تحت شعار "مشاركة الأطفال في تنمية إفريقيا".. افتتاح المنتدى الافريقي لبرلمان الطفل بالرباط    حظر جمع وتسويق الصدفيات بتارغة-الشماعلة وجنان النيش-أمتار الغرب    مندوبية بنموسى.. معدلات التضخم تواصل منحاها التراجعي    المنتخب المغربي للسيدات داخل القاعة ينهزم أمام نظيره الأرجنتيني    صحف إسبانية .. المغرب يؤكد مكانته على قمة كرة القدم العالمية    وفاة رضيع في الطرامواي تولد في العراء الطبي بسلا تهز الرأي العام    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت        تسريب منسوب ل "المجلس الوطني للصحافة" يثير جدلاً واسعاً حول طريقة تدبير الملفات التأديبية واستقلال القضاء    الاتحاد العام للفلاحين يتدارس ملف إعادة تشكيل القطيع الوطني    المطر يُعرّي أخطاء البشر !    ولد الرشيد: الأوراش المهيكلة التي تعرفها مدن الصحراء المغربية تفتح آفاقا واسعة للتنمية المستدامة    بوانو: من العار الإبقاء على القاسم الانتخابي والمقاربة العقابية في القوانين الانتخابية غير مقبولة    حكيمي وبن صغير في القوائم النهائية لجوائز "غلوب سوكر"    النفط يواصل التراجع وسط ضغط أمريكي لإبرام اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا    بعد الهدنة في لبنان.. حصيلة دموية ثقيلة إثر استهدافات الإسرائيلية    أطباء مغاربة يهبون للتطوع في قطاع غزة.. وتنسيقية تتوصل بأزيد من 130 طلبا    من 28 نقطة… النص الحرفي لخطة ترامب لوقف الحرب في أوكرانيا    لوحة بورتريه لفريدا كاهلو تصبح أغلى عمل فني من إنجاز امرأة    اختتام مهرجان سينما الذاكرة المشتركة بالناظور وتتويج أبرز الأعمال    القوة الجوية المغربية تقتني 10 مروحيات "إتش 225 إم" من إيرباص    التجمع الوطني للأحرار يصادق على تصوره لمقترح الحكم الذاتي استعداداً لرفعه إلى الملك    "الأول يكشف تفاصيل استنطاق "بوز فلو".. الرابور أمام القضاء بسبب اتهامات مرتبطة بمضامين أغانيه    انقلاب "بيكوب" يودي بحياة شخص ضواحي برشيد    مونديال أقل من 17 سنة.. في مواجهة حاسمة المنتخب المغربي يلاقي البرازيل اليوم الجمعة وعينه على حجز مقعد في نصف النهائي    تتويج سفير المغرب لدى الأرجنتين ضمن "قادة التحول في أمريكا اللاتينية"    المجلس الأعلى للسلطة القضائية ينظم دورات تكوينية للقاضيات الراغبات في تولي مناصب المسؤولية    أمل موكادور لكرة القدم الشاطئية بطلا للمغرب لسنة 2025    مدرب مارسيليا: أكرد لاعب لا يعوض.. وعلينا التأقلم مع غيابه    30 دولة تعارض مسودة اتفاق "كوب30"    خطف 52 تلميذا من مدرسة بنيجيريا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    سيراليون تجدد دعمها للوحدة الترابية للمغرب وتعبر عن ارتياح بالغ باعتماد القرار التاريخي 2797    مهرجان الدوحة السينمائي 2025 يفتتح فعالياته معززاً مكانة قطر في المشهد السينمائي العالمي    بوعياش: تبادل إطلاق النار بحي بوسلامة ينتهي بتوقيف أحد المشتبه فيهم    اعتداء خطير بمستعجلات مستشفى بني ملال يخرج النقابة الوطنية للصحة للاحتجاج والتصعيد    كيوسك الجمعة | المنظومة المؤطرة للانتخابات تهدف إلى تخليق العملية الانتخابية والسياسية    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم يتعلق بتطبيق الضريبة على القيمة المضافة    المغرب يرتقي إلى المرتبة السادسة عالميا في مؤشر الأداء المناخي 2026    المغرب يرأس المجلس الدولي للزيتون لعام 2026    المغربي إدريس علواني يحصد الميدالية البرونزية في بطولة إفريقيا للدراجات    وسام حمادة والدة "هند رجب" في افتتاح الدوحة السينمائي:    أجهزة قياس السكري المستمر بين الحياة والألم    اليوم.. فتيان الأطلس يواجهون البرازيل بأمل المرور إلى نصف نهائي المونديال    زلزال بقوة 5,5 درجات يضرب بنغلادش    المكسيكية فاطمة بوش تتوَّج ملكة جمال الكون بعد جدل واسع    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    ( الحب المر)... فيلم يكشف الوجه الخفي للنرجسية داخل الأسرة المغربية    أجهزة قياس السكر المستمر بين الحياة والألم: نداء أسر الأطفال السكريين لإدماجها في التغطية الصحية    جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    الفنان المغربي إِلياه والنجم المصري محمد رمضان يجتمعان في أغنية جديدة    في الحاجة إلى فلسفة "لا"    معمار النص... نص المعمار    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المصالحة : (لتجاوز الانتظارية القاتلة)

كما لها أسبابها الذاتية. والإشكال في ظني، يعود في قسم منه على الأقل،إلى ضرورة التمييز بين ما هو موضوعي، مشترك بين جميع مكونات اليسار، وبين ما هو ذاتي خاص بهذه التشكيلة أو تلك وفي هذا الوطن أو ذاك.
وعندما تكون أزمة اليسار بهذا الاتساع الكوني، فمن الأرجح أن ثمة عوامل موضوعية فاعلة فيها جميعا، وقد يكون لها النصيب الأكبر، باختلاف تجاربها وخصوصياتها ، فيما آلت إليه أزماتها المختلفة.
طرح الإشكالية على هذا المستوى الكوني، ليس من قبيل «الهروب إلى الأمام» أومن قبيل «التعويم الفكري» ولا بالأحرى من قبيل «تبرئة الذوات».. وإنما الغاية هي الفهم الأفضل للشرط الموضوعي كونيا ووطنيا، والذي بدون وعيه، وضبطه، لا يمكن الخروج بمعالجات صائبة، لأنها ستكون بالضرورة، معالجات ذاتوية، أقرب إلى ردود الفعل منها إلى المعالجات المتبصرة والبعيدة المدى، ولأنها ستصطدم، حتما، بصخرة الواقع الصلب الذي تم تجاهله والاستهانة به.
ليس المجال هنا للبحث في تلك الشروط الموضوعية المومأ إليها في أزمة اليسار عالميا. وكاتب هذه السطور، يعي، وبكل تواضع، أن البحث فيها وفي امتداداتها وطنيا، ليس بالأمر البديهي السهل..لكن مجرد طرح الموضوع على هذا المستوى المنهجي، وإيلائه ما يستحقه من اهتمام جمعي، يساعدنا على تكوين أرضية مشتركة، أكثر صلابة وعقلانية من واقع الحال، الانفعالي والفرداوي، أو الحلقي العصبوي، المشتت والمضبب الرؤى.
إن مجرد التفكير في الموضوع على هذا المستوى المنهجي، يضعنا مباشرة أمام أسئلة كبرى، جميعها ترتبط بالتحولات النوعية المتسارعة،والتي اكتسحت العالم وعلى جميع الصعد، المعرفية والأيديولوجية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والتواصلية، وأشكال وتموقعات التعبير عنها جميعا. وهي التحولات التي لم نستوعبها بعد، بالشكل الجماعي، وبالقدر الذي يُمكِّن اليسار من أن يكون فاعلا شعبيا، مبادراً وناميا ومستقلا. وبتعبير آخر، أن يكون في مجتمعه هو البديل الممكن.
وفي الوضع المأزوم الحالي لليسار، ثمة من يستخلص ويروج لمغالطة أيديولوجية، تزعم، أن ما وقع من تحولات نوعية في العالم، أنهى ، وبلا رجعة، ما كان يفرق في الماضي بين اليسار واليمين، فلا يسار بعد ولا يمين، فكلاهما أضحيا يقفان على نفس الأرضية الليبرالية في كافة المستويات، ويتنافسان على إرضاء نفس القواعد الاجتماعية لكسب الأغلبية الانتخابية…
وبدون الدخول في ردود تفصيلية، فمن الواضح أن المخاطب بهذه المغالطة، مادام اليمين هو المنتصر مرحليا، ليس إلا اليسار، المطالب بحسب هذه الدعوة، أن يتخلى عن هويته الاجتماعية والوطنية والأيديولوجية. أو لنقل، أن يستسلم طوعا، ويتخلى عن صراعاته وامتحاناته في الحفاظ على هذه الهوية والرقي بها ومعها.
دعنا من هذا التقديم الذي توخيت منه، البحث أولا في الشروط الموضوعية الكونية، ومن ثم البحث ثانيا في خصوصياتها عندنا، موضوعيا ثم ذاتيا. ولقد لمحت لفوائد ذلك من الناحية المنهجية. ولنر الآن حالتنا على المستوى الذاتي البحث.
ربما لا يجادل أحد أيضا في أن القسم الأعظم من اليسار، أضحى خارج التنظيمات الحزبية التي حمل لواءها فيما مضى، فضلا عن استمرار الانقسام بين تنظيماته الحزبية المختلفة. ولعل فقدان الثقة في المستقبل (وهي وجه آخر لفقدان الثقة المجتمعية في كافة المؤسسات)، وفي إمكان تجاوز اليسار لأزماته الراهنة، هي الحصيلة النهائية لهذا الواقع المفتت والمنكفئ. ولذلك يغلب على الوضع الراهن لليسار، التصورات الفردية المتشائمة، وردود الأفعال التشكيكية الآنية، وحتى الخلافات الفكرية والسياسية المجدية تضعف فاعليتها وتغدو عديمة الأفق.
ما يهمني في هذه العجالة، ليس تقديم تحليل متناسق لهذا الحال، بقدر ما لفت نظري، وحز في نفسي، تردي الروح السياسية العملية، وانعدام الحوار الجماعي، أمام اضطراد تمدد الأزمة المجتمعية لتشمل كافة الصُّعد، واليسار من بينها، وما يحمله هذا الوضع من مخاطر لم تغب بعد عن أعيننا في الساحات الهشة والمأزومة مثلنا. وهذا في الوقت الذي نحتاج فيه لمبادرات تعبوية ووحدوية كبرى، غير مألوفة ولا معتادة في خطاباتنا الرتيبة اليومية. إنها بلا ريب انتظارية قاتلة!
وفي هذه الأجواء السلبية، أرى أن النداء الذي وجهه الاتحاد الاشتراكي نحو المصالحة، بما يعني القيام بكل ما يلزم لإعادة بناء وحدة اليسار، نداء يستحق التفاعل الإيجابي معه من قبل الجميع، أفرادا ورموزا وحساسيات وتنظيمات حزبية، علنا نصل إلى مخارج ممكنة لنهوض اليسار من جديد. ومن البديهي أن “المصالحة” لا تعني ردم الخلافات، ولا التصورات المتعددة، بل الدعوة إلى طرحها جميعا مع البحث في سبل وآليات تجاوزها بالقدر العقلاني والموضوعي والممكن أيضا. وبكلمة أخرى، إن المصالحة تعني مصالحة مع التاريخ النضالي المشترك لليسار، بمكاسبه وخساراته، كأساس لبناء مستقبله الموعود.
لنخرج من الانتظارية القاتلة، والتي من أخطر تبريراتها الأيديولوجية، الزعم، بأن حركة التحرر الوطني قد انتهى دورها التاريخي، باختياراتها وأحزابها وأجيالها ورموزها، ولا مناص من ترك السيرورة الاجتماعية تمضي وحدها إلى أن تستلم القيادة أجيال جديدة وبأفكارها الجديدة. إن العيب لا يقتصر هنا على المعاني التي يعطيها هذا الزعم لحمولة “التحرر الوطني”، وهي حمولة لم تفقد قطعا صلاحياتها ومستوجباتها ولو في عصر العولمة، بل العيب الأكبر في ما تفشوه ضمنا من دعوات إلى الاستقالة الجماعية، وإلى اصطناع قطيعة تناحرية بين الأجيال، وما تعبر عنه من عدمية سياسية انتظارية إلى أجل غير مسمى !
هذه واحدة فقط من عدة تعليلات تبثها الانتظارية السياسية القاتلة. إلا أن ما ينبغي لكل يساري أن يستحضره دائما، الدرس القوي لما سمي بالربيع العربي، والذي لا تفلت منه أية خصوصية، كيفما كانت نسبيتها الحقة، ومن حيث أن لا خيار لخروج مجتمعاتنا من تأخرها، وانطلاق وانتظام نهضتها، سوى إذا ما ساد خيار اليسار بدعم شعبي قوي، لأنه خيار المزاوجة بين الديمقراطية السياسية وبين التنمية الاجتماعية – الثقافية واستقلالية القرار الوطني. وما عداه، ليس إلا التخبط في الفوضى، أوفي ليبرالية سياسية واقتصادية معاقة ومهددة دائما بالانكسار.
لكن ثمة أفكار ومحاذير سياسية وأيديولوجية وتنظيمية جدية ولها مصداقيتها، إن لم تتخشب وتتحول إلى عوائق تكرس الانتظارية والتفتت والانقسام. ولكي لا أخوض في تفاصيل تصادر مسبقاً الحوار الجماعي المنظم الذي نريده، أكتفي بالملاحظة الضاربة التالية: الاختلافات داخل اليسار قديمة، وأفكارها جميعا جربت في الميدان، والسؤال، لماذا أي منها لم يحقق الطفرة النوعية للحركة اليسارية؟! ألا يستحق هذا السؤال بعد عقود من الخلافات التفكير العميق في عوائقها جميعا؟!
من اللافت أن الدعوة للمصالحة جاءت في “منعطف مناسب” تزامن مع الدعوة إلى التفكير في بديل تنموي آخر، بعد الإقرار الرسمي بفشل (أو باستنفاد) النموذج التنموي الجاري. نحن إذن أمام فرصة وطنية للتفكير في مستقبل الوطن واليسار معا. وفي هذا المضمار، سأكتفي هنا ببعض القضايا، أظنها كانت ولاتزال مركز تنوع وتعدد خيارات اليسار حولها:
أولها: هل الممارسة الميدانية لدستور 2011، حققت تقدما في البنية التقليدية لنمط الحكم، أم أنها كانت دونه، وكرست طوعيا عكسه؟
وثانيها: هل كانت للحكومات الائتلافية العريضة صلاحيات فعلية، وهل كانت لها جميعا نفس الضرورات السياسية والاجتماعية، أم أنها كانت وغذت مجرد أداة صورية تتخبط في تنفيذ خيارات لا باع لها فيها؟
وثالثها : ما هي المضاعفات (في العقلية والعلاقات) التي يستولدها كل من السؤالين السالفين على كافة المؤسسات، الإدارية، والمنتخبة، والمنتجة، وعلى إمكان الانتقال الديمقراطي عامة؟
ورابعها: هل أزمة نموذج التنمية المعاق، وكيفما كانت إيجابياته، تعود إلى اختلالات تنفيذية أو حتى ترشيدية واقتصادية محدودة،أم أنها تعود إلى خيارات سياسية – اجتماعية بقيت مشدودة إلى التقييدانية والنيوليبرالية معا، همشت في جملتها التنمية السياسية والثقافية والحضارية للمجتمع، ومعها بالتلازم، التنمية الاجتماعية والمجالية، أي في الحصيلة، اختزلت التنمية البشرية في غير أبعادها المجتمعية الكلية؟
وخامسها: أليس لاستمرار مظاهر التأخر المجتمعي والفوات الثقافي، التقليدية القديمة منها، والمستحدثة في عصر العولمة، دورها في هذه الإعاقة الممتدة، وبالتالي، كيف يتمكن اليسار من المواجهة العقلانية الجامعة بين مسؤولية الدولة من جهة وبين مسؤولية المجتمع من جهة ثانية؟
هذه بعض الأسئلة المحاور التي هي مثار انشغالات اليسار وخلافاته، وقد لا أكون قد توفقت في إيجازها وضبط جميع مضامينها وتدقيقاتها، ولكنها توحي بالمراد، والغاية منها أن تفتح الباب على مصراعيه للمناقشة الجاذبة للمصالحة، والنابذة للانتظارية، ومن أجل بناء انطلاقة جديدة لليسار، إن لم تبلغ الصلابة الواثقة اليقين، فعلى الأقل أن تكون مقنعة وصلبة الإرادة !
وبدون الدخول في ردود تفصيلية، فمن الواضح أن المخاطب بهذه المغالطة، مادام اليمين هو المنتصر مرحليا، ليس إلا اليسار، المطالب بحسب هذه الدعوة، أن يتخلى عن هويته الاجتماعية والوطنية والأيديولوجية. أو لنقل، أن يستسلم طوعا، ويتخلى عن صراعاته وامتحاناته في الحفاظ على هذه الهوية والرقي بها ومعها.
دعنا من هذا التقديم الذي توخيت منه، البحث أولا في الشروط الموضوعية الكونية، ومن ثم البحث ثانيا في خصوصياتها عندنا، موضوعيا ثم ذاتيا. ولقد لمحت لفوائد ذلك من الناحية المنهجية. ولنر الآن حالتنا على المستوى الذاتي البحث.
ربما لا يجادل أحد أيضا في أن القسم الأعظم من اليسار، أضحى خارج التنظيمات الحزبية التي حمل لواءها فيما مضى، فضلا عن استمرار الانقسام بين تنظيماته الحزبية المختلفة. ولعل فقدان الثقة في المستقبل (وهي وجه آخر لفقدان الثقة المجتمعية في كافة المؤسسات)، وفي إمكان تجاوز اليسار لأزماته الراهنة، هي الحصيلة النهائية لهذا الواقع المفتت والمنكفئ. ولذلك يغلب على الوضع الراهن لليسار، التصورات الفردية المتشائمة، وردود الأفعال التشكيكية الآنية، وحتى الخلافات الفكرية والسياسية المجدية تضعف فاعليتها وتغدو عديمة الأفق.
ما يهمني في هذه العجالة، ليس تقديم تحليل متناسق لهذا الحال، بقدر ما لفت نظري، وحز في نفسي، تردي الروح السياسية العملية، وانعدام الحوار الجماعي، أمام اضطراد تمدد الأزمة المجتمعية لتشمل كافة الصُّعد، واليسار من بينها، وما يحمله هذا الوضع من مخاطر لم تغب بعد عن أعيننا في الساحات الهشة والمأزومة مثلنا. وهذا في الوقت الذي نحتاج فيه لمبادرات تعبوية ووحدوية كبرى، غير مألوفة ولا معتادة في خطاباتنا الرتيبة اليومية. إنها بلا ريب انتظارية قاتلة!
وفي هذه الأجواء السلبية، أرى أن النداء الذي وجهه الاتحاد الاشتراكي نحو المصالحة، بما يعني القيام بكل ما يلزم لإعادة بناء وحدة اليسار، نداء يستحق التفاعل الإيجابي معه من قبل الجميع، أفرادا ورموزا وحساسيات وتنظيمات حزبية، علنا نصل إلى مخارج ممكنة لنهوض اليسار من جديد. ومن البديهي أن “المصالحة” لا تعني ردم الخلافات، ولا التصورات المتعددة، بل الدعوة إلى طرحها جميعا مع البحث في سبل وآليات تجاوزها بالقدر العقلاني والموضوعي والممكن أيضا. وبكلمة أخرى، إن المصالحة تعني مصالحة مع التاريخ النضالي المشترك لليسار، بمكاسبه وخساراته، كأساس لبناء مستقبله الموعود.
لنخرج من الانتظارية القاتلة، والتي من أخطر تبريراتها الأيديولوجية، الزعم، بأن حركة التحرر الوطني قد انتهى دورها التاريخي، باختياراتها وأحزابها وأجيالها ورموزها، ولا مناص من ترك السيرورة الاجتماعية تمضي وحدها إلى أن تستلم القيادة أجيال جديدة وبأفكارها الجديدة. إن العيب لا يقتصر هنا على المعاني التي يعطيها هذا الزعم لحمولة “التحرر الوطني”، وهي حمولة لم تفقد قطعا صلاحياتها ومستوجباتها ولو في عصر العولمة، بل العيب الأكبر في ما تفشوه ضمنا من دعوات إلى الاستقالة الجماعية، وإلى اصطناع قطيعة تناحرية بين الأجيال، وما تعبر عنه من عدمية سياسية انتظارية إلى أجل غير مسمى !
هذه واحدة فقط من عدة تعليلات تبثها الانتظارية السياسية القاتلة. إلا أن ما ينبغي لكل يساري أن يستحضره دائما، الدرس القوي لما سمي بالربيع العربي، والذي لا تفلت منه أية خصوصية، كيفما كانت نسبيتها الحقة، ومن حيث أن لا خيار لخروج مجتمعاتنا من تأخرها، وانطلاق وانتظام نهضتها، سوى إذا ما ساد خيار اليسار بدعم شعبي قوي، لأنه خيار المزاوجة بين الديمقراطية السياسية وبين التنمية الاجتماعية – الثقافية واستقلالية القرار الوطني. وما عداه، ليس إلا التخبط في الفوضى، أوفي ليبرالية سياسية واقتصادية معاقة ومهددة دائما بالانكسار.
لكن ثمة أفكار ومحاذير سياسية وأيديولوجية وتنظيمية جدية ولها مصداقيتها، إن لم تتخشب وتتحول إلى عوائق تكرس الانتظارية والتفتت والانقسام. ولكي لا أخوض في تفاصيل تصادر مسبقاً الحوار الجماعي المنظم الذي نريده، أكتفي بالملاحظة الضاربة التالية: الاختلافات داخل اليسار قديمة، وأفكارها جميعا جربت في الميدان، والسؤال، لماذا أي منها لم يحقق الطفرة النوعية للحركة اليسارية؟! ألا يستحق هذا السؤال بعد عقود من الخلافات التفكير العميق في عوائقها جميعا؟!
من اللافت أن الدعوة للمصالحة جاءت في “منعطف مناسب” تزامن مع الدعوة إلى التفكير في بديل تنموي آخر، بعد الإقرار الرسمي بفشل (أو باستنفاد) النموذج التنموي الجاري. نحن إذن أمام فرصة وطنية للتفكير في مستقبل الوطن واليسار معا. وفي هذا المضمار، سأكتفي هنا ببعض القضايا، أظنها كانت ولاتزال مركز تنوع وتعدد خيارات اليسار حولها:
أولها: هل الممارسة الميدانية لدستور 2011، حققت تقدما في البنية التقليدية لنمط الحكم، أم أنها كانت دونه، وكرست طوعيا عكسه؟
وثانيها: هل كانت للحكومات الائتلافية العريضة صلاحيات فعلية، وهل كانت لها جميعا نفس الضرورات السياسية والاجتماعية، أم أنها كانت وغذت مجرد أداة صورية تتخبط في تنفيذ خيارات لا باع لها فيها؟
وثالثها : ما هي المضاعفات (في العقلية والعلاقات) التي يستولدها كل من السؤالين السالفين على كافة المؤسسات، الإدارية، والمنتخبة، والمنتجة، وعلى إمكان الانتقال الديمقراطي عامة؟
ورابعها: هل أزمة نموذج التنمية المعاق، وكيفما كانت إيجابياته، تعود إلى اختلالات تنفيذية أو حتى ترشيدية واقتصادية محدودة،أم أنها تعود إلى خيارات سياسية – اجتماعية بقيت مشدودة إلى التقييدانية والنيوليبرالية معا، همشت في جملتها التنمية السياسية والثقافية والحضارية للمجتمع، ومعها بالتلازم، التنمية الاجتماعية والمجالية، أي في الحصيلة، اختزلت التنمية البشرية في غير أبعادها المجتمعية الكلية؟
وخامسها: أليس لاستمرار مظاهر التأخر المجتمعي والفوات الثقافي، التقليدية القديمة منها، والمستحدثة في عصر العولمة، دورها في هذه الإعاقة الممتدة، وبالتالي، كيف يتمكن اليسار من المواجهة العقلانية الجامعة بين مسؤولية الدولة من جهة وبين مسؤولية المجتمع من جهة ثانية؟
هذه بعض الأسئلة المحاور التي هي مثار انشغالات اليسار وخلافاته، وقد لا أكون قد توفقت في إيجازها وضبط جميع مضامينها وتدقيقاتها، ولكنها توحي بالمراد، والغاية منها أن تفتح الباب على مصراعيه للمناقشة الجاذبة للمصالحة، والنابذة للانتظارية، ومن أجل بناء انطلاقة جديدة لليسار، إن لم تبلغ الصلابة الواثقة اليقين، فعلى الأقل أن تكون مقنعة وصلبة الإرادة !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.