كشف مجلس المنافسة، في تقرير مفصل جديد، عن اختلالات بنيوية وهيكلية عميقة في سوق المطاحن بالمغرب، مشيرا إلى وجود تمركز مقلق داخل قطاع القمح اللين، حيث تستحوذ سبع مجموعات كبرى فقط من أصل 99 فاعلا على نحو 49% من الإنتاج الوطني. ويرى المجلس أن هذا الوضع يثير مخاوف مرتبطة بالاحتكار واستغلال وضع مهيمن، ويقوض مبدأ المنافسة الشريفة داخل القطاع. كما لفت إلى أن نظام الدعم الحكومي يمنح بعض الشركات امتيازات اعتبرها نوعا من "الريع الاقتصادي"، داعيا إلى إصلاح شامل لآلية الدعم بما يضمن عدالة أكبر وفعالية أعلى. وجاء التقرير، الذي صدر يوم الاثنين 8 دجنبر الجاري في أزيد من 150 صفحة، ليؤكد أن سوق المطاحن يعيش حالة من "التطور غير المتكافئ"، إذ يظل الإنتاج موجهاً أساسا نحو مواد تقليدية مثل الدقيق الوطني للقمح اللين والدقيق البسيط والنخالة، في مقابل ضعف الابتكار وغياب منتجات جديدة تواكب التحولات الاستهلاكية الحديثة. كما بين مجلس المنافسة أن عدداً من المطاحن يعاني هشاشة تقنية وبنيوية خطيرة أدت إلى توقف بعضها عن النشاط، في حين تستفيد مطاحن أخرى، تمتلك تجهيزات صناعية وتنظيمية متقدمة، من موقع أفضل وقدرات أعلى على الإنتاج والاستثمار. ووفق معطيات التقرير، بلغ عدد المطاحن الصناعية بالمغرب سنة 2023 حوالي 146 مطحنة، يتركز نشاط أغلبها في طحن القمح اللين بنسبة 85%، مقابل 14% للقمح الصلب و1% فقط للشعير. وأكد مجلس المنافسة أن تقييم مستوى تركيز السوق يعد خطوة أساسية لفهم دينامياته ورصد مخاطر الهيمنة، مشيرا إلى اعتماد مؤشر هيرفندال-هيرشمان لقياس درجة التركيز اعتمادا على مجموع مربعات الحصص السوقية. وفي ما يخص سوق القمح اللين، بلغ المؤشر 458.30، وهو مستوى يعكس تركيزا مرتفعا. إذ تهيمن سبع مجموعات على 49% من الإنتاج بحصص تتراوح بين 2.7% و11.6%، فيما تتقاسم 92 شركة أخرى نسبة 51% المتبقية، دون أن تتجاوز حصة أي منها 2.5%. ورغم هذا التمركز، يرى المجلس أن تعدد الفاعلين يبقي على حد أدنى من الدينامية التنافسية. أما في سوق القمح الصلب، فقد بلغ المؤشر 974.45، وهو مستوى يصنف ضمن التركيز المتوسط؛ حيث تستحوذ أربع مجموعات كبرى على 54% من الإنتاج، في مقابل 25 شركة تتقاسم 46% المتبقية. وبالنسبة ل سوق الشعير، سجل المؤشر مستوى مرتفعا جدا وصل إلى 2618.58، مما يعكس هيمنة واضحة لثلاث مجموعات فقط تستحوذ على 71% من الإنتاج، بحصص تراوح بين 11% و47%، مقابل 13 شركة تتقاسم ما نسبته 29% المتبقية. ويؤكد المجلس أن هذا التركيز المرتفع يعطي للمجموعات الكبرى قدرة أكبر على التأثير في الأسعار والتحكم في ظروف السوق، ما يشكل تهديدا للتنافسية ويقلص فرص ولوج الشركات الصغيرة. وسلط التقرير الضوء أيضا على ازدواجية بنية القطاع، المتمثلة في وجود تركيز قوي من جهة، وتعدد كبير للمطاحن الصغرى الضعيفة تنافسيا من جهة أخرى. ويرى المجلس أن هذه الوضعية تعمّق التفاوت في القدرات الإنتاجية وفي القدرة على الاستثمار وتحديث البنيات، مما يعوق بناء صناعة مطاحن قوية ومندمجة على المستوى الوطني. وأشار التقرير إلى أن الدعم العمومي المخصص للقمح اللين، الذي أُحدث لضمان استقرار الأسعار وحماية القدرة الشرائية للأسر، تحول مع مرور الوقت إلى عبء مالي على الدولة، كما أسهم في تشويه مؤشرات السوق وتعزيز امتيازات غير مستحقة لفائدة بعض الفاعلين، وهو ما اعتبره التقرير "ريعا اقتصاديا" يعيق الابتكار وتطوير الإنتاجية. كما كشف المجلس عن وجود فجوة مهمة بين أسعار القمح اللين في السوق الوطنية ونظيراتها في الأسواق الدولية بين 2019 و2023، إذ بلغ السعر الداخلي 446 درهما للقنطار سنة 2023، مقابل أسعار أقل في دول مثل الأرجنتين وروسيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة. ويرى التقرير أن استمرار توجيه المستهلكين نحو القمح اللين، بفعل الدعم، يحد من آفاق تنويع الإنتاج المحلي ويؤثر سلباً على القدرة التنافسية للقطاع. وفي ختام تقريره، دعا مجلس المنافسة إلى إعادة تقييم نموذج الدعم لضمان توزيعه بشكل أكثر عدالة وفعالية على مختلف حلقات سلسلة الإنتاج، وتعزيز مرونة واستقلالية الإنتاج الوطني، في إطار إصلاح شامل يرمي إلى إنعاش تنافسية القطاع وضمان استدامته.