من أبرز سمات هذه الحكومة أنها أتقنت "فن تلاوة الأرقام"، لكنها فشلت في تقديم معطيات صادقة تنسجم مع الواقع. فقد كشف الإحصاء الرسمي الذي أنجزته وزارة الداخلية، وجود فارق صادم في أعداد القطيع مقارنة بالأرقام التي أعلنت عنها وزارة الفلاحة، ما يجعل هذه الأخيرة في موقف لا تُحسد عليه، ويضع الحزب المشرف على هذا القطاع في حرج سياسي ومؤسساتي بالغ. ولا تقف محاولات التضخيم عند هذا الحد، بل تبرز بشكل فجّ في قطاعات أخرى، كما هو الحال في السياحة، حيث تواصل الحكومة الترويج لتجاوز التوقعات، والتباهي بتحقيق أرقام قياسية حتى قبل نهاية الموسم. هذا في وقت أصبح فيه الرأي العام يتساءل، بأي معيار نُصدق هذه الأرقام؟، وهل تخضع فعلاً لرقابة تقنية أم أنها مجرد أداة للتسويق السياسي؟ إذا ثبت زيف الأرقام في قطاع الفلاحة، فلماذا لا نعيد النظر في باقي الأرقام المعلنة، وعلى رأسها تلك المتعلقة بالسياحة؟ في موازاة ذلك، تواصل الحكومة اللعب بالأرقام لتبرير قرارات حساسة مثل الاستيراد، الذي يستفيد منه لوبيات تتحرك في فلكها، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام سوء تدبير مُمنهج، قائم على تزييف المعطيات أكثر مما هو مبني على الاستراتيجية والنجاعة. وقد جاء قرار جلالة الملك محمد السادس بسحب الإشراف على ملف القطيع من وزارة الفلاحة وإسناده إلى وزارة الداخلية ليؤكد أن الأمر لا يتعلق فقط بفشل تقني، بل بخلل بنيوي . وكانت نتائج الإحصاء الرسمي التي أفرجت عنها وزارة الداخلية بمثابة صفعة إدارية للحكومة، وكشفت عمق الهوة بين الواقع وما كانت تروّج له. ولا يُمكن في هذا السياق التغاضي عن التناقض الصارخ بين أرقام الحكومة وتقديرات مؤسسات دستورية مستقلة، مثل المندوبية السامية للتخطيط والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، مما يزيد من تعميق فجوة الثقة بين الحكومة وباقي مؤسسات الدولة. من حق الحكومة أن تدافع عن منجزاتها، لكن ليس من حقها أن تُضلل المواطنين بأرقام مزيفة. فالمعطيات التي تعلنها الوزارات لا تهمها وحدها، بل هي ملكٌ للدولة وتُبنى عليها السياسات العمومية، كما يُعوّل عليها المستثمرون في القطاع الخاص لتقدير المخاطر والفرص. وبالتالي، فإن تقديم أرقام خاطئة لا يؤدي فقط إلى قرارات فاشلة، بل إلى هدر للمال العام، وإضعاف للنمو، وضرر مباشر بمصالح المواطنين. فالإعلان عن هذه المعطيات الرسمية المخالفة لرواية الحكومة يُعد ملتمس رقابة إداريًا بامتياز، أسقط صدقية الأرقام الحكومية، ووضعها تحت مجهر الرأي العام والبرلمان معًا. وفي ظل هذا الوضع، بدأت أطراف من داخل التحالف الحكومي نفسه تُناور للابتعاد عن تداعيات هذا الإخفاق، كما تجلّى في الهجوم الذي شنته جريدة العلم، الناطقة باسم حزب الاستقلال، ضد وزارة الفلاحة. وهو مؤشر على بداية التفكك السياسي داخل الأغلبية، وتحول التنسيق الحكومي إلى صراع انتخابي سابق لأوانه. لقد أصبح من الضروري اليوم فتح نقاش وطني حول صدقية الأرقام الرسمية، وآليات إنتاجها، ومصادرها، ومدى خضوعها للتدقيق والمساءلة. لأن فقدان الثقة في المعطيات لا يعني فقط انهيارًا في صورة الحكومة، بل انهيارًا في قدرة الدولة على التخطيط، وعلى جذب الاستثمار، وعلى خدمة مواطنيها بشكل فعال.