كلما تقدم الإنسان في العمر، يتوغل رأسه في الضباب ويصبح النسيان رفيقه، تصير ذاكرته مليئة بالثقوب والثغرات والأوهام. الغريب أننا يمكن أن ننسى ما أكلناه هذا الصباح ونتذكر فطورا شهيا التهمناه ذات طفولة بعيدة، بأدق التفاصيل. النهاية عودة إلى البداية، و»الله يثبتنا على الشهادة». هناك أشياء لا نستطيع حفظها مهما حاولنا، وأخرى لا يمكن التخلص منها، وأحيانا تلتقي أشخاصا تعرفهم جيدا دون أن تتمكن من استحضار أسمائهم، تتحدث معهم بكثير من الحرج متفاديا كل ما يجعلك تنطق باسمهم، علما بأن المسألة تصبح «سوريالية» عندما تصادفهم وأنت مع شخص آخر، بحيث تكون مجبرا على التكفل بالتقديم كما تقتضي اللياقة. إحراج حقيقي. لكن مشكلتي العظمى تظل مع تذكر الأمكنة والتنقل في الفضاء: حتى لو زرت العنوان مائة مرة يمكن أن أنساه، وأحتاج إلى شخص يدلني عليه في المرة الموالية. أما الأرقام، فبعد آلاف المحاولات الفاشلة أقلعت نهائيا عن محاولة حفظها، أكتبها على ورقة، بما في ذلك رقم هاتفي و»كود» بطاقة البنك... الألزايمر ليس بعيدا والحمد لله. لكن من يسأل لا يتوه والناس ليسوا دائما أشرارا. أحيانا تكون ضائعا في مدينة وتسأل شخصا فيمشي معك من شارع إلى شارع ومن حي إلى حي ومن زنقة إلى زنقة حتى تعثر على العنوان الذي تفتش عنه، وتجد نفسك تردد أن العالم مازال بخير مادام فيه ناس بهذه الطيبوبة، وأحيانا تقع على «حيوان» غير أليف بدل أن يدلك على المكان الذي تبحث عنه يقطب جبينه كأنك سألته عن راتبه، ويمكن أن يشتمك لأنك تجرأت وتحدثت معه في أمر لا يعنيه، فتنتهي بأن تلعن المدينة والحي والشارع الذي التقيت فيه بهذا الصنف من البشر؛ وهناك من يمسك العصا من الوسط، لا يعبس في وجهك لكنه لا يبذل جهدا كبيرا كي يساعدك، أقصى ما يمكن أن تأمل منه أن يحرك أصابعه وهو يلوح لك في اتجاهات شتى؛ وهناك النوع الكسول الذي يشير دائما إلى أقرب «رومبوان» ويقترح عليك أن تسأل أول شخص تلتقيه، ثم ينتظر منك أن تقول له شكرا كأنه دلك على «الكنز». هؤلاء مزاجهم أقرب إلى الفرنسيين، الذين عثروا من زمان على أنسب حل للتعامل مع «التائهين»، ما إن تسأل أحدهم عن وجهتك المجهولة حتى يقلب شفتيه ويرد في لامبالاة مدهشة: لا أعرف (Je sais pas!)، لحسن الحظ أن كل شيء مرتب بعناية في المدن الفرنسية، ولا تحتاج إلى كثير من الأسئلة كي تعثر على وجهتك، بخلاف المدن المغربية التي يمكن أن تنجح في العثور على البترول فيها وتفشل في الوصول إلى أسماء بعض شوارعها. متاهات حقيقية. ولكل مدينة سمعتها في «دليل التائهين»، كل واحد يلقي باللوم على الآخر: المراكشيون ينتقدون استعلاء الفاسيين الذين يتركون الغرباء ضائعين بين أزقة مدينتهم الضيقة، والفاسيون يقولون إن المراكشي يجد متعة في تضليل من يسأله، والرباطيون يتهمون الكازاويين بأنهم يدلون الضائع بالمقلوب، والكازاويون يقولون إن الرباطيين «دافعين كبير» ولا يردون حتى السلام فبالأحرى أن يدلوك على المكان الذي تفتش عنه، لذلك يستحقون ما يحصل لهم بين شوارع وأزقة الدارالبيضاء، بل من واجب كل «كازاوي حر» إذا سأله الرباطي عن «درب عمر» أن يرسله إلى «درب غلف»...