منحت الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها يوم الجمعة الماضي فوزا كبيرا لحزب العدالة والتنمية، الذي تصدر النتائج النهائية بفارق كبير عن حزب الاستقلال، الذي قاد الفريق الحكومي خلال الولاية الماضية. ولعل أولى ملاحظة تتبادر إلى الذهن لدى التعرض لهذه النتائج هي أن هذا التقدم الكبير لحزب العدالة والتنمية لم يكن من الممكن تصوره في ظروف سياسية، وطنية وإقليمية، خارج الظروف الحالية التي أجريت في ظلها الانتخابات الأخيرة، لأن سياسة الدولة تجاه المكون الإسلامي المعتدل ظلت تسير وفق قانون شبه صارم، يقضي بأن تعطى مكانة محددة للإسلاميين حتى لا يتصدروا المشهد الانتخابي، وفي نفس الوقت لا يتم إضعافهم بشكل كبير حتى لا يختل التوازن السياسي في هذا المشهد. وتذكر النتائج التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية اليوم بتلك التي حققتها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر عام 1991 خلال الانتخابات البلدية، والتي دفعت المؤسسة العسكرية إلى الانقلاب عليها، الأمر الذي أدخل البلاد دوامة من العنف والعنف المضاد قرابة عشر سنوات أنهكت الدولة والمجتمع. آنذاك كان المغرب يسوق نموذجه في التعامل مع الإسلاميين وفق القاعدة المشار إليها أعلاه، وكان يتم التذكير دائما بما يسمى الاستثناء المغربي، وهو الاستثناء الذي يعني أن الإسلاميين تحت السيطرة انتخابيا، وأنهم لا يمكن أن يتجاوزوا السقف الذي رسمته الدولة سلفا. وإذا كان الربيع العربي قد لعب دورا كبيرا في منح هذا الفوز لحزب عبد الإله بنكيران، الذي برهن على قدرة هائلة على استغلال المرحلة، فقد سدد في نفس الوقت ضربة إلى أحزاب سياسية أخرى ظلت مهيمنة على المشهد الانتخابي طيلة عقود مضت، نتيجة توليفة سياسية أشرفت عليها الدولة. لقد حصل حزب العدالة والتنمية على 80 مقعدا في البرلمان، بينما حصل حزب الاستقلال على 45 مقعدا، مما يعني فارقا بحوالي الضعف، ويحمل هذا دلالة سياسية قوية، ذلك أن حزب الاستقلال لم يكن مجرد مكون سياسي أدى أدوارا كبيرة لفائدة الدولة منذ إنشائه عام 1944 على يد الزعيم الراحل علال الفاسي، بل هو أيضا رمز لما يسمى ب«اللوبي الفاسي» النافذ، الذي ظل أحد الأعمدة التي تستند عليها الدولة، والسؤال هو: هل يعني تراجع الحزب اليوم أن الإسلاميين المعتدلين سيحلون محله في أداء هذا الدور وجها لوجه مع الدولة؟. الملاحظة الأخرى ترتبط بما حصل عليه حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي احتل الرتبة الثالثة بحصوله على 38 مقعدا بعد حزب الاستقلال، وهي نتيجة ربما كانت غير متوقعة لدى الكثيرين، بالنظر إلى ما رافق تحالف ثمانية أحزاب قبل تاريخ الانتخابات من تحليلات راهنت على فوز كاسح له يمنحه حق تشكيل حكومة لا يشارك فيها حزب العدالة والتنمية، خصوصا أن عرّاب هذا التحالف، صلاح الدين مزوار رئيس حزب التجمع، كان يوزع التصريحات بنوع من التفاؤل العريض، ولا يتردد في فتح جبهات، سواء مع العدالة والتنمية، الذي يبدو أن التحالف أنشئ تحديدا لتقليم أظافره انتخابيا، أو مع حزب الاستقلال بزعامة عباس الفاسي، بمعنى أنه لم يوفر انتقاداته، سواء تجاه المعارضة أو تجاه الأغلبية، وكأنه يراهن على هدية انتخابية تتجاوز الطرفين معا. الملاحظة الثالثة تخص حزب الأصالة والمعاصرة، الذي احتل المرتبة الرابعة من حيث النتائج النهائية بعد حزب التجمع بحصوله على 33 مقعدا، وكان جزءا من التحالف الذي شكله هذا الأخير. ويمكن القول إن هذا الحزب، الذي ارتبط منذ نشأته باسم فؤاد عالي الهمة، حقق اختراقا ملحوظا في هذه الانتخابات، وتمكن من نيل رتبة مهمة، متقدما على أحزاب تقليدية لديها من التجربة السياسية والحنكة الانتخابية ما راكمته طيلة عقود مقارنة بحزب محمد الشيخ بيد الله الذي تعد هذه الانتخابات أول انتخابات برلمانية يشارك فيها بعد تأسيسه قبل أربع سنوات، في الوقت الذي كانت كل المؤشرات تشير إلى أن الحزب قد يتلقى ضربة قوية ربما تنهي مشواره السياسي، أو تضعه على أقل تقدير في رتبة دنيا مقارنة بالأحزاب الأخرى، خصوصا أن الحراك الشعبي الذي شهدته شوارع المدن المغرب كان جزء من الغضب الشعبي فيه موجها إلى هذا الحزب وصانعيه. ويرجع ذلك إلى أن الحزب عرف كيف يستثمر بعض الاحتياط الانتخابي الذي يتوفر عليه، من خلال الاستعانة بالأعيان، وهو معطى تحقق مع الأحزاب الأخرى بنفس القدر تقريبا، منذ أن ظهر التوجه في الانتخابات السابقة إلى الاغتراف من محيط الأعيان ك«ريع انتخابي» يتم اللجوء إليه لرفع منسوب الأصوات. أما الملاحظة الرابعة والأخيرة فترتبط بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي احتل المرتبة الخامسة بعد حزب الأصالة والمعاصرة، بحصوله على 29 مقعدا. وقد عززت الانتخابات الأخيرة نتائج الحزب في انتخابات 2007 من حيث تأكيد التراجع الانتخابي للاتحاد الاشتراكي، وبداية أفول نجمه السياسي وسط الناخبين، علما بأن النتائج التي حصل عليها تثير نوعا من التساؤل عما إن كان ما حصل عليه الحزب يعد عقابا انتخابيا له، بالرغم من أن حزب الاستقلال هو الذي كان يقود الفريق الحكومي، وهو التساؤل الذي يحتاج إلى تحليلات أعمق لمعرفة اتجاهات الناخبين من الأحزاب، وإلى أي مدى يلعب مؤشر «العقاب الانتخابي» في المغرب دورا في توجيه ميول الناخب كما هو الحال في البلدان الأوروبية ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، والتي يجري فيها التصويت على أساس البرامج والحصيلة الانتخابية وليس على أساس الشخص والقبيلة.