بكثير من الفرجة السينمائية العالية ومن التمكن من أدوات الفن السابع وبخبرته الطويلة في إدارة بلاتو التصوير، وأيضا ب«كادراج» جيّد يعكس الاتساع والفخامة وموسيقى تصويرية في غاية الإبهار وإضاءة شديدة الشفافية تكشف تفاصيل الملامح والوجوه، يحاول المخرج اللبناني زياد الدويري في فيلمه «الهجوم»، الذي عُرض أول أمس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان مراكش، أن يقنع المُشاهد بوجود إمكانية غير مطروحة على طاولة المفاوضات العسيرة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ويمكن إجمال هذه الإمكانية، شكلا ومضمونا، في «إمكانية التعايش». يمكن القول، دون مواربة، إن كلمة «التعايش» هي الكلمة الأكثر مدعاة إلى السخرية على أرض الواقع الفلسطيني -الإسرائيلي، فليس لهذه الكلمة وجود في القاموس اليوميّ، ولذلك حين يصرّ البعض على تربيتها في أحضان دفء المنتديات واللقاءات الأكثر سرية بين وجوه «الاعتدال» من الجانبين، يأتي الخبر اليقين من صواريخ «الكاتيوشا» أو من هجوم بطائرات «أباتشي» على مزارع الزيتون والأحياء الفلسطينية الآهلة بالسكان، أو من خلال عملية «انتحارية» تنفذها في الغالب فتاة جميلة وعلمانية لا تثير الشكوك في عمق تل أبيب، المحصنة بالمعابر والجدران الإسمنتية وبكاميرات المراقبة واستخبارات «الشاباك».. هذا ما يتأكد تماما من خلال قصة فيلم «الهجوم»، المستقاة من رواية للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا، والتي تحكي قصة أمين جعفري، وهو جرّاح إسرائيليّ من أصل فلسطيني، يعيش في تل أبيب، حيث استطاع أن يحقق معادلة مستحيلة بالاندماج في المجتمع الإسرائيلي، وستمكنه مهارته كجراح بارع يعمل في أحد كبريات المستشفيات في تل أبيب من حيازة وضع اجتماعيّ غير مسبوق. يعيش أمين رفقة زوجته الجميلة سهام، فلسطينية الأصل، مسيحية الديانة، الليبرالية في جو نموذجيّ، وفي بحبوحة تشكل مشتلا مأمولا لوضع يقدّمه لنا المخرج على أنه فرضية ممكنة التحقق. لكنّ هذا الأمان الداخلي والسلام الاجتماعي سيهتز، بعد أن يفلح تنظيم فلسطينيّ في تجنيد سهام وإقناعها بتنفيذ عملية انتحارية سيجري التخطيط لها بدقة، لتحين ساعة الصفر، حيث ستفجر سهام نفسها في مطعم صغير في محطة بنزين كان يؤمّه أطفال وقت الغذاء، والسبب، وفق رسالة بعثتها إلى زوجها: «الحاجة إلى الوطن».. هذا هو صلب حكاية «الهجوم»، من هنا ستهتزّ تلك الثقة الرغدة، بين الفلسطيني الجراح الماهر، صاحب الكفاءة العلمية وبين أصدقائه الإسرائيليين، ليعود كل إلى موقعه، والاحتماء بجدارته الجاهزة.. وحتى بعد أن يخضع أمين جعفري لتحقيق من قِبَل «الشاباك»، ويجري التأكد من أن زوجته هي الانتحارية المنفذة، يسلك أمين جعفري طريقه الخاص في كشف ملابسات هذه القضية، وكيف استطاع التنظيم الفلسطينيّ اختراق عقل هذه السيدة الجميلة، التي كانت تتمتع بكل أسباب الحياة المُرفَّهة. ولإيجاد أجوبة لتساؤلاته المحيّرة، يذهب إلى نابلس ورام الله من أجل كشف الحقيقة، وهناك يلتقي عائلته، التي كانت على صلة بها والشيخ الذي جنّدها وابن أخته، الذي لعب دور المؤطر، والقس القيّم على الكنيسة التي تنتمي إليها.. وتدو حوارات في غاية الأهمية حول الوطن والهوية والعدو والسلام، ليعود جعفري إلى تل أبيب محطما وفي حالة تشويش كبرى، بعد أن أصبح فاقدا للثقة من الجانبين، من الإسرائيليين الذي بدؤوا يضعون علامات الاستفهام حول إخلاصه للوطن «المكتسَب»، ومن الفلسطينيين، الذين يعتبرونه ناكرا لوطنه ولا يشعرون بالامتنان والفخر تجاهه سوى لأنّ زوجته نفّذت العملية الانتحارية، أو لنقل العملية الفدائية.. فطريق عدم الثقة هو مدعاة إلى التمزق، ومن أكثر السبل إثارة للعدوانية من طرف المتمترسين في اصطفافاتهم التي أملتها شروط وواقع شديد التعقيد، لم يفلح فيلم «الهجوم» في استبطانه بعمق، وربما فشل في الحرص على صياغة توازن بينيّ في قضية لا تحتمل، في ظل ما هو كائن على الأرض، إلا الانتماء هنا أو هناك، لا مجال للشجن ولا للتحليقات، إذ سرعان ما سيكسر ذلك الهدوءَ الزجاجيَّ دويَّ انفجار أو ألسنة دخان ترتفع إلى عنان السماء، لتعلن انهيار كل شيء وبداية الكابوس.. ولا يجب أن يغيب عن الأذهان أن الفيلم منتَج من طرف خمس دول، وهي لبنان وفرنسا وقطر ومصر وبلجيكا، أي أنه منتج من دول المواجهة ومن الدول الراعية، وعلى رأسها قطر، التي تلعب اليوم دورا كبيرا في المنطقة، وفي الصراع العربي الفلسطينيّ على وجه التحديد.