-1- ضاع هولدرلين في غموض العديد من المسارات، تخطفته العديد من الطرق، آنذغم عميقا في الصخب المهيمن في زمنه، عاش آنشغالاته وهمومه comme un écorché vif. تحمس الشاعر الشاب للثورة الفرنسية، الوليدة، رأى فيها الخلاص من حكم الإمبراطور المستبد. حلم بآستعادة الفعل الثوري في منطقته La Souabe، سوابيا مع آخرين وعقدوا آجتماعات سرية، ولما علمت مخابرات الإمبراطورية بذلك لاحقتهم. بعضهم آعتقل وآخرون ومن بينهم هولدرلين هربوا. ذهب الشاعر إلى فرنسا إلى منطقة بوردو، يجب التذكير في هذا السياق بأن هولدرلين شكل ثلاثيا مع الفيلسوفين هيجل وشيلر إبان دراستهما في جامعة توبنجن، كما أنه لا يمكن التفكير في حركة الرومانسيين الألمان التي تحلقت حول مجلة «الأثيناووم» بدونه مع مؤسسي المجلة الأخوان شليغل ونوفاليس، وغيرهم، الحركة التي أحدثت شرخا زلزاليا في مفاهيم وممارسات الشعر والسرد والتنظير للأدب آنطلاقا من التصور الذي سماه فيليب-لاكو لابارث، وجان-لوك نانسي اللذان درسا الحركة جيدا «المطلق الأدبي». صحيح أن الشعر كان المسار أو الطريق الأساس، وظل كذلك. الطريق الثالث الذي آستجاب هولدرلين لندائه بأريحية هو طريق العشق. آشتغل موظفا عند رجل أعمال آسمه غونتار في مدينة فرانكفورت، لكنه عشق زوجته سوزيت غونتار التي بادلته عشقا بعشق، والتي خلد صورتها في شخصية ديوتيما في روايته – القصيدة «هيبريون». كان عشقا مدمرا قادهما للهروب والضرب في الأراضي الألمانية خصوصا حين علم الزوج بذلك. الطريق الرابع الذي آنتهك حياة وإبداع هولدرلين، هو عشق نصوص وثقافة المؤسسين الإغريق الأوائل، ومن بينهم إيشيل، أوريبيد وسوفوكل الذي ترجم مسرحياته إلى الألمانية وفق ترجمة إبداعية متحررة، أقرب إلى إعادة الكتابة. الذي وقع هو أن هذه الترجمات آعتبرت بمثابة نصوص أصلية وخلقت ثورة في مفهوم الترجمة، من حيث إمكانية آعتبار النسخة معادلة للأصل وبالتالي قابلة لأن تترجم من حيث هي نص-أصل، كما ذهب إلى ذلك والتر بنيامين في مقاله الهام «مهمة المترجم»، وكما آعتبرها مترجمون آخرون مثل لاكو -لابارث الذي ترجم إلى الفرنسية ترجمات هولدرلين. الطريق الخامس التي آقترفت حياته، هي الهروب الدائم، من القمع السياسي تارة ومن نفسه وحياته تارة أخرى. حين عاد من بوردو سنة 1802. رث الثياب متسخا، جائعا، مريضا مرهق الأعصاب بعدما قطع الطريق على الاقدام من المدينة الفرنسية حتى عبور الحدود الألمانية، لاذ ببيت أمه غارقا في الهذيان، التيه الوجودي. حايث التيه الشعري وبدا كما لو أن شاعرية هولدرلين، أو تراجيديته الشعرية الأمر سيان، كما حدث لرامبو مثلا حين صار الهروب ومغادرة أوروبا أي التيه الوجودي، رديفا للتيه الشعري ولآنمحاء الشعر. عاش هولدرلين بحدة وعمق كوارث عصره، عاشها، آستبطنها، آنذغمت في جوانيته كما لو أنها طبيعة ثانية له، وآنوشم بجراحها وعذاباتها. لم تكن حياة هولدرلين محل الراحة أبدا، لم تكن هبة، كانت عذابا ومعاناة، وهنا ينبجس ،في حياة صاحب هيبريون الطريق السادس الفادح والأليم، طريق الجنون. قاده أشخاص آعتقلوه في بيت أمه إلى مستشفى الامراض العقلية، بموافقة من الأم، وهناك تعرض لأبشع اساليب العلاج التي تعتبر الآن بمثابة وسائل تعذيب، أجهزت على ما تبقى من توازنه النفسي، لتضطر الأم بعدما تفاقمت معاناته إلى إخراجه، والذهاب به ليسكن غرفة في بيت شخص يحترف النجارة. يقود هذا إلى الطريق السابع، طريق العزلة التي دامت نصف حياة هولدرلين تقريبا، إذ قضى ستة وثلاثين سنة معزولا في غرفة بيت النجار مطلة على نهر النيكار، هو الذي توفي عن سن الثلاثة والسبعين سنة، وكل ما كان يقوم به الشاعر الباذخ هو الإطلالة على مياه النهر وكتابة تلك القصائد أو الأناشيد النبوئية الباذخة والنشكونية. قال هولدرلين «حيثما يتعاظم الخطر تلوح ايضا علامات النجاة»، وقد كان الشعر Dichtung، طريق نجاته وعبوره السري والمعلن في أن نحو la postérité، أي نحو شرطية ما بعد الوفاة، التي تحدث عنها أيضا نيتشه العظيم قائلا D›aucuns naissent posthumes. أليس هولدرلين الشامخ والشاهق هو من قال بأن «الشعراء يؤسسون ما يبقى»، وكان طبعا يتحدث عن شعراء من سلالته، وهي بالتأكيد سلالة نادرة بل أقلية الأقليات، لا ينتمي إليها غير الشعراء الأساسيون، رامبو، روني شار، إزرا باوند وغيرهم من القلة القليلة. -2- بتاريخ 17جوان 1843 توفي هولدرلين، عن سن الثالثة والسبعين، قضى منها إثنين وثلاثين سنة محتجزا، معزولا في غرفة ببيت نجار تطل نافذتها على نهر النيكار الذي تجري مياهه أسفلها. أمه قادته لبيت النجار بعدما أصيب بالجنون وتعرض لأبشع طرق العلاج التي تشبه حصص تعذيب، تماما كما وقع لأنطونان آرطو في مستشفى المجانين في جزيرة رودس، وللمطرب لو ريد Lou Reed، حين تعرضا لعلاج خطير بالصدمات الكهربائية. قبلها آنخرط هولدرلين في التجربة السياسية إثر تحمسه مع رفاقه للثورة الفرنسية الوليدة، عقدوا جلسات سرية لإشعال الثورة وتغيير النظام الإمبراطوري في بروسيا، لكن المخابرات أو البوليس البروسي فطن للأمر ولاحق المتآمرين. أمسك ببعضهم وهرب آخرون ومنهم هولدرلين. كان آنذاك قد بدأ يكتب الشعر، هو الذي درس في توبنجن وسكن في نفس الداخلية من هيجل وشيلينغ، وشكلوا ثلاثيا فلسفيا شعريا، وآنخرط في تجربة الرومانسيين الألمان، الأخوان شليغل ونوفاليس، وغيرهم من الجماعة التي تحلقت حول مجلة الأثيناؤوم التي لم تصدر منها غير بضعة أعداد. ذهب هولدرلين ليشتغل عند رجل أعمال وصيرفي في فرانكفورت، وهناك عشق زوجته سوزيث غونتار، التي خلدها في روايته الشعرية «هيبريون» Hypérion، تحت آسم ديوتيما، آنفجرت الحرب فطلب منه مشغله مصاحبة الزوجة والإبنين في رحلة الهروب، وهناك تعمقت العلاقة وآنمنحت لمأساويتها. ذهب هولدرلين إلى بوردو في فرنسا ليشتغل كمدرس لأبناء عائلة بورجوازية وبعد مدة عاد مشيا من بوردو لأنه لم يكن يملك مالا. عاد مرتديا ملابس رثة متسخة، جائعا، ممنوحا للهذيان. حين رأته أمه على تلك الحال آنرعبت. أخذوه إلى المستشفى وهناك تعرض لعلاج أفقده الصواب، وكانت تلك الرحلة لبيت النجار حيث قضى آخر سنوات حياته في عزلة تامة. هناك كتب أناشيده الشعرية وقصائده العظيمة عن الصباح الإغريقي الأول الذي يلزم الغرب آستعادة دهشته الاولى، وترجم مسرحيات سوفوكل تلك الترجمة الإبداعية التي صارت بمثابة أصل، حتى أن الفيلسوف الراحل فيليب -لاكو لابارط قام بترجمة سوفوكل آنطلاقا من ترجمات هولدرلين، هناك كتب قصائده العظيمة التي تصدى مفكر عظيم هو هيذغر لدراستها وتأويلها فلسفيا في كتابه التمائمي الشاماني Approches de Holderlïn. تلقف ليل الجنون هولدرلين، تلقفته ربات الأقدار، وصار كينونة النشيد، Das Gidechtete، الشعر متجسدنا في مآلية وجودية كما حدث للوركا، نيرودا، أراغون، روني شار، رامبو، وشيزاري بافيزي، ريلكه، وليم بليك وغيرهم من الشعراء الذين جسدوا مادية الشعر، نوع من المادية الرمزية التي فيها يتوحد الوجود باللغة. أليس هولدرلين من قال بأن [الشعراء يؤسسون ما يبقى،]، وقال أيضا، [حيثما يتعاظم الخطر تلوح معالم النجاة..].