وصايا الكتابة تنتمي إلى تقليد ثقافي عريق. فكلما نبغَ كاتب أو شاعر في جنس أدبي معين كلَّما وجدَ مبررا لتدبيج رسائل موجهة إلى المستقبل. ربما لا يجني أصحاب هذه الرسائل فوائد شخصية من وراء صنيعهم هذا، لكنهم يندفعون، مع ذلك، بغريزة البقاء الأدبي، لمُخاطبة المواهب الفتية، في شأن ما يُؤّمِّن عبورهم الظافر إلى أسرار الإبداع ومجد الكتابة. لا ترتبط وصايا الكتابة فقط بما يصدر عن المبدعين من تصريحات، في معرض ردّهم على أسئلة الصحافة، وإنما ترتبط أيضا بما يتجاوز هذا المستوى العابر، إلى مستوى التأليف المفكر فيه بروية، تنمُّ عن هاجس مؤرَّق بسؤال مستَقبل الأدب. فِي هذا السياق، تندرج قصيدة محمود درويش «إلى شاعر شاب»، التي يوجه فيها الشاعر، مِن وراء القبر، رسالته الأخيرة، إلى كلِّ مَن توسَّم في نفسِه الموهبةَ والقدرةَ على مواصلة حملِ نار الكلمة الشِّعرية، إلى الإنسانية القادمة، المعقودِ على قلبِها وراثة السر. ظهرتْ قصيدة «إلى شاعر شاب»، ضمن نصوص ديوان«لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي». وهو أحد إصدارات ما بعد الموت، التي تُجسِّد مثالا قويا لِحداد الكِتابِ على شاعره. مِن هُنا، يأخذُ تلفظُ محمود درويش في القصيدة قيمةَ المُتحدثِ مِن وراء القبر، المتوجّه برسائل مُغرِقة في حكمةٍ عتّقَها الموتُ إلى شاعر شاب، يتلمس طريقه الأولى إلى الحياة في الشعر ومن خلاله، وإلى الشعر في الحياة ومن خلالها. نجمل وصايا درويش في الرسائل التالية: أيها الشاعر «لا تصدق» خلاصات الشعراء السابقين، اعمل على نسيانها، وباشر القصيدة وكأنك «أول من يكتب الشعر، أو آخر الشعراء». إنها وصية الكتابة الشعرية المقتحمة، المسكونة بشرط البداية المتجددة، التي لا ترزح مطلقا تحت أثقال وراثة الجماليات السابقة، مهما كان حظُّها من الإبداع والفتنة. أيها الشاعر، لا تسأل «من أنا؟»، «أنتَ تعرفُ أمك.. أما أبوك... فأنتَ». إنها وصية الحرص على اليُتم، الذي يجعل الشاعر يعثر على أبوته في ذاته، فلا يخلص إلا لنداءاتها. النسب الأمومي يحضن الحركة الخلاقة، أما الأبيسي، فيقيد ويستعبد. أيها الشاعر الحقيقة بيضاء، انشُدها ب «حبر الغراب»، والحقيقة سوداء أكتبها ب«ضوء السراب». إنها وصية تُنسِّبُ الحقيقة، وتجعل سبل استدعائها متعددة، دونما ادعاء القبض النهائي على جوهرها. إنها سراب نسعى وراءه دائما بما نملك من ضوء داخلي، تتجدد طاقته باستمرار. أيها الشاعر «إن عشقتَ فتاة، فكُن أنتَ لا هي، مَن يشتهي مصرعه». إنها وصية تجربة الفناء في الحب حدّ الهلاك. والحب بهذا المعنى، لا يخلِّص الذات والقصيدة إلا إذا حوّل مجراهما إلى ما لم تستأنسْ به العادة. إن النجاة في الشعر مقرونة بتجربة الهلاك. هذا ما يعوّل عليه الشعر وهو يختبر أهوال الحب وفراديسه. أيها الشاعر «إن أطلتَ التأمل في وردة، لن تزحزحك العاصفة». إنها وصية الإشراق والاستغراق الداخلي والتربية الروحية، التي تجعل الذات جزءً صميميا من الموضوع، بحيث لا يمكن الفصل بينهما. إنهما يتخلقان في لحظة الهفو، ونشدان وحدة، يتلاشى معها ثقل العلم الخارجي، وتنهار حدوده. أيها الشاعر، اعلم أن «ألف عصفورة في يد، لا تعادل عصفورة واحدة، ترتدي الشجرة». إنها وصية ارتياد المجهول، الحي، المنفلت، الطائر، الفاتن، المغرد، وعدم الاكتفاء بالمعلوم الذي تحولَتْ عصافيره ذاعنة إلى القفص. أيها الشاعر «ضعْ الهامشي إلى جانب الجوهري، لتكتمل النشوةُ الصاعدة». إنها وصية عمل الشاعر، الذي يستدعي بمهارة الصانع العرضي، ليتناغم مع الجوهري، مؤسسا لقصيدة تضع قدما في الأرض وأخرى في الماوراء. إنها وصايا سبع، يوجهها الشاعر محمود درويش، من وراء القبر، إلى الشُّعراء الشبان، المؤتمنين على وديعة السر والمحبة والفن والجمال.