مونت-لا-جولي.. مغاربة فرنسا يحتفلون في أجواء من البهجة بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    طقس الأحد: كتل ضبابية بعدد من الجهات    طقس الأحد: ضباب وسحب منخفضة بعدة مناطق بالمملكة    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    عائلة سيون أسيدون تقرر جنازة عائلية وتدعو إلى احترام خصوصية التشييع    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    طنجة.. وفاة شاب صدمته سيارة على محج محمد السادس والسائق يلوذ بالفرار    "جيل زد" توجه نداء لجمع الأدلة حول "أحداث القليعة" لكشف الحقيقة    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    لقاء تشاوري بعمالة المضيق-الفنيدق حول إعداد الجيل الجديد من برنامج التنمية الترابية المندمجة    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    تتويج مغربي في اختتام المسابقة الدولية للصيد السياحي والرياضي بالداخلة    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    فضيحة كروية في تركيا.. إيقاف 17 حكما متهما بالمراهنة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون الفرنسيون لم ينتجوا إلا اللغو الفارغ
نعوم تشومسكي وفرنسا.. حكاية خصام فكري بدأ قبل 30 سنة
نشر في المساء يوم 13 - 06 - 2010

مؤخرا زار نعوم تشومسكي، عالم اللسانيات الأمريكي المعروف، فرنسا بعد غياب دام قرابة ربع قرن. وكانت الزيارة مناسبة لمعرفة أثر أعماله
بين المثقفين الفرنسيين وجمهور المهتمين، إلا أنها بينت بالملموس أن الفرنسيين لم يعرفوا تشومسكي اللساني كما يعرفه جيرانهم الإيطاليون والألمان مثلا. ثمة سوء فهم بين الرجل والفرنسيين يعود إلى سنوات كثيرة خلت ظل خلالها تشومسكي يعتبر أن إنتاج دريدا ودولوز ولاكان ما هو إلا لغو فكري. «لوموند» خصصت صفحتين لتشومسكي في أحد أعدادها الأخيرة اقتبسنا منهما جزءا يسلط الضوء على أصل الخلاف وعلى بعض من أسس منهجية عمل هذا العالم الذي كان له فضل تأسيس اللسانيات التوليدية.
في سنة 1984، ذهب باحث شاب يسمى بيير بيكا للدراسة في الولايات المتحدة مع نعوم تشومسكي. كان حينها مؤسس اللسانيات «التوليدية» في أوج شهرته. فقد طالت شهرته كل أنحاء العالم، خاصة أنه مناوئ للإمبريالية ومتحرر من أي انتماء. وما هي إلا فترة قصيرة حتى ربط بيير بيكا علاقة متينة مع أستاذه في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا. تقوت علاقته بشومسكي حد أن مسؤولا في المعهد الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا كلفه، سنة 1994 بمهمة تجدير التقليد التشومسكي في فرنسا. يتحدث بيكا عن هذه التجربة قائلا: «وجدت الفكرة مهمة، لكن عندما حدثت تشومسكي عنها رد علي بسرعة: لن تنجح. وقد كان محقا في ذلك».
15 سنة بعد ذلك، بقي تشومسكي هامشيا في الجامعات الفرنسية. ومؤخرا، عندما أراد بيير بيكا تنظيم لقاء مع تشومسكي بباريس، لم يسهل له مسؤولو المعهد الوطني للأبحاث العلمية المهمة. فهل يتعلق الأمر بنوع من مؤامرة صمت ثقافية ضد تشومسكي؟ هل هو قمع أكاديمي ضد تشومسكي؟ لا، الأمر يتعلق بما هو أسوأ من هذا وذاك. إنها لامبالاة فحسب، واستهزاء مبطن.
رغم كل شيء نظم اللقاء يوم 29 ماي الماضي، وحج إليه كثير من المهتمين. لم يكونوا فرنسيين فحسب، بل كانوا إيطاليين وبرازيليين وأمريكيين أيضا. ظل تشومسكي، 81 سنة، يتكلم طيلة ساعة من الزمن. لم يتوقف ارتجاله لدرس في اللسانيات التوليدية، وكان في كل مرة يقوم من مكانه ويخط على السبورة جملة ثم يفككها. وبين الحين والآخر، كان يقحم جملة على سبيل الدعابة.
في نهاية اللقاء، خلت الأسئلة – أو كادت- من أي سؤال للفرنسيين. وهنا دليل آخر على أن تشومسكي ليس له تأثير كبير في فرنسا رغم أن علمه يُدرس في بقية بلدان أوربا، ورغم أن الفرنسيين لعبوا دورا مهما في إشعاع لسانياته التوليدية. «خلال الستينيات والسبعينيات، يقول بيكا، عرفنا الجميع في أوربا بتشومسكي. تعرف عليه الإيطاليون والهولنديون والنرويجيون. لكن الحركة توقفت عندنا. وقد تساءلنا دائما عن السبب. لكن مهما كان السبب، فالفعل موجود: في فرنسا، أصبح النحو التوليدي «غيتو» صغيرا. جل كتب نعوم غير موجودة في فرنسا. الكتب الوحيدة التي تُنشر له في فرنسا هي الكتب السياسية، وهي أضعف من بقية كتبه.»
لكن، إذا كان بعض المخلصين لتشومسكي يتأسفون لتواري إنتاجه المعرفي خلف نصوصه وأعماله النضالية، فإن آخرين مسرورون لكون الأفكار السياسية لهذا المثقف الأمريكي صارت، اليوم، منتشرة باللغة الفرنسية سواء تعلق الأمر بأعماله حول خيانة المثقفين، أو بصناعة الإذعان أو بالهيمنة الأمريكية. صحيح أن أعماله تعاني من نوع من التشتت لأن تشومسكي لم يؤلف الكتاب الذي يعطي رؤية منسجمة لفكره السياسي. إلا أننا نتوفر على عدد من المؤلفات التي تجمع مقالاته وحواراته. ومنذ نهاية التسعينيات بدأت النصوص السياسية لتشومسكي تجتاح المكتبات الفرنسية. بدأت بنشرها، أولا، دور نشر صغيرة قبل أن تنضم إليها دور كبيرة. ونتيجة لذلك باع تشومسكي حوالي 20 ألف نسخة من أعماله في فرنسا. رقم جيد، إلا أنه ضعيف مقارنة مع بلدان أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا، حيث يبقى حضور تشومسكي أهم بكثير مما هو عليه في فرنسا. فما السر، إذن، في هذا الاستثناء الفرنسي؟ سيرج حليمي يفسر ذلك بقوله في لقاء نظمته «لوموند ديبلوماتيك» بأنه إذا كان تشومسكي لم يحضر إلى فرنسا منذ قرابة 30 سنة، فلأن «مجموعة من الحراس» أو «شرطة فكر حقيقية» فعلت ما بوسعها لمنع الاطلاع على نصوصه. من جهته أكد الفيلسوف جاك بوفيريس في مقدمة لكتاب «Raison et Liberté «بعنوان «تشومسكي أمام معارضيه»، أن الأخير يعتبر واحدا من المثقفين القلائل الذين تعرضوا –ومازالوا- للنقد والقذف، فكريا وأخلاقيا، بشكل حاد في فرنسا.
أصل الخلاف
أصل سوء التفاهم بين فرنسا وتشومسكي يعود كذلك إلى بعض الأحداث الإضافية. هنالك أولا «قضية فوريسون» التي مازالت ترخي بظلالها على نظرة المثقفين الفرنسيين إلى تشومسكي في فرنسا. سنة 1980، نُشر نص لتشومسكي على شكل تقديم لكتاب أصدره روبير فوريسون بدأ فيه المثقف الأمريكي بالقول إن القصد من وراء كتابة هذا النص هو الدفاع عن حرية التعبير. لكنه ذهب أبعد من ذلك فأثار رأيه جدالا كبيرا وضعه وجها لوجه أمام شخصية كبيرة من اليسار الفرنسي لها حضور مهم في الوعي الفرنسي. يتعلق الأمر بالمؤرخ والمناضل المناهض للاستعمار بيير فيدال ناكي (2006-1930). فقد رد الأخير على تشومسكي في كتابه «مغتالو الذاكرة» بقوله: «من حقك أن تقول: عدوي اللدود له الحق في الحرية (...)، لكن ليس من حقك أن تعيد رسم مزور بألوان الحقيقة». عن الموضوع نفسه علق فرانسو جيز، الرئيس المدير العام لمنشورات «لاديكوفيرت» وصديق وناشر فيدال ناكي، بالقول:»تأثر بيير (فيدال) كثيرا بتفسيرات تشومسكي التي لا تستند إلى أساس. لو لم يرتكب تشومسكي هذا الخطأ السياسي الجسيم، لكان سيكون مسموعا في فرنسا بشكل أفضل».
بعد هذا الحادث، صار على أصدقاء تشومسكي أن يتعاملوا مع هذا الوضع الموروث المسموم، الذي يبقى غنيا بالدلالات لمن يريد أن يفهم طبيعة العلاقة بين تشومسكي وفرنسا، لأن ما تطرحه هذه القضية بعيدا عن المواجهة بين تشومسكي وفيدال ناكي هو أن هذا الأخير لا يعير المثقفين الفرنسيين كثير احترام. فكل ما كتبه ديريدا ودولوز وفوكو ولاكان، أو كل ما يسميه الأمريكيون «French theory» (النظرية الفرنسية)لا يعدو أن يكون في نظر تشومسكي لغوا لا قيمة له. وإذا كان تعامل مع مؤرخ كبير للعصور القديمة، من طينة فيدال ناكي، باستهتار فإنه وصف أيضا المحلل النفسي جاك لاكان ب«المريض العقلي».
فرنسا تقاوم تشومسكي إذن. بلد ديكارت يجهل هذا العقلاني إلى حد كبير، وطن الأنوار يتنصل من مناضل الانعتاق هذا، الذي يعرف هذه الحقيقة، لذلك لم يزر فرنسا منذ ربع قرن مضى. لكن لمحاولة فهم هذا الاستثناء، لا يكفي الحديث عن وجود مافيا فكرية تمنع حضوره، بل ينبغي فهم السبب الذي يجعل خطاب تشومسكي السياسي أقل تأثيرا في باريس مقارنة مع روما أو برلين أو بورطو أليغر حيث يشكل اللساني الأمريكي، مع لولا (الرئيس البرازيلي) وتشافيز، أحد الوجوه البارزة في المنتدى الاجتماعي (...).
لكن حين يتحدث تشومسكي عن الدعم الأمريكي لدكتاتوريات أمريكا الجنوبية أو لطالبان، أو حين ينتقد الحرب في العراق أو الحصار المفروض على كوبا يشعر السامع بأن ما يقوله هو كلام مكرور. أما بالنسبة للرجال والنساء اليساريين، الذين تغذوا على فكر بيير بورديو ودانييل بنسعيد، بالنسبة للذين يحبون، اليوم ألان باديو، سلافيو زيزيك، أنطونيو نيغري أو جاك رانسيير، بالنسبة لجميع الذين يقرؤون «لوموند ديبلوماتيك»، فإن خطاب تشومسكي لا يحمل الشيء الكثير، باستثناء، ربما، مجال النقد الإعلامي حيث يبقى رائدا مرجعيا عند نشطاء الجمعيات المناوئة للعولمة.
إذا كان تشومسكي العالم معزولا في فرنسا، إذن، فلأن نظريته اللسانية تقابل باللامبالاة، وإذا كان خطابه السياسي له تأثير محدود في فرنسا مقارنة مع بلدان أخرى، فلأن المشهد السياسي الفرنسي يشهد حركية كبيرة ربما لا مجال فيها لأفكار تشومسكي.
ثمة سببا آخر لسوء الفهم بين فرنسا وتشومسكي ويتمثل في العلاقة التي يفترض أن تكون بين اللسانيات والسياسة التشومسكية. (...) الزيارة التي قام بها اللساني الأمريكي إلى فرنسا وُضعت من قبل المنظمين في إطار خدمة القناعة الإيديولوجية. إلا أن تشومسكي، نفسه، سبق له أن كرر أنه لا توجد أي علاقة بين الأمرين، أي بين اللسانيات والإيديولوجيا. بعد اللقاء، اصطحب بيير بيكا تشومسكي إلى مطعم صغير لتناول العشاء. «طرحت السؤال على نعوم: هل هنالك علاقة بين لسانياتك وسياستك، بين ما تسميه «مشكل أفلاطون» و«مشكل أورويل»، فأجابني ب«لا». قلت له إن ثمة لبس في فرنسا حول هذا الموضوع ولابد من توضيحه. فرد علي بأنه سيوضح هذا الأمر يوم الإثنين في محاضرته الأخيرة ب«كوليج دو فرانس».
فعلا، تناول تشومسكي القضية في محاضرته الأخيرة. تحدث طويلا وكرر المداعبات وأبدى قدرة كبيرة على الاستماع لجمهوره، غير أنه لم يرفع اللبس بين العلم والسياسة، ومر بدون حسن تخلص من اللسانيات إلى أحداث الشرق الأوسط.
عندما كان يستعد تشومسكي لمغادرة باريس، كان مازال لم يفعل شيئا من أجل رفع اللبس. «عندما رافقته إلى المطار، يحكي بيير بيكا، طرحت السؤال عليه مرة أخرى. فأجابني: «نعم، هنالك ربما مشكل خاص بفرنسا. لكنني لا أعرف». ودون أن يوضح اللغز، غادر فرنسا كمواطن عالمي يحب أن يقول دائما إنه يناضل من أجل مستقبل يمكن لأحفاده أن يستمروا في العمل على ضمان البقاء للسانيات.


لسانيات تشومسكي: فكرٌ ثوري متجدد
منذ عهد نيوتن، صارت جميع العلوم تبحث عن بطلها المؤسس. أما اللسانيات، فقد اعتقدت، عدة مرات، أنها وجدت مؤسسها. مع بداية القرن التاسع عشر، اعتُبر الألماني فرانز بوب هو المؤسس بعدما افتتح النحو المقارن. وفي بداية القرن العشرين، اعتُبر السويسري فيرديناند دو سوسير أب «البنيوية» هو المؤسس، قبل أن يُسند فعل التأسيس، في الأخير، إلى نعوم تشومسكي، الذي يفترض أن يكون أدخل الشعب العالم إلى الأرض الموعودة. ثمة سؤال مهم يجب طرحه هنا: هل يمكن أن نكون، نحن البشر أيضا، موضوع معرفة صارمة كما هي المعرفة التي تتعلق بالنباتات أو الخلايا مثلا؟
ثورة «النحو التوليدي»
يعود لتشومسكي سبقُ إحداث ثورة يرتبط بها اسم «النحو التوليدي»، والذي يعود أول تقديم له إلى العام 1957 مع كتاب «بنيات تركيبية». حتى ذلك التاريخ، كان اللسانيون يعتقدون أن مهمتهم تتمثل في تفسير السلوكات اللسانية الخاصة بمجموعة سكانية معينة. إلا أن تشومسكي نحا جانبا قليلا وقال إن مهمة اللساني هي تفسير قدرة كل فرد على إنتاج عدد لا منته من الجمل. لغتي لا تتكون، إذن، مما يقوله الناس في المجتمع حيث أنا ولدت، بل هي في رأسي. إنها تتكون من ميكانيزمات تجعلني قادرا على قول وفهم عدد لا متناه من الأشياء التي لن توجد أبدا. يعتبر تشومسكي أن هذا الإنتاج يشبه الطريقة التي يمكن أن نستخلص بها في النظريات الرياضية خلاصات انطلاقا من عدد محدود من الفرضيات. إدراككم لجملة ما باعتبارها صحيحة من الناحية النحوية مبني على نظام منطقي صغير، وهذا هو ما تسعى اللسانيات إلى إعادة تشكيله.
هكذا تصبح اللسانيات فرعا من علم النفس، لكن من علم نفس يعتبر الذهن نوعا من الحاسوب الذي يقوم بحسابات انطلاقا من كتابات شبيهة بكتابات المعلومياتيين ويقلب الفرضيات الذهنية إلى غاية الحصول، مثلا، على النص الذين تقرؤونه. بهذا الشكل أطلق تشومسكي «الثورة المعرفية»، التي يشترك في الاشتغال عليها أخصائيو المعلوميات، ومصممو البرامج المعلومياتية وأخصائيو العلوم الإنسانية وعلماء البيولوجيا والتي ندرك آثارها اليوم في كل مجالات المعرفة والتقنيات، بل حتى في حياتنا اليومية. يتعلق الأمر، بشكل عام، بمقاربة الإنسان، قبل كل شيء، مثل حيوان قادر على المعرفة وليس كحيوان سياسي أو اجتماعي، عقلاني أو رمزي أو ديني. وبما أن الإنسان لابد من أن ينجب ويلد، فسيكون هنالك أنثربولوجيون معرفيون، واقتصاديون معرفيون، وعلاجات نفسية معرفية، إلخ، كما أنه سيثير قضايا فلسفية من قبيل: هل العقل محبوس في العلبة الرأسية؟. قوة تشومسكي هي مقاربة مثل هذه الأسئلة من خلال مواجهتها بضرورة توفر الخصوبة العلمية. فهو لا يرى العلم إلا من خلال «برامج البحث»، أي الصياغة النظرية، ثم نقوم باختبارات على أمل أن تصمد النظرية، وأن تأتينا بمفاجأة وتغني نموذج الانطلاق، وتجدد رؤيتنا للأشياء. وإذا اقتضى الأمر، نغير النظرية كليا، وهذا هو ما وقع ل «اللسانيات التوليدية»(...)
الكلام كملكة عالمية
بداية من الثمانينيات، شهد النحو التوليدي تحولا حاسما. فلم تعد للسانيات مهمة وصف «اللغات»، بل وصف الكلام كملكة عالمية، فطرية. الكلام لم يعد هو القدرة على تعلم لغات كما النظم الشكلية الأخرى. ليس هنالك من لغات. هنالك، فقط، ملكة الكلام التي هي جهاز يمكن الإنسان من ربط العلاقة بين التجارب التي يقوم بها على جهازه الصوتي والأصوات التي تنتجها أجهزة الآخرين، من جهة والأفكار المتنوعة التي يكونها الإنسان على الأشياء، من جهة أخرى. قبل أن يتعلم الإنسان النطق، إذن، كان الكائن البشري يملك القدرة على إنتاج واستقبال الأصوات والقدرة على بناء تمثلات ذهنية لاعتقاداته. الكلام ظهر كواجهة بين هاتين الكفاءتين.
لا يتعلق الأمر فقط بالقول إن الكلام يمكن من التواصل، بل بالتأكيد على أن الكلام ينتج عن محاولة داخلية متعلقة بكل فرد للجمع بين هذين الجهازين الصغيرين اللذين يوجدان قبلا في دماغنا. فضلا عن أن هذه القدرة لا تأتي من المجموعة السكانية التي نسكن مع أفرادها، بل هي فطرية. تشومسكي يعتبرها نوعا من الألياف الكهربائية حيث يضع الطفل كابسات بحسب المعلومات التي يتلقاها. مهمة عالم اللسانيات هي أن يصوغ نظرية من هذه الوظيفة الذهنية أو الدماغية من خلال المقارنة بين مختلف اللغات لأجل فهم الميكانيزم الذي أدى إلى هذه الظاهرة التطورية، التي نسميها «الإنسان».
نظام بحث خاص
اعتمد تشومسكي نظام بحث أنتج مجموعة كبيرة من النتائج. لكنه لم يتوقف هنا، بل إنه انخرط منذ أواسط التسعينيات في برنامج طموح يهدف إلى البرهنة على أن ملكة الكلام، كما يمكن إعادة تشكيلها من خلال المقارنة بين اللغات، هي الحل «الأمثل»، البسيط، لمشكل العلاقة بين الإدراك والفكر. ولا عجب في ذلك طالما أن العلوم كلها تطرح فرضيات من هذا النوع. ويمكن الاستدلال هنا بمثال جمود الحركة في الفيزياء. صحيح أن اللسانيات لم تبلغ بعد هذا الحد، لكن تشومسكي يقول بتحديد برنامج يليق بأي لسانيات تريد أن تكون علمية. هنا أيضا، تثار جدالات حول هذا المنعطف المنهجي والتي ينضم إليها ليس فقط اللسانيون، بل الفلاسفة وعلماء البيولوجيا وعلماء النفس والمعلومياتيون أيضا. إذا كانت علوم الإنسان لم تعثر، مع تشومسكي، على أبيها الروحي كما كان نيوتن أبا للعلوم في زمانه، فليس من شك في أن أعمال تشومسكي فصلت بين فترتين: فترة ما قبل تشومسكي وأخرى بعده، وأنه لا يمكن لأي شخص معني بقضية معرفة كل ما يعنينا أن يتجاهل ما قدمه هذا العالم اللساني للسانيات. تشومسكي جعل اللسانيات في متناول الجمهور الواسع، وهو ما يستحق الانتباه إليه كما تدخلاته السياسية.
باتريس مانيغليي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.