وزيرة المالية تدعو لتعاون دولي لمكافحة الهجمات السيبرانية    موسكو تعزز علاقاتها التجارية والاقتصادية مع المغرب    القمة العربية الإسلامية الطارئة تجدد التضامن مع الدوحة وإدانة الاعتداء الإسرائيلي على سيادة قطر        أمن أولاد تايمة يحجز أزيد من 60 مليون سنتيم ومواد تستعمل في أعمال الشعوذة    النقابة الوطنية للتعليم العالي ترفع سقف التصعيد ضد مشروع قانون 59.24    طالبت بإطلاق سراح المعتقلين المرتبطين بالحراك الاجتماعي .. الكتابة الإقليمية بالحسيمة تحمل المسؤولين والقطاعات الوصية تبعات ونتائج ما آل إليه الإقليم من فوضى واحتقان وتراجع تنموي    المغرب يستضيف كأس العرب لكرة القدم النسوية في شتنبر 2027    القمة العربية: العدوان الإسرائيلي على قطر يقوض فرص السلام في المنطقة    بالفيديو.. وزير الصحة يتكفل ب"رضيعة أكادير" ويقرر نقلها إلى مراكش    المنتخب المغربي لكرة الطائرة ينهزم أمام نظيره الكيني    ولاية أمن أكادير تفتح بحثا لكشف ظروف وملابسات انتحار ضابط شرطة ممتاز بواسطة سلاحه الوظيفي    المغاربة يواصلون تصدر الجاليات الطلابية الأجنبية في فرنسا بنحو 42 ألف طالب    المغاربة على رأس قائمة الجاليات الطلابية في فرنسا    بوصوف يكتب.. رسالة ملكية لإحياء خمسة عشر قرنًا من الهدي    نتنياهو يهدد باستهداف قادة حماس "أينما كانوا" بالموازاة مع استضافة قطر القمة العربية الإسلامية    القيمة السوقية لشركة "ألفابت" تصل إلى 3 تريليونات دولار لأول مرة        انعقاد مجلس للحكومة يوم الخميس المقبل    تداولات بورصة البيضاء تنتهي بخسارة    إسبانيا تدعو إلى منع إسرائيل من المشاركة في المسابقات الدولية "طالما الهمجية مستمرة" في غزة    الاحتجاجات على تردي الوضع الصحي بأكادير تصل إلى البرلمان.. ومطالب للوزارة بتدخل عاجل    مونديال طوكيو… البقالي على موعد مع الذهب في مواجهة شرسة أمام حامل الرقم القياسي    الملك محمد السادس يدعو لإحياء ذكرى 15 قرناً على ميلاد الرسول بأنشطة علمية وروحية    منظمة الصحة العالمية تتجه لدعم تناول أدوية إنقاص الوزن لعلاج السمنة    أمير قطر: إسرائيل تتفاوض وتغتال    من 10 إلى 33 درهما.. تفاصيل الزيادة في رسوم التحويلات البنكية    غياب أكرد عن مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    "المجلس العلمي" يثمن التوجيه الملكي    جلالة الملك يهنئ السلفادور بمناسبة عيدها الوطني    مصرع شخصين إثر تحطم طائرة صغيرة غرب ألمانيا    العرائش.. العثور على جثة شخص بغابة الأوسطال في ظروف غامضة    «أصابع الاتهام» اتجهت في البداية ل «البنج» وتجاوزته إلى «مسبّبات» أخرى … الرأي العام المحلي والوطني ينتظر الإعلان عن نتائج التحقيق لتحديد أسباب ارتفاع الوفيات بالمستشفى الجهوي لأكادير    الحُسيمة.. أو الخُزَامىَ مَدِينَة العِطْر حيثُ تآخَت الشّهَامَةُ والتّارِيخَ    توقعات أحوال الطقس لليوم الاثنين        رسالة ملكية تدعو للتذكير بالسيرة النبوية عبر برامج علمية وتوعوية    طنجة تستعد لتنظيم مهرجانها السينمائي الدولي في نسخته 14    الملك محمد السادس يدعو إلى برمجة أنشطة علمية للتذكير بالسيرة النبوية        الداخلة.. ‬حجز ‬6,‬8 ‬طن ‬من ‬الأسماك ‬واعتقال ‬12 ‬شخصاً:    "الأصلانية" منهج جديد يقارب حياة الإنسان الأمازيغي بالجنوب الشرقي للمغرب    الملك محمد السادس يدعو العلماء لإحياء ذكرى مرور 15 قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    البطولة الاحترافية لكرة القدم.. بداية قوية للكبار وندية من الصاعدين في أول اختبار    الرقم الاستدلالي للإنتاج الصناعي والطاقي والمعدني خلال الفصل الثاني من 2025.. النقاط الرئيسية    السفينة المغربية "علاء الدين" تنطلق مع أسطول الصمود نحو ساحل غزة    فيلم "مورا يشكاد" يتوج بمدينة وزان    المصادقة بتطوان على بناء محجز جماعي للكلاب والحيوانات الضالة    النقابة الوطنية للتعليم العالي ترفض مشروع قانون 59.24 وتلوّح بإضراب إنذاري    أبرز الفائزين في جوائز "إيمي" بنسختها السابعة والسبعين    الكلمة أقوى من الدبابة ولا مفر من الحوار؟    مهنيو نقل البضائع يتهمون الحكومة ب"التخلي" عن القطاع وتجميد الحوار    طريق الناظور-تاوريرت بحلة جديدة.. مشروع استراتيجي يمهد الطريق لميناء الناظور غرب المتوسط            المهرجان الدولي لسينما الجبل بأوزود يحتفي بالاعلامي علي حسن    كوريا تؤكد أول حالة إصابة بأنفلونزا الطيور شديدة العدوى هذا العام    بعقْلية الكسل كل أيامنا عُطل !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إريك رولو و كواليس الشرق الأوسط
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 07 - 08 - 2013

هناك بعض الأحداث التي لا تُنسى. و من بينها ذلك العشاء الذي أعده سفير الجزائر بالقاهرة، السيد الأخضر الإبراهيمي، في فبراير 1969. فخلاله تعرفت لأول مرة على المؤسسين الرئيسيين لحركة «فتح»، على رأسهم ياسر عرفات، و الذين كانوا يقومون بداهة بعملية علاقات عامة. أتخيلهم من جديد اليوم، جالسين حول مائدة بيضاوية طويلة، و أكتشف بأنهم في معظمهم قد انتهوا ضحايا عمليات «اغتيال انتقائية» نفذتها الأجهزة السرية الإسرائيلية.
في اليوم الموالي، كان على حركة فتح و المنظمات الفدائية الأخرى أن تملأ «القوقعة الفارغة» لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد إقالة رئيسها، أحمد الشقيري، صنيعة الجامعة العربية و الأداة الطيعة للرئيس المصري جمال عبد الناصر. كان ذاك عهد جديد ينفتح: فعلى منظمة التحرير الفلسطينية أن تتحرر من سيطرة «الأشقاء» العرب، و إرساء قواعد مقاومة أصيلة تطمح إلى تعبئة الفلسطينيين، المُحبَطين بسبب سلبية و دماغوجية زعمائهم السابقين من جهة، و إلى جلب تعاطف و مساندة الرأي العام الدولي من جهة ثانية.
كان مضيفنا، الأخضر الإبراهيمي، وزير الشؤون الخارجية الجزائري المقبل و الممثل الشخصي للأمين العام الأممي بعد ذلك، قد دعا إلى هذا الاجتماع سفراءَ الدول العربية الرئيسية، الذين كانوا، على غرار الصحفيين الإثنين الحاضرين، يتوقون للتعرف على هؤلاء الذين التزموا - بعد هزيمة الجيوش العربية الكارثية سنة 1967 - ب»تحرير فلسطين». أعطى الأخضر الإبراهيمي الكلمة تباعا إلى القائدين الرئيسيين، ياسر عرفات و أبو إياد، اللذين سأنسج معهما علاقات وطيدة طيلة ارتحالاتهما المتعددة.
قام ياسر عرفات، و هو أول من تكلم، بعرض استراتيجية حركة المقاومة الفلسطينية الأهم. كان الرجل مُثيرا بتصريحاته كما بشكله الفيزيقي. فقامته القصيرة كانت تتباين مع بدلة الميدان العسكرية زيتونية اللون، التي كان يرتديها و كذا مع المسدس المعلق غمده في خاصرته (الذي لم يستخدمه تقريبا أبدا طيلة حياته). بينما كانت كوفيته ? رمز أصوله العربية- تتناقض مع سلوكاته المدينية. فالمهندس خريج جامعة فؤاد الأول بالقاهرة، المهاجر للكويت، قد اشتغل في خدمة الإمارة قبل أن يصبح مقاولا ثريا في الأشغال العمومية يقود سيارة رياضية حمراء قانية. فيما كانت النظارات السوداء، كبقية من بقايا العمل السري، و اللحية غير المشذبة تعكسان صورة الغواري الكامل. كان رفاقه يتحدثون إليه بإسمه الحركي «أبو عمار» أو يتحدثون عنه بلقب «الختيار» (الشيخ). كان بالكاد في الأربعين من العمر حينها، بينما كان محدثوه في الثلاثينات من أعمارهم يمحضونه الحب و الاحترام. لقد كان زعيما قبل الأوان، بما أنه لن يُنتخب رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلا في اليوم الموالي.
توجه إلي عرفات بالحديث فورا، بلهجة عربية ممزوجة باللكنة المصرية ، التي طالما حاول التخلص منها دون أن ينجح ، مع أن مواطنيه لم يلوموه على ذلك أبدا. و بالرغم من لقاءاتنا المتعددة، فإن الزعيم الفلسطيني كان يتفادى الحديث عن ارتباطاته بوادي النيل. فوالداه كانا بالفعل من أصول فلسطينية، و كان يحرص على تذكيري بأن والدته تنتمي لواحدة من العائلات المقدسية العريقة التي تميزت بمقاومتها للاحتلالات المتوالية، و هي عائلة الحسيني المنحدرة بدورها من العائلة النبوية، و بذلك فقد كانت تحظى بالاحترام المزدوج.
و إذا كان يتحدث بافتخار عن أصوله، فإن ياسر عرفات لم يقبل أبدا كونه وُلد بالقاهرة، و أن جدته لأبيه كانت مصرية، مثلها في ذلك مثل زوجتي أبيه المتتاليتين، اللتين أشرفتا على تربيته بعد وفاة والدته. كان والده، التاجر، قد هاجر إلى العاصمة المصرية لأسباب اقتصادية سنة 1927، أي سنتين قبل ولادة الزعيم المقبل. و قد ارتاد الشاب ياسر المؤسسات المدرسية المصرية، و عمل في نزع الألغام من منطقة قناة السويس في بداية الخمسينات، خلال معركة المتطوعين المصريين ضد المحتل البريطاني، ثم عمل في سنة 1956 ، في صفوف الجيش المصري، الذي كان يقاوم الغزو الإسرائيلي-الفرنسي-البريطاني، رُقي بعد ذلك إلى رتبة ملازم و ظل ضابط احتياط. و رغم هذه الهوية المزدوجة، فقد كان يتصرف كوطني فلسطيني متحمس.
في واحدة من الاعترافات النادرة التي باح بها للمؤرخة نادية بنجلون التي سألته سنوات طويلة بعد ذلك، قال أنه لم يتحصل على «الفهم السياسي للتواجد الصهيوني في فلسطين إلا قبيل حرب 1948»، التي شارك فيها بشكل هامشي و كان في التاسعة عشر من عمره حينها. و بعد نهاية النزاع، لم يُخطط لمواصلة الكفاح من أجل القضية الفلسطينية. و لم يبرز نداء النضال داخله إلا بعد سنة على ذلك، حينما رفضت جامعة «طكساس» الأمريكية طلبه الانتساب إليها فقرر مواصلة دراسته بجامعة القاهرة.
فور بدء العشاء، قدم لنا الخطوط العريضة للاستراتيجية التي من المفترض أن تتبناها منظمة التحرير الفلسطينية في الغد، بعد انتخابه على رأس المركزية الفلسطينية. فبنبرة انتصارية، أعلن ياسر عرفات للضيوف أن هدف المنظمة هو إنشاء «دولة موحدة و دمقراطية» على مجموع تراب فلسطين التاريخية، يعيش فيها جميع اليهود،مهاجرين أم لا، في تناغم مع مواطنيهم العرب، مسيحيين و مسلمين، و هذا عكس سياسة سلفه أحمد الشقيري، الذي لم يذكر إسمه، الداعي إلى إعادة اليهود الذين قدموا بعد سنة 1917 لبلدانهم الأصلية («رميهم إلى البحر» حسب التأويل الإسرائيلي).
كان عرفات يسعى بشكل ظاهر إلى التأثير على سامعيه بإعلان القطيعة مع خطاب تقليدي مُعاد للأجانب. فأمام استغراب الحاضرين صاح عرفات : « آه لو كان بإمكان اليهود و الفلسطينيين أن يتوحدوا، فعبقرية الشعبين و الموارد المادية و الثقافية تكفي للقضاء على أنانية و فساد و خداع معظم الأنظمة العربية». كان مقتنعا بأن السفارديم (اليهود الشرقيين.م) سيكونون أول من ينضم لمشروعه ، أليسوا «يهودا عربا» و «إخوة توائم» للفلسطينيين، بثقافتهم و عقلياتهم؟ ألم يُعانوا من الميز الذي يمارسه «الأشكناز» ضدهم؟ و عكس هؤلاء ، ألم يعيشوا في سلام في بلدانهم الأصلية؟ (و قد تطلب منه الأمر عدة سنوات كي يتخلى عن أوهامه حول عقلية اليهود الشرقيين).
لم يكن من اليسير عليه و على رفاقه، تبني مثل هذه الاستراتيجية، فقد أثارت هذه الأخيرة غيض الإسرائيليين، الذين لم يروا فيها محاولة للتعايش السلمي ، بل اعتبروها إرادة لتدمير دولتهم. كما تسبب المشروع في معارضة قوية ضمن الفلسطينيين، الذين رأوا من المهين لهم التعايش مع «المستوطنين» «غاصبي وطنهم». لكن الغضب تصاعد خصوصا في صفوف الإسلاميين، الذين لم يتأخروا في اكتشاف أن «الدولة الدمقراطية» المُتصورة، ستكون أيضا ذات طبيعة علمانية. و قد أكد لي زعماء من حركة فتح أن الأمر كذلك بالرغم من أنه لم يتم ذكر كلمة «علمانية». و ذكروا بهذا الصدد بأن القومية العربية، منذ ميلادها داخل الامبراطورية العثمانية، كانت علمانية في أعماقها من الناحية العملية، كما تشهد بذلك كتابات مُنظريها و قادتها،مسيحيين و مسلمين. و قد بلغ سُخط الإسلاميين أوجه حينما اطلعوا على الميثاق الوطني الذي تبنته منظمة التحرير الجديدة، الذي يتضمن تمجيدا «للقيم الدينية» دون توضيح للديانات. و قد ظل هذا التجديد الجريء فريدا من نوعه في العالمين العربي و الإسلامي إلى اليوم.
و مع ذلك، فقد كان ياسر عرفات مسلما مطبقا يحترم شعائر الإسلام حرفيا. و لم تكن تصريحاته و لا تصرفاته طيلة حياته تتسم بأية أحكام مسبقة دينية أو عنصرية. و كان مُحاطا بمساعدين مسيحيين، و ارتبط بعلاقات ممتازة مع القادة المسيحيين من منظمات فلسطينية منافسة، لذلك فإن زواجه بسُهى، المنتمية للكنيسة الإغريقية-الأورثودوكسية، لم يُفاجئ أحدا. كما كان أساقفة مختلف الكنائس الشرقية، الذين يُكنون له التقدير و الإعجاب، يقومون بزيارته مرارا، في حين أن بعض القساوسة، الذين انضموا للمقاومة، قد اتُهموا ب»الإرهاب».
و لم يكن الرجل الذي يصفه بعض القادة الإسرائيليين ب»هتلر الجديد» يكن أي عداء تجاه اليهود، الذين تآلف معهم منذ شبابه الأول. فأثناء احتضانه من طرف خاله بالقدس عقب وفاة والدته، يحكي أنه كان يلهو مع أطفال اليهود قرب حائط المبكى، الذي كان يسكن بجواره، في إقامة عائلة الحسيني (التي دمرت من طرف الجيش الإسرائيلي غداة حرب 1967 لتهيئة فضاء واسع لاستقبال المؤمنين). كما أُتيحت له الفرصة، مراهقا أو راشدا، للالتقاء مع يهود هليوبوليس، بالضاحية القاهرية حيث كان يقيم عادة عند والده. و هكذا تعلم ، فيما يبدو، بضع كلمات عبرية سمعته ينطق بها بمناسبة لقاءاته مع إسرائيليين، من بينها «شالوم» (السلام) و «شانا طوفا» (سنة سعيدة). و قد كان لدي الانطباع بأن معرفته باللغة العبرية تفوق ذلك. كما كان يفهم الفرنسية أكثر مما يزعم.
بعد شهرين على لقائي الأول به، كانت لي فرصة التحاور بالقدس مع الجنرال «يهوشافات هركابي»، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، المؤرخ المستعرب الذي أعد أطروحة الدكتوراه حول أيديولوجيا الحركة الفلسطينية، و الذي كان يبغُض عرفات إلى أبعد الحدود. و خلال هذا الحوار صرح لي : «لقد قرأت كل المقالات المنشورة من طرف حركة فتح في جريدة «فلسطيننا» منذ ظهورها سنة 1959 حتى زوالها سنة 1964، و لم أعثر فيها على أي موقف مُعاد للسامية». و قد وصلت بدوري إلى نفس الخلاصة باطلاعي شخصيا على مجلدات الجريدة، التي حصلتُ عليها بصعوبة شديدة. و قد كانت هذه الخلاصة مثيرة للاستغراب خاصة و أن طرح «المؤامرة» اليهودية كان رائجا في المنشورات التي تُراقبها الحكومات العربية، مبررة بذلك - لا شك - هزيمتها المُخزية في حرب 1948 .
خلال مأدبة العشاء لدى الأخضر الإبراهيمي، جذب انتباهي القاموس الذي يستعمله ياسر عرفات: فقد كان يتفادى ما أمكن الإشارة إلى مواطني الدولة العبرية ب»الإسرائيليين» أو «اليهود»، مُفضلا شجب «العدو الصهيوني». و قد دأب على ذلك في لقاءاتنا التالية. و فهمت في النهاية أنه كان يريد الإشارة من جهة إلى عدم اعترافه بإسرائيل، و من جهة ثانية إلى أن النزاع لم يكن عنصريا و لا دينيا، كما يعتقد بذلك الكثيرون داخل الرأي العام الإسرائيلي و العالمي. و في هذا المستوى أيضا، أقام عرفات القطيعة مع الزعماء الفلسطينيين السابقين، الذين كانوا يخلطون بين اليهود المهاجرين لإسرائيل و بين يهود الشتات، صهاينة كانوا أم لا، مُدخلين بذلك نوعا من العداء للسامية داخل العالم العربي. و سيستمر هذا اللبس بسبب زعم إسرائيل تمثيل مجموع الشعب اليهودي، و بسبب التضامن الذي تحظى به من طرف مؤسسات تعتبر نفسها ناطقة باسم كافة اليهود. و في مناسبة أخرى، شرح لي عرفات أن التعايش بين الشعبين يعود إلى عصور تاريخية قديمة، و استشهد بمثال داوود، الذي نجا من الموت بلجوئه عند الفلسطينيين، أجداد فلسطينيي اليوم حسب روايته. و تجاهل مع ذلك التذكير بأن داوود نفسه بعد أن أصبح ملكا لليهود قد حارب الفلسطينيين، و قتل الآلاف من بينهم. لكن هذه لم تكن أول و لا آخر انتقاءاته الخادعة.
فبحركة مسرحية، توجه إلي عرفات بالكلام خلال العشاء قائلا: « إذا وافقت على إنشاء دولة لا طائفية، فإني أمنحك فورا بطاقة الانتساب لحركتنا». و لم يكن الأمر مزحة، بما أنه فتح أبواب منظمة التحرير الفلسطينية إلى الإسرائيليين الذين رغبوا في الانضمام للمقاومة الفلسطينية، و مُعظمهم من صفوف اليسار المتطرف اللاصهيوني. و قد شغل أحدهم، «إيلان هالفي»، و هو مثقف فرنسي-إسرائيلي، من والدين يهوديين شيوعيين و مقاومين خلال الحرب العالمية الثانية، عدة مناصب مسؤولية متتالية، من بينها نائب وزير الشؤون الخارجية في السلطة الوطنية الفلسطينية، و ممثل منظمة التحرير الفلسطينية لدى الأممية الاشتراكية، و كذا لدى اللجنة الأممية لحقوق الإنسان. كما ضم المجلس الوطني الفلسطيني (برلمان منظمة التحرير) كأعضاء ملاحظين حاخامات أورثودوكسيين، يعتبرون لا شرعيا قيام دولة يهودية قبل ظهور المسيح. و غداة اتفاقيات أوسلو سنة 1994، استقطب عرفات يهوديا فرنسيا من أصل مغربي، «غابرييل بانون»، كي يجعل منه مستشاره الاقتصادي الرئيسي. و طبقا لهذا التقليد، سينتخب خلفاء عرفات سنة 2009 ، لعضوية المجلس الثوري لحركة فتح إسرائيليا من معسكر السلام، «أوري دافيس»، الذي كان يقول دائما عن نفسه أنه «فلسطيني ناطق بالعبرية».
ظل ياسر عرفات وفيا لقناعاته حتى خلال أحلك الأحداث المأساوية، مثل مجزرة مخيمي صبرا و شاتيلا بلبنان، و التي أودت في سبتمبر 1982 بمئات من القتلى و الجرحى. إذ تم ذبح النساء و الرجال و الأطفال و الشيوخ دون أدنى تمييز، و طوال ثلاثة أيام متتالية، بسادية لا مثيل لها. و قد كان «أرييل شارون» وزير الدفاع الموجود على مدخل المخيمين على رأس وحدة من الجيش الإسرائيلي، الشاهد السلبي و ربما صاحب فكرة هذه المجزرة التي اقترفها حلفاؤه، الكتائبيون اللبنانيون. استقبلني ياسر عرفات بعد المجزرة في مقر قيادته بدمشق، حيث انسحب بعد طرد الفدائيين الفلسطينيين من طرف الجيش الإسرائيلي. كان وجهُه شاحبا و الدموع تكاد تنط من عينيه، و بصوت مخنوق و نشيج محبوس قال خلال الحوار الذي ستنشره صحيفة «لوموند» : «إن شارون و بيغن (رئيس وزراء إسرائيل) ليسا يهوديين، إنهما فاشيان»، و استطرد مُشيدا بتأثر ب»مئات الآلاف من الإسرائيليين» الذين تظاهروا في شوارع تل أبيب، معبرين عن غضبهم ضد تصرف جيشهم. كما لم يُخف مرارته العميقة حين علم أن اليهود الشرقيين، في أغلبهم، لم ينضموا إلى المحتجين. و علمتُ فيما بعد أنه تبنى ثمانية و عشرين رضيعا نجوا من المجزرة، ذكورا و إناثا منحهم إسمه و هيأ لهم وسائل ضمان مستقبلهم.
و في معرض حديثه عن جانب ثان من استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية، خلال مأدبة العشاء عند الأخضر الإبراهيمي، أشار عرفات بنبرة حماسية أن الكفاح المسلح وحده يُمكن أن يقود إلى إنشاء الدولة الموحدة في فلسطين. و صرح بأنه مُقتنع بأن الفدائيين سيتوصلون إلى احتلال قطع متتالية من التراب الإسرائيلي «قل أن يصلوا لضفاف البحر المتوسط». حينها، سألته متشككا، على أي أساس يبني مثل هذه اليقينيات، فأجابني: «مواطنونا، المطرودون من وطنهم، لن يقبلوا أبدا أن يتحولوا إلى هنود حُمر للمحتلين الصهاينة»، و مُخففا من تصريحه الانتصاري أضاف : «لن أستغرب إذا ما اضطُر أبناؤنا إلى مواصلة المعركة». و بعد ذلك بعشر سنوات، باح لي أبو إياد، الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية، باعتراف هام: لم يكن عرفات و صحبُه يؤمنون كثيرا بقدرتهم على «تحرير فلسطين بالسلاح». فقد قال متذكرا: «في نهاية الخمسينات، حين أنشأنا تنظيمنا، كنا متأثرين جدا بحروب التحرير الوطنية في العالم الثالث، في الجزائر و في الصين و كوبا و فيتنام حيث - كما يقول عرفات- انتصرت السردينة على الحوت الضخم». كنا نقرأ بنهم مؤلفات «ريجي دوبري» و «فرانتز فانون». و كان «غيفارا» واحدا من إيقوناتنا...»
الحلقة المقبلة :
الرجل الذي لا يبتل تحت المطر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.