فتح بحث قضائي حول تعرض بعض المواطنين المغاربة للاحتجاز من طرف عصابات إجرامية ناشطة بميانمار    المشروع العملاق بالصحراء المغربية يرى النور قريبا    روسيا تسيطر على 3 بلدات جديدة والمعركة مستمرّة    زعيم المعارضة في إسرائيل: عودة الرهائن أهم من شن عملية في رفح    "تسريب أسرار".. تفاصيل إقالة وزير الدفاع الروسي    الجيش والمولودية يكملان ركب المتأهلين إلى نصف نهائي كأس العرش    أخنوش يلتقي الرئيس العراقي والارتقاء بعلاقات البلدين في صدارة المباحثات    تعزيز التعاون القضائي محور مباحثات السيد الداكي مع نائب وزير العدل الصيني    الحسيمة.. درك النكور ينهي نشاط مروج مخدرات مبحوث عنه وطنيا    يعالج حموضة المعدة ويقي من الاصابة بالسرطان.. تعرف على فوائد زيت الزيتون    النيابة العامة تدخل على خط احتجاز مغاربة بميانمار    خلال أربعة أشهر.. كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي بميناء العرائش يصل ل6177 طنا    جامعة كرة القدم تصدر عقوبات تأديبية    الجيش يتأهل لنصف نهائي كأس العرش    قمصان جديدة ل"أديداس" بلمسة مغربية    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و 2033    "بلومبيرغ": المغرب يُثبت أسعار الفائدة بينما يُواجه الفاتورة الباهضة لإعادة إعمار الزلزال    وزير النقل يعلن عن قرب إطلاق طلبات العروض لتوسيع مطارات طنجة ومراكش وأكادير    وزير الفلاحة يفتتح الدورة الثالثة للمنتدى الدولي للصناعة السمكية بالمغرب    شركة تنفي استعمال الغاز والتسبب في اختناق عشرات التلاميذ بالدار البيضاء    تعبئة 10 ملايين درهم لإعادة استعمال المياه العادمة المعالجة لسقي المساحات الخضراء بمدينة الحسيمة    "فايننشال تايمز": واشنطن تشجع المغرب ودول عربية على الانضمام إلى "القبعات الزرق" في غزة    الجيش الملكي يقتنص تأهلا مثيرا لنصف نهائي كأس العرش على حساب أولمبيك الدشيرة    الأمثال العامية بتطوان... (599)    رئيس سلوفاكيا في حالة حرجة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال    سفر أخنوش يؤجل اجتماع المجلس الحكومي    انتخاب المحامية كريمة سلامة رئيسة للمرصد المغربي لمكافحة التشهير والابتزاز    "الحج والعمرة السعودية" توفر 15 دليلًا توعويًا ب16 لغة لتسهيل رحلة الحجاج    النصيري على رادار مدرب إشبيلية السابق    ما حاجة البشرية للقرآن في عصر التحولات؟    بعثة المنتخب الوطني المغربي النسوي لأقل من 17 سنة تتوجه إلى الجزائر    إضراب كتاب الضبط يؤخر محاكمة "مومو" استئنافيا    وسط "تعنت" ميراوي .. شبح "سنة بيضاء" بكليات الطب يستنفر الفرق البرلمانية    تطوان تستضيف الدورة 25 للمهرجان الدولي للعود    مدينة محمد السادس طنجة تيك تستقطب شركتين صينيتين عملاقتين في صناعة مكونات السيارات    إلزامية تحرير الجماعات الترابية من « أشرار السياسة »    النقابة الوطنية للتعليم fdt وضوح وشجاعة لاستشراف المستقبل        التويمي يخلف بودريقة بمرس السلطان    وفاة "سيدة فن الأقصوصة المعاصر" الكندية آليس مونرو    دراسة: صيف 2023 الأكثر سخونة منذ 2000 عام    "الصحة العالمية": أمراض القلب والأوعية الدموية تقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    جمعية علمية تحذر من العواقب الصحية الوخيمة لقلة النوم    دراسة: الحر يؤدي إلى 150 ألف وفاة سنويا على مستوى العالم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على أداء سلبي    قصيدة: تكوين الخباثة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    زنيبر: رئاسة المغرب لمجلس حقوق الإنسان ثمرة للمنجز الذي راكمته المملكة    الرئيس السابق للغابون يُضرب عن الطعام احتجاجا على "التعذيب"    رجوى الساهلي توجه رسالة خاصة للطيفة رأفت    معرض الكتاب يحتفي بالملحون في ليلة شعرية بعنوان "شعر الملحون في المغرب.. ثرات إنساني من إبداع مغربي" (صور)    وفاة عازف الساكسفون الأميركي ديفيد سانبورن عن 78 عاما    رسالتي الأخيرة    لقاء تأبيني بمعرض الكتاب يستحضر أثر "صديق الكل" الراحل بهاء الدين الطود    الأمثال العامية بتطوان... (598)    السعودية: لاحج بلا تصريح وستطبق الأنظمة بحزم في حق المخالفين    الأمثال العامية بتطوان... (597)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المناضل سعد الله صالح، يتذكر:النهر العنيد
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 09 - 07 - 2014

مثل كتاب قديم أتصفح أوراقه، شرعتُ أُقلب صفحات ماضي الشخصي ، صفحةً صفحةً. تسعفني الذكريات حينا و تتمنع علي في بعض الأحيان. غير أن إصراري لم يلن للعودة بذاكرتي إلى مداها الأبعد من أجل تسجيل أكثر ما يمكن من محطات، خاصة منها تلك التي وضعت بصماتها على طفولتي و صباي الأولين و كونت إحساسي الوطني وأثرت في كمُقاوم و رسمت مسار حياتي كمناضل إلى يومنا هذا من أجل تقدم و رفعة هذا الوطن. و قد تكون هذه المحطات، أحداثا وطنية عامة طبعت جيلا بكامله، مثل الأحداث الكبرى التي عرفتها بلادنا و هي ترزح تحت الاستعمار، أو تلك التي عاشتها بعد الاستقلال من صراع بين قوى التقدم المتطلعة لغد أفضل لجميع فئات الشعب المغربي و بين الرجعية المتحلقة حول النظام و المُتحالفة معه من أجل استنزاف خيرات البلاد و قمع العباد. كما قد تكون محطات و أحداث شخصية، تندرج في سياق الأحداث الوطنية الكبرى، بدءا من انضمامي للمقاومة المسلحة ضد الاستعمار إلى المشاركة في جيش التحرير بالجنوب إلى مشاركتي في بناء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية و الاتحاد الاشتراكي تاليا،و تأسيس النقابة الوطنية للتعليم و أداء ضريبة هذا النضال في السجون والمعتقلات منذ الستنات حتى أواخر سبعينات القرن الماضي بما في ذلك معاناة تجربة «الكوربيس» الفظيعة .
هذه المذكرات شهادة صادقة على الأحداث و الوقائع التي عشتها و التي شاركتُ فيها أو تلك التي سمعت عنها من أفواه أصحابها و صُناعها. و في كل هذا أنا واثق بأن حقائق كثيرة قد فاتني ذكرُها إما لأني لم أشهدها أو لأن دائرة النسيان قد ابتلعتها، و لكني فيما يلي لا أروي سوى الحقيقة و لله على ما أقول شهيد.
اعتبر عدد كبير من المغاربة بأن المغرب بحصوله على استقلاله سنة 1956، قد حقق مُبتغاه و حاز مُناه، و أن مهمة الوطنيين و المقاومين قد انتهت، و أن صفحة الاستعمار قد طُويت إلى غير رجعة، و أن جميع مشاكل البلاد و العباد ستجد حلا لها مع بزوغ فجر الاستقلال. و قد كان هذا خطأ كبيرا لأنه في الواقع لم يكن الاستقلال قد تحقق بالكامل، إذ أن عدة مناطق مغربية ظلت ترزح تحت الاستعمار الإسباني مثل الصحراء و سبتة و مليلية، كما أن العديد من أعوان الاستعمار - عوض أن ينالوا جزاءهم- قد عادوا مهللين لأولى مواكب الاستقلال و كأنهم هم من حقق هذا الإنجاز، فيما كانت الشقيقة الجزائر لا تزال تقاوم الاستعمار الفرنسي.
بيد أن سرعة الحصول على الاستقلال ، الذي تحقق بعد أقل من أربع سنوات على اندلاع المقاومة، و في وقت مبكر نسبيا لم تكن المقاومة - في نظري - تتوقع تحققه فيه، أدت إلى حصول نوع من الفوضى و التسيب استغله بعض الانتهازيين الذين لا علاقة لهم بالمقاومة، فطفقوا في اقتناء السلاح و التوجه نحو البوادي لابتزاز الأغنياء من الفلاحين و الضغط عليهم بشتى الطرق، من ضمنها اتهامهم كذبا بالخيانة، بدعوى جمع المساعدة المالية للمقاومة، و ذلك بعد الإعلان عن الاستقلال مباشرة.
بدأت أخبار مثل هذه الوقائع تصلنا تباعا إلى مكتب المقاومة الذي فتَحَته القيادة في منزل المختار السوسي رحمه الله الذي اقتنته منه المقاومة، و الذي كان يقع خلف صيدلية الديوري بشارع الفداء حاليا، و هو المكتب الوحيد للمقاومة. فأصدرت قيادة المقاومة بلاغا إلى جميع خلاياها و تنظيماتها بالمغرب تدعو فيه مسؤولي هذه الخلايا و التنظيمات إلى تسليم السلاح كي لا يتم استغلاله لغايات أخرى.
حينها كُلفتُ صحبة مجموعة من الشباب بالإشراف على مكتب المقاومة ذاك، من أجل استلام السلاح من أصحابه و إعداد جرد بالأسلحة و بلوائح المقاومين و بعمليات المقاومة التي أنجزوها. و كان المكتب عبارة عن بناية من طابقين، الطابق السفلي و به مرأب و مربض، فيما كان الطابق الأول يضم ثلاثة مكاتب و قاعة فسيحة، إضافة إلى سطح فوقي يضم غرفة واحدة و ساحة مفتوحة على الفضاء.
و كان أحد هذه المكاتب الثلاثة، التي كانت بالطابق الأول، مخصصا لقادة المقاومة مثل الفقيه البصري أو بنسعيد أيت إيدر أو بوشعيب الدكالي، و كان في الغالب مُغلقا لا يُفتح إلا عند حضور هؤلاء القادة أو أحدهم. و كان المكتب الثاني يضم مكتبي و مكتب حسن الساحلي و مكتب محمد سبيل، أما القاعة الكبرى فكانت توظف كقاعة انتظار بالنسبة للوافدين من المقاومين الذين كانوا يقصدون المكتب لتقديم أسلحتهم أو طلباتهم أو هما معا.
كان المقاومون المسؤولون عن الخلايا يأتون بأسلحتهم فنسجلها و نسجل نوعيتها و أرقامها التسلسلية، و نمنح أصحابها توصيلا باستلامها. و بعد ذلك نُسَلمها نحن بدورنا إلى المسؤولين المباشرين، بعد تصنيفها و انتقاء الصالح منها و فرزه عن المتقادم المتهالك. و كان أغلب هذه الأسلحة عبارة عن مسدسات مع قليل من الرشاشات و البنادق، إضافة إلى القنابل اليدوية و الذخائر أيضا. و حسب علمي فإن معظم هذه الأسلحة، و الصالح منها على الخصوص، كانت توجه إلى جيش التحرير الذي بدأ تحركه في تلك الآونة نحو الجنوب لاستكمال تحرير البلاد.
و بالموازاة مع عمليات استلام الأسلحة و جردها، كنا نسجل أسماء أفراد خلايا المقاومة و التنظيمات التي تنتمي إليها، و إذا لم تخُني الذاكرة فإن المغرب برُمته كان يضم حوالي 42 مسؤولا، و كان لكل مسؤول خليتان أو ثلاث خلايا مقاومة على الأكثر.
و إلى جانب عملية الجرد و التسجيل هاته، كنا نستقبل، داخل المكتب، بعض المقاومين الراغبين في الحصول على وظائف، ففي ذلك الوقت كان هناك اتفاق بين قيادة المقاومة و الحكومة على توظيف المقاومين في سلك الشرطة أو في الداخلية كقواد أو باشوات أو خُلفان كل حسب مؤهلاته و كفاءاته. و هكذا كنا نتلقى هذه الطلبات و ندرسها و نُصنفها و نقدم لوائح بأسماء المرشحين لمناصب بعينها، و كان أفراد القيادة المتوجهون للعاصمة يأخذون معهم باستمرار قائمة من هذا النوع، قصد اتخاذ القرار الملائم بشأنها. و بالفعل تم توظيف عدد كبير منهم في مختلف المناصب التي تؤهلهم مستوياتهم العلمية لها، أما الذين كانت مستوياتهم الثقافية متواضعة أو منعدمة فقد كانوا يُمنحون مأذونيات (كَريمات) لمساعدتهم على العيش الكريم من خلال مدخولها.
بيد أن ما كان يحصل عمليا هو أن اللوائح التي كنا نُعدها و نقدمها، كان يُرفض تلبية طلبات معظم أفرادها لأسباب كنا نراها واهية، وعلمنا فيما بعد أن أفرادا آخرين، كان يتم تسجيلهم باعتبارهم مقاومين- رغم أن لا علاقة لهم بالمقاومة - و يستفيدون من بعض الوظائف أو المأذونيات، و بهذا تم تعويم المقاومين الحقيقيين في بحر لجي من الذين لا يربطهم بالمقاومة أي رابط لا من قريب و لا من بعيد. و هذا ما ستكون له أوخم العواقب فيما بعد على المقاومين و على التاريخ الحقيقي للمقاومة.
و إذا كانت معظم خلايا المقاومة و منظماتها قد انضبطت لقرار القيادة العليا السابق ذكره ، فوضعت السلاح و سلمته كما ذكرت، فقد كان هناك من بين المقاومين من رفض وضع السلاح و تمرد على هذا القرار. و النموذج الصارخ على هذا التمرد هو ما قامت به منظمة "الهلال الأسود"، التي رفضت الانصياع للقرار، مُحتمية بقوتها و مُتبجحة بها: " من هي هذه المقاومة؟ هي التي ينبغي أن تنضم إلينا و ليس نحن من ينضم و ينضبط لها..."
و قصة هذه المنظمة هي أنه كما قلت في السابق، كانت هناك عدة فرق للمقاومة تعمل بتنسيق مع بعضها من أجل هدف واحد هو الاستقلال. و من هذه الفرق منظمة "الهلال الأسود" التي كان مؤسسها و رئيسها هو محمد الحداوي و هو الذي كانت له علاقة بقيادة المقاومة و منسقها محمد الزرقطوني، لكن الذي حصل هو أن محمد الحداوي، صحبة رفيق له هو المزابي استشهدا في معركة جرت بسيدي معروف بين مجموعة يقودها الحداوي و فرقة من الجيش الفرنسي سنة 1953.
و باستشهاد محمد الحداوي - الذي كان هو المنسق - انقطع الاتصال بين "الهلال الأسود" و قيادة المقاومة. غير أن المنظمة لم تمُت، لذلك فقد اجتمع أعضاؤها و عينوا عبد الله الحداوي، شقيق محمد الأصغر، رئيسا لها. و كان عبد الله هذا صغير السن نَزقا.
و حين تحقق الاستقلال، و أصدرت قيادة المقاومة بلاغها الداعي لجمع السلاح، رفض عبد الله الحداوي هذا الأمر. و لم يكن هذا الرفض نابعا فقط من شعور بالقوة و التعالي و نزوع شبابي للتمرد، بل يبدو أنه كان نتيجة أيضا لتشجيع طرف ما بالرباط كي يستمر في معاداته و مواجهته للمقاومة و قيادتها، و ذلك خدمة لمخطط أكبر منه.
و لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل شرعت منظمة "الهلال الأسود" بقيادته في توسيع شبكتها و زيادة أعضائها، رغم أنه لم يعد هناك داع موضوعي يفرض هذا التوسع أو يتطلب هذه الزيادة. و بعد أن استنفدت قيادة المقاومة سُبُلَ الحوار معها و يئست من تراجعها، قررت اعتقال قادة المنظمة للتحقيق معهم و معرفة من يدفعهم في هذا الاتجاه.
و في هذا الإطار، كُلفتُ صحبة خمسة من المقاومين الشباب، بمراقبة عبد الله الحداوي و اعتقاله بدرب عمر، حيث كان ينزل عادة في فندق (دو سالي) الذي لا زال قائما لحد الآن. و قد مكثنا بهذه المنطقة، التي كانت آنذاك عبارة عن مركز تجاري نشيط و محطة طرقية في نفس الوقت، بضعة أيام نقضي سحابة يومنا في التجول و لعب "البلياردو" تمويها عن المهمة التي جئنا بخصوصها. و كان أحمد الطويل بطبعه حذرا كما أنه كان يملك شبكة من المخبرين لا شك أن أفرادها لاحظوا تحركاتنا، فما أن جاء حتى تم تطويق المنطقة بسيارات الشرطة، الأمر الذي دفعنا إلى الاختفاء و الخروج من الطوق كل بطريقته. و قد اختار أحد رفاقنا طريقة ذكية و ماكرة للتمويه، و هو الطاهر وقادا الموجود حاليا في بركان، إذ اقتنى عصا مكنسة من أحد المتاجر و بدأ يتمشى ببطء مستعينا بها و كأنه رجل كفيف، مما دفع أحد رجال الشرطة إلى مساعدته على اجتياز الطريق و الخروج من الطوق (و بسبب هاته الحادثة أصبح يلقب ب "الأعور")، أما أنا فقد صعدت إلى الحافلة المتوجهة إلى الكَارة فجلست قرب أحد معارفي رحمه الله، تحدثت معه قليلا ثم تركت له مسدسي أمانة أستعيدها منه حين أعود إليه، و هو الأمر الذي قمت به فعلا بعد أن هدأ الوضع و رفعت الشرطة حصارها.
ازدادت حدة الصراع، خاصة بعد حدوث اغتيالات غامضة لبعض المقاومين من أمثال الشهيد ابراهيم الروداني، الذي اغتيل رفقة شقيقيه و شخص ثالث من المارة، و شعيب الزيراوي رفيقه الذي اغتيل في درب البلدية و غيرهما .و أنا في هذا الصدد لا أجزم بمسؤولية عبد الله الحداوي في اغتيالهما لأن الوضع حينها كان يعرف انفلاتا أمنيا و فوضى شبيهين بما يقع اليوم في بعض بلدان الربيع العربي . في هذه الفترة راح عدد من المقاومين و المجاهدين ضحايا اغتيالات غامضة، تبودلت بشأنها الاتهامات لكن لم يتم الكشف عن الحقيقة حولها.
في هذه الظروف تقرر اعتقال عبد الله الحداوي بعد أن توصلت المقاومة بمعلومات حول عودته من الرباط في 29 يوليوز 1956، فتقرر وضع كمين عبارة عن حاجز أمني عادي في عين السبع عند المدخل الشمالي للدار البيضاء. و كان الحاجز محروسا من طرف رجال الشرطة و أيضا من طرف بعض المقاومين، و يبدو أن عبد الله الحداوي- حسب ما رُوي لي - لما رأى أحد المقاومين و توقع اعتقاله، سحب سلاحه من غمده لكن المقاوم كان أسرع منه فأطلق عليه وابلا من الرصاص أرداه قتيلا صحبة خاله الذي كان يقوم مقام السائق.
و المثال الآخر على الفلتان الأمني الذي كان يهدد البلاد ، هو ما قام به أحمد الطويل، الذي عينته المقاومة في الكوميسارية الثامنة، و كان مُشرفا على ضبط الأمن بالمنطقة. إلا أنه انتابه شعور بالزهو بقوته و سلطته حد العجرفة. و رغم أن قيادة المقاومة نبهته و أنذرته عدة مرات كي يحد من تصرفاته تلك، إلا أن عجرفته ازدادت و تعاظمت بشكل كبير، فاضطرت المقاومة إلى اتخاذ قرار بتنحيته لأنه لم يكن من النوع الذي يقبل الحوار أو النقاش.
و بالفعل أعطت القيادة الأمر بتنفيذ الإعدام، و هو ما تم في الطريق أثناء قدومه على متن حافلة "عريبات" و كان معه أحد لم أعد أذكر إسمه إلا أن أصله من المذاكرة و كان يملك محلا قرب سينما الأطلس. جاء هذا الشخص إلى مكتب المقاومة و نحن وقوف فأخبرنا باغتيال احمد الطويل و أن هذا الأخير كان ، و هو يحتضر، يردد : "رحال, رحال..." و هو يعني رحال المسكيني.
و بخصوص رحال المسكيني المقاوم الصلب، أذكر أنه بعد أن تم اختطاف الطائرة المغربية "إير أطلس" التي كانت تقل قادة جبهة التحرير الجزائرية المتوجهين من المغرب إلى تونس في 20 أكتوبر 1956، و مع ما استتبعته هذه العملية من تنديد و استنكار، خاصة و أن أصابع الاتهام وُجهت إلى بعض أعوان الاستعمار و بقاياه بالمغرب المستقل مثل أوفقير بالضلوع في هذه العملية، و هو ما بلغته قيادة المقاومة للملك محمد الخامس، فتم الاتفاق بين الطرفين على أن يتم تدريب مجموعة من المقاومين على عمليات الكوماندو، و ذلك للقيام ببعض العمليات الفدائية النوعية ضد فرنسا التي خرقت السيادة المغربية و مرغت هيبة الدولة المغربية الوليدة في التراب بتنفيذها عملية اختطاف الطائرة من الأجواء المغربية.
و لهذا الغرض تم اختيار أربعين مقاوما، كنت من بينهم، و كان رحال المسكيني رحمه الله أيضا أحدهم، إضافة إلى عشرين فردا من الاتحاد المغربي للشغل بهدف تكويننا على عمليات الكوماندو في قاعدة بن سليمان العسكرية.و بالفعل التحقنا بالقاعدة على متن حافلات نقلتنا ذات صباح حتى القاعدة. و حين تم تسجيلنا في سجلات الثكنة، سُجلنا بأسماء مستعارة و بعناوين مغلوطة، إذ وصلتنا تعليمات من قيادتنا بعدم ذكر أسمائنا الحقيقية و لا إعطاء عناويننا الحقيقية.
و إذا كان زَينا هو الزي الرسمي للجيش، إلا أن التكوين الإيديولوجي و التدريب العسكري الذي تلقيناه كان مختلفا تمام الاختلاف عما يتلقاه ضباط الجيش الملكي بالقاعدة. فقد كُنا نتلقى دروسنا النظرية في قاعة خاصة مغلقة. و كان مدربونا ضباطا من سوريا و من العراق و هم من كانوا يشرفون على تكويننا في استقلال كامل عن القيادة العسكرية للقاعدة.
كان برنامجنا اليومي يبدأ في الصباح الباكر حيث نستيقظ للشروع في الترويض البدني لمدة تفوق الساعتين و بعدها فقط نعود للإفطار، ثم نخرج إلى الغابة المحيطة حيث نتلقى الدروس النظرية بعيدا عن أعين أفراد الجيش النظامي. و حتى حين نتلقى هذه الدروس في الثكنة فإننا نتلقاها داخل القاعة المخصصة لنا و التي يتم إغلاقها بإحكام قبل بدء الدروس النظرية المتمثلة في دراسة عمليات افتراضية في مكان آهل كالمطارات أو الموانئ أو غيرهما، و كيفية التخطيط لها ، هل تحتاج العملية إلى فرد واحد أم إثنين أو أكثر و ما هو دور كل منهم ، و كيفية الإفلات من الاعتقال إذا ما فشلت العملية و كيفية التعامل مع السلاح في كافة الأحوال.و كانت هذه الدروس تلقى علينا بالاستعانة بوسائل الإيضاح المتاحة آنذاك من سبورة و رسوم و غيرها، دون أن يُسمح لنا بكتابتها بل كان علينا حفظها غيبا.
كما كان التدريب البدني يتمثل في تهيئتنا للتحمل في أقسى الظروف و أصعبها، بحيث كان يتم نقلُنا كل صباح محملين بعتادنا الثقيل من بندقية و مسدس فردي و قنابل يدوية و بأحذية عسكرية ثقيلة إلى مسافة تفوق العشرين كيلومترا ثم يتم إنزالنا في مكان مجهول على أن نعود إلى الثكنة مشيا على الأقدام بعد أن يحددوا لنا ساعة الوصول.
وتلقينا أيضا تدريبا على مختلف الأسلحة الخفيفة من مسدسات و بنادق رشاشة و غيرها، و حول طرق التسديد و أسلمها في أوضاع مختلفة، سواء في وضع الركض أو الوقوف أو التمدد أو الاختباء... كانت تلك الفترة ذات أهمية كبيرة في زيادة معارفي بالسلاح حيث تدربتُ على أنواعه و طرق تفكيكه و إعادة تركيبه.
حينما أشرَفَت فترة التكوين على الانتهاء، و هي فترة دامت شهرا كاملا، وقع خلاف بين بعض أفراد الكوماندو فأشهروا السلاح ضد بعضهم البعض. انتهى النزاع دون ضحايا لكن الضحية الوحيدة كانت هي الزيارة التي كان ولي العهد يعتزم القيام بها في الغد. فقد قيل لنا أن ولي العهد قد ألغى زيارته لنا بسبب ما حصل يوم أمس، و طلب منا فقط إعطاء أسمائنا الحقيقية و عناويننا كي يبعثوا لنا برُتبنا العسكرية، لأنهم عرفوا أن ما سجلناه كان أسماء مُختلقة، فقام بعضنا بتصحيح إسمه بإسم مغلوط مرة أخرى، فيما أعطى البعض الآخر إسمه الحقيقي.
الحلقة المقبلة:
اغتيال رحال المسكيني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.