حريق مهول يأتي على مطعم شهير بالجديدة    رزمات حشيش ملقاة على الجانب الطريق السيار بتراب جماعة سيدي إسماعيل    "عمر المختار" تنضم لأسطول الصمود    الدفاع الجديدي يوضح حادثة القميص    شرط كيم جونغ أون للحوار مع أمريكا    غوتيريش: إفريقيا بحاجة إلى شراكات    هزة ارضية جديدة بسواحل إقليم الحسيمة    تسجيل هزة ارضية بإقليم الحسيمة    أخنوش يترأس الوفد المغربي في الدورة ال80 للجمعية العامة للأمم المتحدة    اعتقال ثلاثة نشطاء في تيزنيت على خلفية "حراك المستشفيات"    نقابيو "سامير": الإرادة السياسية المتماهية مع مصالح لوبيات المحروقات هي السبب في خسائر الشركة    بورتريه: أمينة بنخضرة.. سيدة الوعود المٌؤجَّلة    كندا وأستراليا وبريطانيا تعلن اعترافها بدولة فلسطين    المغرب: زخات رعدية ورياح قوية يوم الأحد بعدة مناطق والحرارة مرتفعة نسبيا الإثنين    "حراك المستشفيات".. وزارة الداخلية تلجأ لقرارات المنع في مواجهة دعوات الاحتجاج المتزايدة    الجدل حول الإرث في المغرب: بين مطالب المجتمع المدني بالمساواة وتمسك المؤسسة الدينية ب"الثوابت"    إنتاجات سينمائية عالمية تطرق أبواب القاعات المغربية في الموسم الجديد    "حين يزهر الخريف".. الكاتبة آسية بن الحسن تستعد لإصدار أول أعمالها الأدبية    تعادل مثير بين ا.تواركة وأ.الدشيرة    تواصل البحث عن القارب "ياسين 9" المختفي منذ 7 شتنبر وسط ظروف مناخية مفاجئة    البرتغال تعلن الاعتراف بدولة فلسطين    توضيحات بخصوص اعتماد المغرب مسطرة طلب ترخيص إلكتروني للدخول إلى التراب الوطني خلال كأس إفريقيا    الدولي المغربي صيباري يهز شباك أياكس في قمة الدوري الهولندي    أخنوش: الإجراءات التي اتخذتها الحكومة شملت جميع الفئات    "كوباك" تعرض منتجات في "كريماي"    موهوب يسجل في مرمى "أورينبورغ"    جلالة الملك يهنئ رئيسة جمهورية مالطا بمناسبة عيد استقلال بلادها    الدوري الدولي لكرة القدم داخل القاعة بالأرجنتين..المنتخب المغربي يتفوق على نظيره للشيلي (5-3)    في بيان المؤتمر الإقليمي للاتحاد بالعيون .. المبادرة الأطلسية من شأنها أن تجعل من أقاليمنا الصحراوية صلة وصل اقتصادي وحضاري    الرجاء ينهي ارتباطه بالشابي وفادلو على بعد خطوة من قيادة الفريق    ميناء طنجة المتوسط يطلق مشروع توسعة بقيمة 5 مليارات درهم    مصرع شابين في حادثة سير مميتة بإقليم شفشاون        خط أنبوب الغاز الإفريقي الأطلسي يجسد الرؤية الملكية الاستراتيجية من أجل إفريقيا أكثر اندماجا (أمينة بنخضرة)            دور الفرانكفونية تجدد الثقة بالكراوي    المغرب يترقب وصول دفعة قياسية من الأبقار المستوردة الموجهة للذبح    بنخضرة: خط أنبوب الغاز الإفريقي الأطلسي يجسد رؤية الملك للاندماج الإفريقي    مطارات أوروبية لازالت تعاني صعوبات في برمجة رحلات الأحد بعد هجوم سيبراني    عملية بئر لحلو.. إنزال عسكري مغربي مباغت يربك "البوليساريو" ويفضح تورطها مع شبكات التهريب    "اقطيب الخيزران" تدشن موسمها الفني بمسرح المنصور بالرباط    الأردن يعيد فتح معبر "الملك حسين" بعد 3 أيام من إغلاقه    استخدام الهواتف الذكية يهدد الأطفال بالإدمان    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية ينهي المرحلة الثانية بانتصار ثمين ويحافظ على صدارة الترتيب    "الغد كان هنا" منجية شقرون تقيم معرضا شاعريا بين الذاكرة والضوء    الشرادي يتغنى بالصحراء المغربية في قلب موريتانيا    الانبعاثات الكربونية في أوربا تبلغ أعلى مستوى منذ 23 عاما (كوبرنيكوس)    دراسة.. النحافة المفرطة أخطر على الصحة من السمنة    انفصال مفاجئ لابنة نجاة عتابو بعد 24 ساعة من الزواج    الرسالة الملكية في المولد النبوي    تقنية جديدة تحول خلايا الدم إلى علاج للسكتات الدماغية        تسجيل 480 حالة إصابة محلية بحمى "شيكونغونيا" في فرنسا    الذكاء الاصطناعي وتحديات الخطاب الديني عنوان ندوة علمية لإحدى مدارس التعليم العتيق بدكالة    مدرسة الزنانبة للقرآن والتعليم العتيق بإقليم الجديدة تحتفي بالمولد النبوي بندوة علمية حول الذكاء الاصطناعي والخطاب الديني    الملك محمد السادس يدعو العلماء لإحياء ذكرى مرور 15 قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون الفرنسيون لم ينتجوا إلا اللغو الفارغ
نعوم تشومسكي وفرنسا.. حكاية خصام فكري بدأ قبل 30 سنة
نشر في المساء يوم 13 - 06 - 2010

مؤخرا زار نعوم تشومسكي، عالم اللسانيات الأمريكي المعروف، فرنسا بعد غياب دام قرابة ربع قرن. وكانت الزيارة مناسبة لمعرفة أثر أعماله
بين المثقفين الفرنسيين وجمهور المهتمين، إلا أنها بينت بالملموس أن الفرنسيين لم يعرفوا تشومسكي اللساني كما يعرفه جيرانهم الإيطاليون والألمان مثلا. ثمة سوء فهم بين الرجل والفرنسيين يعود إلى سنوات كثيرة خلت ظل خلالها تشومسكي يعتبر أن إنتاج دريدا ودولوز ولاكان ما هو إلا لغو فكري. «لوموند» خصصت صفحتين لتشومسكي في أحد أعدادها الأخيرة اقتبسنا منهما جزءا يسلط الضوء على أصل الخلاف وعلى بعض من أسس منهجية عمل هذا العالم الذي كان له فضل تأسيس اللسانيات التوليدية.
في سنة 1984، ذهب باحث شاب يسمى بيير بيكا للدراسة في الولايات المتحدة مع نعوم تشومسكي. كان حينها مؤسس اللسانيات «التوليدية» في أوج شهرته. فقد طالت شهرته كل أنحاء العالم، خاصة أنه مناوئ للإمبريالية ومتحرر من أي انتماء. وما هي إلا فترة قصيرة حتى ربط بيير بيكا علاقة متينة مع أستاذه في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا. تقوت علاقته بشومسكي حد أن مسؤولا في المعهد الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا كلفه، سنة 1994 بمهمة تجدير التقليد التشومسكي في فرنسا. يتحدث بيكا عن هذه التجربة قائلا: «وجدت الفكرة مهمة، لكن عندما حدثت تشومسكي عنها رد علي بسرعة: لن تنجح. وقد كان محقا في ذلك».
15 سنة بعد ذلك، بقي تشومسكي هامشيا في الجامعات الفرنسية. ومؤخرا، عندما أراد بيير بيكا تنظيم لقاء مع تشومسكي بباريس، لم يسهل له مسؤولو المعهد الوطني للأبحاث العلمية المهمة. فهل يتعلق الأمر بنوع من مؤامرة صمت ثقافية ضد تشومسكي؟ هل هو قمع أكاديمي ضد تشومسكي؟ لا، الأمر يتعلق بما هو أسوأ من هذا وذاك. إنها لامبالاة فحسب، واستهزاء مبطن.
رغم كل شيء نظم اللقاء يوم 29 ماي الماضي، وحج إليه كثير من المهتمين. لم يكونوا فرنسيين فحسب، بل كانوا إيطاليين وبرازيليين وأمريكيين أيضا. ظل تشومسكي، 81 سنة، يتكلم طيلة ساعة من الزمن. لم يتوقف ارتجاله لدرس في اللسانيات التوليدية، وكان في كل مرة يقوم من مكانه ويخط على السبورة جملة ثم يفككها. وبين الحين والآخر، كان يقحم جملة على سبيل الدعابة.
في نهاية اللقاء، خلت الأسئلة – أو كادت- من أي سؤال للفرنسيين. وهنا دليل آخر على أن تشومسكي ليس له تأثير كبير في فرنسا رغم أن علمه يُدرس في بقية بلدان أوربا، ورغم أن الفرنسيين لعبوا دورا مهما في إشعاع لسانياته التوليدية. «خلال الستينيات والسبعينيات، يقول بيكا، عرفنا الجميع في أوربا بتشومسكي. تعرف عليه الإيطاليون والهولنديون والنرويجيون. لكن الحركة توقفت عندنا. وقد تساءلنا دائما عن السبب. لكن مهما كان السبب، فالفعل موجود: في فرنسا، أصبح النحو التوليدي «غيتو» صغيرا. جل كتب نعوم غير موجودة في فرنسا. الكتب الوحيدة التي تُنشر له في فرنسا هي الكتب السياسية، وهي أضعف من بقية كتبه.»
لكن، إذا كان بعض المخلصين لتشومسكي يتأسفون لتواري إنتاجه المعرفي خلف نصوصه وأعماله النضالية، فإن آخرين مسرورون لكون الأفكار السياسية لهذا المثقف الأمريكي صارت، اليوم، منتشرة باللغة الفرنسية سواء تعلق الأمر بأعماله حول خيانة المثقفين، أو بصناعة الإذعان أو بالهيمنة الأمريكية. صحيح أن أعماله تعاني من نوع من التشتت لأن تشومسكي لم يؤلف الكتاب الذي يعطي رؤية منسجمة لفكره السياسي. إلا أننا نتوفر على عدد من المؤلفات التي تجمع مقالاته وحواراته. ومنذ نهاية التسعينيات بدأت النصوص السياسية لتشومسكي تجتاح المكتبات الفرنسية. بدأت بنشرها، أولا، دور نشر صغيرة قبل أن تنضم إليها دور كبيرة. ونتيجة لذلك باع تشومسكي حوالي 20 ألف نسخة من أعماله في فرنسا. رقم جيد، إلا أنه ضعيف مقارنة مع بلدان أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا، حيث يبقى حضور تشومسكي أهم بكثير مما هو عليه في فرنسا. فما السر، إذن، في هذا الاستثناء الفرنسي؟ سيرج حليمي يفسر ذلك بقوله في لقاء نظمته «لوموند ديبلوماتيك» بأنه إذا كان تشومسكي لم يحضر إلى فرنسا منذ قرابة 30 سنة، فلأن «مجموعة من الحراس» أو «شرطة فكر حقيقية» فعلت ما بوسعها لمنع الاطلاع على نصوصه. من جهته أكد الفيلسوف جاك بوفيريس في مقدمة لكتاب «Raison et Liberté «بعنوان «تشومسكي أمام معارضيه»، أن الأخير يعتبر واحدا من المثقفين القلائل الذين تعرضوا –ومازالوا- للنقد والقذف، فكريا وأخلاقيا، بشكل حاد في فرنسا.
أصل الخلاف
أصل سوء التفاهم بين فرنسا وتشومسكي يعود كذلك إلى بعض الأحداث الإضافية. هنالك أولا «قضية فوريسون» التي مازالت ترخي بظلالها على نظرة المثقفين الفرنسيين إلى تشومسكي في فرنسا. سنة 1980، نُشر نص لتشومسكي على شكل تقديم لكتاب أصدره روبير فوريسون بدأ فيه المثقف الأمريكي بالقول إن القصد من وراء كتابة هذا النص هو الدفاع عن حرية التعبير. لكنه ذهب أبعد من ذلك فأثار رأيه جدالا كبيرا وضعه وجها لوجه أمام شخصية كبيرة من اليسار الفرنسي لها حضور مهم في الوعي الفرنسي. يتعلق الأمر بالمؤرخ والمناضل المناهض للاستعمار بيير فيدال ناكي (2006-1930). فقد رد الأخير على تشومسكي في كتابه «مغتالو الذاكرة» بقوله: «من حقك أن تقول: عدوي اللدود له الحق في الحرية (...)، لكن ليس من حقك أن تعيد رسم مزور بألوان الحقيقة». عن الموضوع نفسه علق فرانسو جيز، الرئيس المدير العام لمنشورات «لاديكوفيرت» وصديق وناشر فيدال ناكي، بالقول:»تأثر بيير (فيدال) كثيرا بتفسيرات تشومسكي التي لا تستند إلى أساس. لو لم يرتكب تشومسكي هذا الخطأ السياسي الجسيم، لكان سيكون مسموعا في فرنسا بشكل أفضل».
بعد هذا الحادث، صار على أصدقاء تشومسكي أن يتعاملوا مع هذا الوضع الموروث المسموم، الذي يبقى غنيا بالدلالات لمن يريد أن يفهم طبيعة العلاقة بين تشومسكي وفرنسا، لأن ما تطرحه هذه القضية بعيدا عن المواجهة بين تشومسكي وفيدال ناكي هو أن هذا الأخير لا يعير المثقفين الفرنسيين كثير احترام. فكل ما كتبه ديريدا ودولوز وفوكو ولاكان، أو كل ما يسميه الأمريكيون «French theory» (النظرية الفرنسية)لا يعدو أن يكون في نظر تشومسكي لغوا لا قيمة له. وإذا كان تعامل مع مؤرخ كبير للعصور القديمة، من طينة فيدال ناكي، باستهتار فإنه وصف أيضا المحلل النفسي جاك لاكان ب«المريض العقلي».
فرنسا تقاوم تشومسكي إذن. بلد ديكارت يجهل هذا العقلاني إلى حد كبير، وطن الأنوار يتنصل من مناضل الانعتاق هذا، الذي يعرف هذه الحقيقة، لذلك لم يزر فرنسا منذ ربع قرن مضى. لكن لمحاولة فهم هذا الاستثناء، لا يكفي الحديث عن وجود مافيا فكرية تمنع حضوره، بل ينبغي فهم السبب الذي يجعل خطاب تشومسكي السياسي أقل تأثيرا في باريس مقارنة مع روما أو برلين أو بورطو أليغر حيث يشكل اللساني الأمريكي، مع لولا (الرئيس البرازيلي) وتشافيز، أحد الوجوه البارزة في المنتدى الاجتماعي (...).
لكن حين يتحدث تشومسكي عن الدعم الأمريكي لدكتاتوريات أمريكا الجنوبية أو لطالبان، أو حين ينتقد الحرب في العراق أو الحصار المفروض على كوبا يشعر السامع بأن ما يقوله هو كلام مكرور. أما بالنسبة للرجال والنساء اليساريين، الذين تغذوا على فكر بيير بورديو ودانييل بنسعيد، بالنسبة للذين يحبون، اليوم ألان باديو، سلافيو زيزيك، أنطونيو نيغري أو جاك رانسيير، بالنسبة لجميع الذين يقرؤون «لوموند ديبلوماتيك»، فإن خطاب تشومسكي لا يحمل الشيء الكثير، باستثناء، ربما، مجال النقد الإعلامي حيث يبقى رائدا مرجعيا عند نشطاء الجمعيات المناوئة للعولمة.
إذا كان تشومسكي العالم معزولا في فرنسا، إذن، فلأن نظريته اللسانية تقابل باللامبالاة، وإذا كان خطابه السياسي له تأثير محدود في فرنسا مقارنة مع بلدان أخرى، فلأن المشهد السياسي الفرنسي يشهد حركية كبيرة ربما لا مجال فيها لأفكار تشومسكي.
ثمة سببا آخر لسوء الفهم بين فرنسا وتشومسكي ويتمثل في العلاقة التي يفترض أن تكون بين اللسانيات والسياسة التشومسكية. (...) الزيارة التي قام بها اللساني الأمريكي إلى فرنسا وُضعت من قبل المنظمين في إطار خدمة القناعة الإيديولوجية. إلا أن تشومسكي، نفسه، سبق له أن كرر أنه لا توجد أي علاقة بين الأمرين، أي بين اللسانيات والإيديولوجيا. بعد اللقاء، اصطحب بيير بيكا تشومسكي إلى مطعم صغير لتناول العشاء. «طرحت السؤال على نعوم: هل هنالك علاقة بين لسانياتك وسياستك، بين ما تسميه «مشكل أفلاطون» و«مشكل أورويل»، فأجابني ب«لا». قلت له إن ثمة لبس في فرنسا حول هذا الموضوع ولابد من توضيحه. فرد علي بأنه سيوضح هذا الأمر يوم الإثنين في محاضرته الأخيرة ب«كوليج دو فرانس».
فعلا، تناول تشومسكي القضية في محاضرته الأخيرة. تحدث طويلا وكرر المداعبات وأبدى قدرة كبيرة على الاستماع لجمهوره، غير أنه لم يرفع اللبس بين العلم والسياسة، ومر بدون حسن تخلص من اللسانيات إلى أحداث الشرق الأوسط.
عندما كان يستعد تشومسكي لمغادرة باريس، كان مازال لم يفعل شيئا من أجل رفع اللبس. «عندما رافقته إلى المطار، يحكي بيير بيكا، طرحت السؤال عليه مرة أخرى. فأجابني: «نعم، هنالك ربما مشكل خاص بفرنسا. لكنني لا أعرف». ودون أن يوضح اللغز، غادر فرنسا كمواطن عالمي يحب أن يقول دائما إنه يناضل من أجل مستقبل يمكن لأحفاده أن يستمروا في العمل على ضمان البقاء للسانيات.


لسانيات تشومسكي: فكرٌ ثوري متجدد
منذ عهد نيوتن، صارت جميع العلوم تبحث عن بطلها المؤسس. أما اللسانيات، فقد اعتقدت، عدة مرات، أنها وجدت مؤسسها. مع بداية القرن التاسع عشر، اعتُبر الألماني فرانز بوب هو المؤسس بعدما افتتح النحو المقارن. وفي بداية القرن العشرين، اعتُبر السويسري فيرديناند دو سوسير أب «البنيوية» هو المؤسس، قبل أن يُسند فعل التأسيس، في الأخير، إلى نعوم تشومسكي، الذي يفترض أن يكون أدخل الشعب العالم إلى الأرض الموعودة. ثمة سؤال مهم يجب طرحه هنا: هل يمكن أن نكون، نحن البشر أيضا، موضوع معرفة صارمة كما هي المعرفة التي تتعلق بالنباتات أو الخلايا مثلا؟
ثورة «النحو التوليدي»
يعود لتشومسكي سبقُ إحداث ثورة يرتبط بها اسم «النحو التوليدي»، والذي يعود أول تقديم له إلى العام 1957 مع كتاب «بنيات تركيبية». حتى ذلك التاريخ، كان اللسانيون يعتقدون أن مهمتهم تتمثل في تفسير السلوكات اللسانية الخاصة بمجموعة سكانية معينة. إلا أن تشومسكي نحا جانبا قليلا وقال إن مهمة اللساني هي تفسير قدرة كل فرد على إنتاج عدد لا منته من الجمل. لغتي لا تتكون، إذن، مما يقوله الناس في المجتمع حيث أنا ولدت، بل هي في رأسي. إنها تتكون من ميكانيزمات تجعلني قادرا على قول وفهم عدد لا متناه من الأشياء التي لن توجد أبدا. يعتبر تشومسكي أن هذا الإنتاج يشبه الطريقة التي يمكن أن نستخلص بها في النظريات الرياضية خلاصات انطلاقا من عدد محدود من الفرضيات. إدراككم لجملة ما باعتبارها صحيحة من الناحية النحوية مبني على نظام منطقي صغير، وهذا هو ما تسعى اللسانيات إلى إعادة تشكيله.
هكذا تصبح اللسانيات فرعا من علم النفس، لكن من علم نفس يعتبر الذهن نوعا من الحاسوب الذي يقوم بحسابات انطلاقا من كتابات شبيهة بكتابات المعلومياتيين ويقلب الفرضيات الذهنية إلى غاية الحصول، مثلا، على النص الذين تقرؤونه. بهذا الشكل أطلق تشومسكي «الثورة المعرفية»، التي يشترك في الاشتغال عليها أخصائيو المعلوميات، ومصممو البرامج المعلومياتية وأخصائيو العلوم الإنسانية وعلماء البيولوجيا والتي ندرك آثارها اليوم في كل مجالات المعرفة والتقنيات، بل حتى في حياتنا اليومية. يتعلق الأمر، بشكل عام، بمقاربة الإنسان، قبل كل شيء، مثل حيوان قادر على المعرفة وليس كحيوان سياسي أو اجتماعي، عقلاني أو رمزي أو ديني. وبما أن الإنسان لابد من أن ينجب ويلد، فسيكون هنالك أنثربولوجيون معرفيون، واقتصاديون معرفيون، وعلاجات نفسية معرفية، إلخ، كما أنه سيثير قضايا فلسفية من قبيل: هل العقل محبوس في العلبة الرأسية؟. قوة تشومسكي هي مقاربة مثل هذه الأسئلة من خلال مواجهتها بضرورة توفر الخصوبة العلمية. فهو لا يرى العلم إلا من خلال «برامج البحث»، أي الصياغة النظرية، ثم نقوم باختبارات على أمل أن تصمد النظرية، وأن تأتينا بمفاجأة وتغني نموذج الانطلاق، وتجدد رؤيتنا للأشياء. وإذا اقتضى الأمر، نغير النظرية كليا، وهذا هو ما وقع ل «اللسانيات التوليدية»(...)
الكلام كملكة عالمية
بداية من الثمانينيات، شهد النحو التوليدي تحولا حاسما. فلم تعد للسانيات مهمة وصف «اللغات»، بل وصف الكلام كملكة عالمية، فطرية. الكلام لم يعد هو القدرة على تعلم لغات كما النظم الشكلية الأخرى. ليس هنالك من لغات. هنالك، فقط، ملكة الكلام التي هي جهاز يمكن الإنسان من ربط العلاقة بين التجارب التي يقوم بها على جهازه الصوتي والأصوات التي تنتجها أجهزة الآخرين، من جهة والأفكار المتنوعة التي يكونها الإنسان على الأشياء، من جهة أخرى. قبل أن يتعلم الإنسان النطق، إذن، كان الكائن البشري يملك القدرة على إنتاج واستقبال الأصوات والقدرة على بناء تمثلات ذهنية لاعتقاداته. الكلام ظهر كواجهة بين هاتين الكفاءتين.
لا يتعلق الأمر فقط بالقول إن الكلام يمكن من التواصل، بل بالتأكيد على أن الكلام ينتج عن محاولة داخلية متعلقة بكل فرد للجمع بين هذين الجهازين الصغيرين اللذين يوجدان قبلا في دماغنا. فضلا عن أن هذه القدرة لا تأتي من المجموعة السكانية التي نسكن مع أفرادها، بل هي فطرية. تشومسكي يعتبرها نوعا من الألياف الكهربائية حيث يضع الطفل كابسات بحسب المعلومات التي يتلقاها. مهمة عالم اللسانيات هي أن يصوغ نظرية من هذه الوظيفة الذهنية أو الدماغية من خلال المقارنة بين مختلف اللغات لأجل فهم الميكانيزم الذي أدى إلى هذه الظاهرة التطورية، التي نسميها «الإنسان».
نظام بحث خاص
اعتمد تشومسكي نظام بحث أنتج مجموعة كبيرة من النتائج. لكنه لم يتوقف هنا، بل إنه انخرط منذ أواسط التسعينيات في برنامج طموح يهدف إلى البرهنة على أن ملكة الكلام، كما يمكن إعادة تشكيلها من خلال المقارنة بين اللغات، هي الحل «الأمثل»، البسيط، لمشكل العلاقة بين الإدراك والفكر. ولا عجب في ذلك طالما أن العلوم كلها تطرح فرضيات من هذا النوع. ويمكن الاستدلال هنا بمثال جمود الحركة في الفيزياء. صحيح أن اللسانيات لم تبلغ بعد هذا الحد، لكن تشومسكي يقول بتحديد برنامج يليق بأي لسانيات تريد أن تكون علمية. هنا أيضا، تثار جدالات حول هذا المنعطف المنهجي والتي ينضم إليها ليس فقط اللسانيون، بل الفلاسفة وعلماء البيولوجيا وعلماء النفس والمعلومياتيون أيضا. إذا كانت علوم الإنسان لم تعثر، مع تشومسكي، على أبيها الروحي كما كان نيوتن أبا للعلوم في زمانه، فليس من شك في أن أعمال تشومسكي فصلت بين فترتين: فترة ما قبل تشومسكي وأخرى بعده، وأنه لا يمكن لأي شخص معني بقضية معرفة كل ما يعنينا أن يتجاهل ما قدمه هذا العالم اللساني للسانيات. تشومسكي جعل اللسانيات في متناول الجمهور الواسع، وهو ما يستحق الانتباه إليه كما تدخلاته السياسية.
باتريس مانيغليي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.