أذكر رجلا تعلم في زمن كان المغاربة لا يزالون يبحثون فيه عن ضوء في آخر النفق، أي بعد أن نال المغرب الاستقلال، وخرج «الفرانسيس» من بلدنا بعد تضحيات جسام، أذكر هذا الرجل الذي درس في جامعة القرويين، واشتغل بعد تخرجه منها معلما لتلك الأجيال التي كانت لا تعرف «الألف» من «الزرواطة»، تلك الأجيال التي كان أغلبها في سن الزواج وكان يترجونها أن تأتي إلى المدرسة، في حين أنهم كانوا يفضلون رعي الماعز وركوب الحمير على دخول هذه المدرسة التي شن ضدها بعض فقهاء ذلك الزمان حملة شرسة لكونها لن تعلم الأبناء سوى «المسخ» و«أفتوا» ببقائهم في «الجامع» لحفظ كتاب الله وطاعة «الفقيه». ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انبرى كثير من المغنين الشعبيين إلى تأليف أغان شعبية بطليها «المدرسة والجامع» ينتهي فيها «الخصام» بينهما إلى تغليب كفة الجامع على هذه المدرسة التي تفتح عيون الأطفال على مناطق ضوء كثيرة، من ضمنها جرأة السؤال وحدة الانتقاد وتسخير العقل وتحفيزه عوض تركه نائما في سبع نومات، مما يجعل المرء المتعلم كالحمار الذي يحمل أسفارا لا يعرف ما تحمله من أسرار في بطونها، فيبقى هو مثل الذي في بطن الحوت لا يعرف ما تحويه الدنيا و يستطيع أن يقرأ ما في كتاب الكون الفسيح. الصراع كان شديدا بين «النقل» و«العقل» بين العالم والفقيه، «بين الفيلسوف وبين المجتر، بين الأمي والقارئ. ووحده الزمن حسم الأمور وجعل السماء ساطعة لا يخفي ضوئها غربال. تبين للجميع أن العلم ينير الظلمات ويفتح المغالق ومعه وحده ينبلج الفجر، ومن سار في طريق آخر بقي مع الذين في ضلالهم وجهلهم يعمهون. أذكر هذا الرجل الذي وبعد أن «أخذنا» الاستقلال، وهو المناضل السياسي اليساري الذي كان يتجاور فيه ماركس مع عمامات الفقهاء، أذكره وهو الذي ناضل من أجل التوزيع العادل للثورة، وتعليم أبناء الشعب وعدم تركهم عرضة لغول الجهل. أذكره وأنا أعيش في ما بعد خمسين سنة من الاستقلال، وأنا أرى جحافل الأميين الذين لم يتناقصوا بالرغم من رفع شعارات محاربة «الأمية». والمصيبة عظمت في وقت كنا نريدها أن تكون عكس ذلك. وحتى إن قيل إن هناك دروسا تقدم في محو الأمية فهي تبقى محدودة في تعليم «الألف والباء» وعموميات الدين، أليس من حق المتعلمين أن يطلع على العلوم والتربية والقانون وما إلى ذلك؟ مات ذاك الرجل منذ سنوات ولم يمت الجهل والأمية، لكن قولته المأثورة: «عذاب العالم جلوسه مع الجاهل» بقيت ترن في أذني مثل جرس إنذار، وأنا لا أدري لماذا لم تقتل سيوفنا الخشبية ذاك الشبح المخيف، من يطعمه ومن يحميه؟ ومن يوفر له الأمان كي يعيش في تلك الزوايا المظلمة كي يعشش مثل العناكب؟ مؤخرا قرأت خبرا في وكالات الأنباء مضمونه أن إحدى الجامعات الأمريكية في إحدى العواصم العربية منحت فرصة بداية جديدة لمن تجاوز سن الخمسين سنة من أجل تحفيز كبار السن على اكتساب المعرفة والثقافة حيث يشجعهم ذلك كي يظلوا فاعلين في المجتمع. الفكرة وإن كانت منقولة عن تجارب غربية إلى أعجبتني وتمنيت لو نفتح مدارسنا وجامعاتنا نحن لمن لا يزال في سن العطاء ونكسر ذاك الباب الحديدي الذي منع كثيرا من الطاقات من الاستمرار في طريقها، فبتشجيع العلم وأهله نقضي على ذاك الشقاء وينبلج فجر جديد.