تابعت الأستاذة نجاة المريني تعزيز رصيد منجزاتها العلمية، بإصدار عمل أكاديمي رصين عند مطلع السنة الجارية (2017)، تحت عنوان «قضايا أدبية ولغوية»، وذلك في ما مجموعه 225 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول إن صدور هذا العمل الجديد يشكل تتويجا لمسار جامعي رفيع وممتد في الزمن، استطاعت صاحبته –من خلاله- نحت اسمها كعلم رائد في مجال الدراسات اللغوية والأدبية المغربية، وعلى رأسها مجال تحقيق المخطوطات والتنقيب في أمهات مظان الأدب المغربي ومدوناته الغميسة. فسواء داخل رحاب جامعة محمد الخامس بالرباط حيث مارست الدكتورة المريني مهامها المهنية، أم داخل المنتديات الثقافية والعلمية المغربية والعربية، استطاعت هذه الباحثة الفذة التأسيس لمعالم مدرسة قائمة الذات، أساسها الافتتان بجمالية اللغة العربية وبآفاقها الرحبة، وركائزها النهل من أمهات الأعمال التأصيلية لأرصدة الأدب المغربي الحديث والمعاصر، وتطلعاتها تلتقي في الاحتفاء بمعالم النبوغ والتميز داخل هذه الأرصدة. وقبل هذا وذاك، ظلت الأستاذة نجاة المريني صارمة في إواليات اشتغالها وفي طرق تعاملها مع ما تعتمل به الساحة الجامعية والثقافية من مستجدات. إنها صرامة الباحثة المنقبة، والمثقفة الراشدة التي لا تقبل عن الوفاء لقواعد البحث ولضوابطه العلمية بديلا، ولا عن الصبر والأناة خيارا، ولا عن التريث والتمعن والسؤال مسارا. لذلك، استحقت أن تصبح وجها من أوجه نبوغ الأدب المغربي المعاصر، ومظهرا من «مظاهر يقظة المغرب الحديث»، حسب التعبير الأثير الوارد في إحدى الأعمال العلمية الرائدة للمرحوم المؤرخ محمد المنوني. وعلى هذا الأساس، أمكن القول إن صدور هذا العمل، يشكل إضافة لرصيد منجز باحثتنا القديرة، وتجميعا لسلسلة أعمال ومداخلات وقراءات، سبق أن شاركت بها في منتديات علمية ولقاءات ثقافية سابقة داخل المغرب وخارجه. بتعبير آخر، إن الكتاب يعتبر تعميم النتائج هذه الأعمال وحفظا لها من لوثة النسيان وتعميما لقيمها بالنسبة لمجموع الباحثين والمهتمين. كما أن تقديم قراءات تركيبية لمضامين الإصدارات العلمية والأدبية التي تحفل بها الساحة العلمية والثقافية الراهنة، يشكل تأليفا ثانيا للكتاب، أو تركيبا موازيا يعيد الاشتغال على الخلاصات الكبرى، ويعيد تعميم بث القيم المركزية لأعمال نخب المرحلة، لما لذلك من دور في توسيع آفاق تداول الكتاب والمعرفة، وفي تحويل هذا التداول إلى شأن عام ينشغل به الجميع بعد أن يتحول إلى أرضية للتأمل وللقراءة وللتفكيك وللاستثمار. ولعل هذا ما أدركته الأستاذة نجاة المريني، عندماكتبت في كلمتها التقديمية: «يتناول هذا الكتاب موضوعات متنوعة سبق لي أن شاركت ببعضها في لقاءات وندوات علمية داخل الوطن أو خارجه حول النص وقراءاته وآليات تأويله إلى غير ذلك، وأخرى تضمنت قراءاتي لمؤلفات أساتذة وأصدقاء منهم الكاتب المبدع عبد الكريم غلاب وعبد الله شقرون ومحمد مصلح والصديق معنينو،… ومنها موضوعات عن واقع اللغة العربية التي تعيش ظرفا حرجا عن مد وجزر، مع واجب الحرص عليها والتشبث بها، فاللغة العربية هي هويتنا وعنوان شخصيتنا. القراءة عملية مربكة ومنتجة في نفس الآن، إذ نستطيع بعدها إنتاج نص آخريكون منطلقا لقراءة ثانية، لذا فالقراءة ضالة كل باحث في كل زمان ومكان، والعلم رحم بين أهله…». وبين سقف الدراسات الأدبية التصنيفية ومطلب البحث اللغوي التخصصي، تحضر فضاءات مدينة سلا باعتبارها مصدرا للكتابة وللبحث وللتأليف، سواء في إطار مسارها الهوياتي المتفرد، أم في إطار تفاعلاتها الحضارية الكبرى مع الجارة العاصمة الرباط. في هذا الإطار، تندرج دراسات أكاديمية عميقة حول التراث الحضاري والأدبي للمدينة المذكورة من خلال قضايا محددة، مثل سير أعلام مدينة الرباط في الذاكرة السلوية، أو فعالية الحركة الثقافية في الحركة الوطنية في سلا، أو عند تقديم مضامين الجزء الثاني من كتاب «أيام زمان… الفتح المبين» للإعلامي محمد الصديق معنينو، الصادر سنة 2015. أما في المحور الثالث من الكتاب والمتعلق بواقع اللغة العربية، فقد استطاعت الأستاذة المريني تقديم رؤى أصيلة في الدفاع عن قدسية هوية اللغة العربية، وفق عين فاحصة تنبه لمظاهر الاعتلال داخل الجسد التواصلي المغربي الراهن، رافعة صوتها عاليا دفاعا عن عبقرية هذه اللغة، تراثا وتواصلا ومضامين إنسانية راقية، لا شك أنها عنوان لهوية مغاربة الراهن، في ظل واقع التردي الذي أضحى يستشري داخل مجال تلقي المعارف والعلوم والآداب والفنون، وذلك من خلال مظاهر الردة المتدثرة خلف تسميات شتى، لعل أبرزها التلهيج والفرانكفونية وتبخيس الحمولات العلمية واللسانية للغة العربية ولتراثها العلمي الأصيل. وبهذه المواد المتنوعة، استطاعت الأستاذة نجاة المريني تقديم «باقة نضرة» من حدائق غناء للبحث الجامعي المتخصص في مجالات الدراسات الأدبية المغربية المعاصرة، بشكل يتيح إمكانيات واسعة لمساءلة رصيد منجز الأستاذة المريني، وتقييم حصيلة الدرس الجامعي المغربي المتخصص في البيبليوغرافيات المغربية الأدبية المعاصرة. هي دراسات تجسد معالم انخراط الأستاذة المريني في مغامرة التأصيل الأكاديمي لانشغالات نخب مغرب اليوم في مجال وضع جسور التواصل بين عطاء الحصيلة من جهة، وبين انتظارات المهتمين للنهل من معين هذه الحصيلة من جهة ثانية. وفي هذا الجانب بالذات، تنتصب الأستاذة نجاة المريني كقامة سامقة للعلم وللعطاء وللصرامة الأكاديمية التي لا تجاري الأهواء ولا تتمايل مع الخطابات السهلة، في مقابل حرص كبير على تعزيز نهر «النبوغ المغربي» الذي لا بقاء إلا لعطائه، ولا استمرارية إلا لقيمه، ولا إشعاع إلا لمضامينه.