح ولم يصدق عينينه فاحتضنه مطولا وأخذه إلى بيته. هناك حكى لصالح كيف أنه خرج من بيتهم في قرية ( معن ) بمنطقة خان يونس بقطاع غزة بعد إحتلاله من قبل الصهاينة ، خرج دون أن يخبر أحدا إلى أين هو ذاهب ، ولم يكن يحمل معه أية أوراق ثبوتية وقليلا جدا من النقود . أخترق الحدود الفلسطينية المصرية ثم الحدود المصرية الليبية فالحدود الليبية التونسية والحدود الليبية الجزائرية وأخيرا الحدود الجزائرية المغربية. استعمل كل أنواع المواصلات ، ابتداء من القدمين وانتهاء بالتسلل في القطارات .
ودون الدخول في التفاصيل ، أبلغ الأخ صالح أهله بوصول يوسف إلى المغرب وطلب منهم إرسال كل ما يلزم من شهادات ووثائق ، وبعدما وصلت الشهادات ومن بينها شهادة البكالوريا التي حصل عليها فتم تسجيل يوسف في كلية الحقوق . وانكبّ يوسف على الدراسة حتى حصل على الإجازة في الحقوق دون أي تعثرودون مغادرة نطاق مدينة الرباط حيث منزل الأخ صالح ، ذلك أنه لم يتمكن من الحصول على بطاقة الإقامة التي يتعيّن على غير المغاربة أن يحصلوا عليها ، بسبب كونه لايتوفر على وثيقة أو جواز سفر، ودخل المغرب متسللا .
كان من الطبيعي أن يغادر يوسف المغرب بحثا عن عمل في بلد آخر، بسبب عدم إمكانية حصوله على عمل في المغرب للأسباب السالفة الذكر . ولكن كيف سيسافر وهو لا يحمل أية وثيقة سفر ولا بطاقة إقامة ؟ هنا تدخل الأخ أبومروان مدير مكتب منظمة التحرير بالرباط ، وذهب عند الأستاذ أحمد بن سودة وكان حينها مديرا للديوان الملكي ، وقدّم خدمات جلّى للقضية الفلسطينية ، فأخبره بوضعية يوسف من بدايتها إلى نهايتها . اتخذ الأستاذ بن سودة موقفا يسجّل له ، إذ أنه اعتبر يوسف مثالا للشاب الطموح المكافح ، وعمل على منحه وثيقة سفردولية ( ليسي باسيه ) مكّنته من السفر إلى إحدى الدول العربية التي اتفقنا مع مكتب المنظمة فيها على تدبر أموره فيها .
وعلى ذكر بطاقات الإقامة فمن الأمور المحيّرة في المغرب أن معظم رجال التعليم الفلسطينيين الذين أكملوا الستين من عمرهم وتقاعدوا ، إختاروا أن يقضوا بقية عمرهم في المغرب ، وتزوجوا مغربيات ويحمل أبناؤهم وأحفادهم الجتسية المغربية دون أن يحصلوا هم عليها ، ولا زالوا مضطرين سنويا لتجديد إقامتهم وتقديم ملف يتضمن سبعة وثائق لذلك . يحدث هذا رغم أن العديد من الصحف المغربية نشرت مقالات تطالب بتصحيح هذه الوضعية ، ورغم أنني تحدثت مع كثير من مسؤولي الدولة الكبار في الموضوع ووعدوا بمعالجته . هذا مع العلم أن بعض الأجانب يحصلون على إقامات دائمة أو لمدة عشر سنوات أو خمس ، وعندما فاتحت بعض المسؤولين المغاربة قالوا لي إنهم يطبقون مبدأ ( المعاملة بالمثل )، مع أن هذا الأمر لم يحدث لنا مع مغاربة يريدون الإقامة في فلسطين حتى نستفيد من هذا المبدأ .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.