بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    اتحاد طنجة يفوز على نهضة بركان    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشروع الأعظم لحفظ التراث الإنساني
نشر في المساء يوم 31 - 01 - 2010


مقدمة عن طبيعة المشروع
منذ عام 1975م ولأكثر من ثلاثين عاما، وفي جبال فرايبورغ في جنوب ألمانيا، قريبا من الغابة السوداء، في منطقة شاوانسلاند، يقوم مشروع مثير يشرف عليه رهط من العلماء لحفظ التراث الإنساني، منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، خوفا من يوم الهول الأعظم، يوم ترجف الأرض والجبال، وكانت الجبال كثيبا مهيلا.
وهذه الذخيرة من المعرفة الإنسانية تتراكم كل يوم، وهناك اجتماع نصف سنوي للجنة العلمية من 16 مقاطعة من ألمانيا، لدراسة التخزين الأهم للمرحلة القادمة. وتعتمد بالدرجة الأولى الوثائق اليتيمة غير المكررة، في كل ما يتعلق بالثقافة والتاريخ والتراث، والصلح والحرب، والإنجاز العلمي والفتوحات المعرفية ومدارس الفلسفة وروعات الموسيقى، وليس قمامات السياسيين الكذابين..
كل ذلك يخزن في أنفاق يطلق عليها كهوف باربارا في مرتفعات أوبر ريد بعلو 1220 مترا عن سطح الأرض يتم الوصول إليها عبر مدخل سري، وفي أنفاق تمتد إلى عمق 100 مائة كيلومتر، في عمق الجبال وعلى 22 مستوى، وهي أنفاق محفورة منذ 800 عام كانت، في الأصل، مخصصة للوصول إلى المعادن الثمينة والمواد الخام.
وما حفظ من المشروع في العقود المنصرمة وحتى الآن، وضع في براميل حديدية بلغت 1466 برميلا، مع نهاية عام 2009م، وهي تزداد باضطراد، يزن كل برميل 122 كيلوغراما، في كل برميل 16 ميكروفيلما، كل فيلم بطول 1520 مترا، في كل بكرة من الفيلم 50 ألف لقطة، بما يهيىء لكل برميل احتواء 800.000 (ثمانمائة ألف) لقطة.
فإذا ضرب الرقم السابق في رقم 1466 لعدد البراميل يكون عدد اللقطات مليارا و172 مليونا و800 ألف صورة وثائقية، وهي ليست بشيء أمام الذخيرة المعرفية الإنسانية، التي تتراكم عبر الأنترنيت والأمازون و(الجوجول) الذي يعرف عن كل منا أكثر من معرفة كل واحد عن نفسه..
وبالطبع، يصاب الإنسان بالصدمة والذهول من هذا العمل الجبار، مقارنة بما يحدث في مظلة الأنظمة الجملوكية في عالم العربان في القضاء الجبار على كل عقل جبار!!...
وكأننا وهم نعيش على ظهر كوكبين مختلفين، بفارق سبعة قرون في التطور، فهم في القرن الواحد والعشرين ونحن في القرن الرابع عشر!!
لقد تم اعتماد الأفلام في (مشروع فرايبورج الثقافي الألماني) لصمودها عبر الزمن، فهي أفضل بما لا يقارن مع الأقراص الليزرية (CD)، فالكل يعرف علل الأقراص وعملها في جهاز دون جهاز وتعطلها بخدش وخرمشة واحتكاك، بحيث يمكنها حفظ المعلومات لمدة لا تقل عن ال500 عام المقبلة، ولا تحتاج في قراءتها إلى جهاز معقد وكمبيوتر، إن كثر عدسة مكبرة، ويمكن جر الشريط باليد ومطالعته..
وأعرف هذا من أفلام (VHS) الموجودة عندي منذ ثلاثين عاما، وتعمل مقارنة بأقراص ال«سي دي» التي تخرب مع كل عشرة استعمالات.. إلى حين ظهور طريقة أفضل لحفظ الأفلام والوثائق..
بل لقد قام فريق من المشاهير بوضع أهم إنتاجهم الفني في علب مختومة، لن تفتح قبل 1500 سنة، ولسوف يتم ذلك عام 3504م، وهذا يعني أن حفلة افتتاح هذه العلب المغلقة المصونة ستكون في منتصف الألفية الرابعة، محفوظة المعلومات في هذه الأنفاق، أو هكذا يتفاءلون من بقاء العالم حتى ذلك التاريخ، ما لم يتهدم فوق رؤوس أحفادنا قبل عام 3504م!
هذا المشروع يعتبر الأهم والأدق في تاريخ الإنسان حتى اليوم، لأرشفة وحفظ المعلومات، وكانت انطلاقته مع الحرب الباردة، ورب ضارة نافعة، فالسلم ولد من رحم الحرب.
ومازال المشروع يتابع طريقه وتزداد كمية المعلومات المحفوظة باضطراد، وما دفع إلى ولادة هذا المشروع هو الخوف من ضياع المعلومات، التي تعب الجنس البشري في تحصيلها على امتداد سبع ملايين من السنين. وبكلمة أدق، منذ بداية الكتابة قبل خمسة آلاف عام. فهذا هو المحفوظ منذ صحف إبراهيم وموسى، تضاف إليها بقايا الإنسان في جدران الكهوف أو المخطوطات والبصمات على الصخور والأنصاب، كما في تماثيل جزر الإيستر (عيد الفصح) في المحيط الهادي!
وهدف المشروع حفظ التراث الإنساني من كارثة نووية، أو فوضى هائلة عارمة على وجه الأرض، لا أحد يتوقعها أو يحسب لها حسابا، كما جاء في فيلم 2012م عن نهاية العالم، عسى أن يكون الجنس البشري لوقتها قد تجاوز الفزع الأعظم، فلم ينتحر بأسلحة الدمار الشامل والتهاب الفيروسات أو انفجار الفطر النووي فوق رؤوس الناس بحرارة ستة ملايين درجة سنتيجراد!
من يدري؟ فالإنسان خلق هلوعا جزوعا للخير منوعا ظلوما جهولا كفّارا..
وحتى يعقل الجنس البشري يجب حفظ الإنتاج المعرفي للعاقلين من الجنس البشري، ووجب تطبيق قاعدة (غلطة السكران على الصاحي).. وهذا يعني أنه وجب حفظ المعلومات وادخارها من الدمار، كما حصل أكثر من مرة، ومن أبرز الأمثلة تدمير الحضارة الإسلامية في بغداد على يد المغول وإلقاء كتبها في دجلة، بحيث استحال لون النهر أسود من مداد العلماء لأربعين يوما، في جسر هائل يمر فوقه الفارس من الضفة للضفة؟
فكم هي ملايين الكتب التي ألقيت في نهر دجلة مع 800 ألف جثة؟؟ فلم تقم للعراق قائمة منذ ذلك الوقت، فهي تتقلب من يد جبار عنيد إلى يد عتل زنيم، البويهيين.. السلجوقيين.. الأليخانات.. المماليك.. العثمانيين.. وأخيرا البعثيين الصداميين.. ثم التهامها من أفعى الأناكوندا الأمريكية..
درس التاريخ ولماذا تم التفكير في مشروع إنقاذ الثقافة؟
التاريخ يعلِّم، ومن يجهل دروس التاريخ يدفع الثمن مع الفوائد المركبة، والأيام حبالى بالأحداث الحزانى، والأرض ليست مكاناً آمناً بحال، وبنو آدم يمرون كالأشباح فوق ظهر المعمورة يحملون أوزارهم فوق ظهورهم ألا ساء ما يزرون.
والمستقبل مفتوح لكل الخيارات والاحتمالات أمام العقل العلمي، فليس من شيء مؤكد ومضمون وقاطع؟ ومنها نهاية العالم بفطر نووي، أو فيروسات الإيبولا والسارز، أو انقضاض مذنب على الأرض لم يحسب حساب زيارته اللطيفة؟!! فيخبط الأرض بقوة ارتطام تصل إلى حجم مائة مليون قنبلة هيدروجينية، كما رأينا في مذنب شوميكر الذي لطم المشتري فترنح؟ فتحجب السماء ويغطى الناس بدخان مبين، يغشى الناس، هذا عذاب أليم، وينقرض الجنس البشري كما انقرضت الديناصورات، قبل 65 مليون سنة.
أو كما حدث للجنس البشري بعد انفجار بركان كراكاتاو في أندونيسيا قبل 75 ألف سنة فلم يبق إلا أناسي قليلا.!!
أو في أحسن الأحوال الرجوع إلى عصر الكهوف وإنسان نياتدرتال، يطارد الوحوش والوحوش تطارده؟
ومن أجل ألا يضيع التطور الإنساني الذي بني حجرة حجرة من المعلومات، تم رسم خطة الخلاص باستخدام أنفاق باربارا في (شاوانسلاند) من جبال (فرايبورغ) أن تكون الرحم الإنساني المعرفي للمستقبل..
تقع كهوف الثقافة هذه في منطقة فرايبورغ، في جنوب ألمانيا، قريبا من الغابة السوداء، على حافة التلال المرتفعة، حيث تتلوى الطرقات وكأنها ثعابين الغابة، ويقرقع السواح اليابانيون البيرة كأسا دهاقا بأكواب من سعة ليترين يهرقونها في أقتابهم، وعلى بعد خطوات يبتسم الجبل بثغرة من بوابة عجيبة، تفضي إلى ممرات ودهاليز وأكواع وسلالم، إذا دخلها المرء يتعجب من ذكاء الإنسان وصبره وحسبانه لسوء المصير، ما يذكر بكهوف (تورا بورا) التي حفرها الأفغان خوفا من المغول، فأصبحت قواعد لجماعة القاعدة ورجالها هذه الأيام.
وهنا، نرى آلاف البراميل ليست للبيرة والويسكي، بل للمعلومات على شكل أفلام، تحفظ ذخيرة العلم الإنساني، وما جمع عبر القرون..
يقول (مارتين لوخترهاندت)، رئيس المشروع، ما معناه، عن الفكرة وكيف ولدت قبل أكثر من ثلاثين عاما والدافع إلى ذلك: «إن تصورنا يقوم على الهرب بذخيرة المعلومات وخلاصة الثقافة الإنسانية التي تم جمعها عبر الأحقاب إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا؟ وقصفت ألمانيا بالصواريخ النووية والقنابل الفطرية»،
ويتابع قوله بشيء من السخرية: «فلسوف يتبقى للناس من خلال مشروعنا ما يتابعون به الحضارة ويقرؤون في ظلام هذه الأنفاق؟» مثل المكتبات المعتمة من أيام الكاثدرائيات؟
ويعقب (لوثار بورفيش من المكتب الاتحادي المسؤول عن قسم (حماية الأمة ومساعدتها زمن الكوارث) فيقول: «في المستقبل البعيد، سوف يأتي من يتأمل عملنا، كما نشاهد نحن اليوم رسومات إنسان الكهوف قبل ثلاثين ألف سنة تطل علينا من العصور الحجرية؟».
منطقة الإنقاذ المركزية في أنفاق باربارا وماذا يحفظ؟
يضع فريق العمل براميل من الحديد على طبقات تحمل ثقافة الجنس البشري، وبالدرجة الأولى التراث الألماني، وبالدرجة الأولى ما بقي من العصور الوسطى، وبالدرجة الأولى الوثائق اليتيمة الأحادية غير المكررة، ثم ما لذ وطاب من ذخائر الفكر الإنساني: نوتات الموسيقى للخالدين، بيتهوفن وموزارت وباخ، روايات ديستوفسكي وتولستوي وهوجو ومان واليندي في بيت الأرواح، وثائق الحرب والسلام، الكتب المقدسة من التوراة والزبور والإنجيل والقرآن والفيدا والأبانشيد، وتعاليم لاوتسي وزن وبوذا، هكذا تكلم زرداشت لنيتشه (يعملون عليه حاليا)، أعمال الفكر لفلاسفة عصر التنوير فخته وسبينوزا وديكارت وشبنجلر وفولتير وشوبنهاور وهيجل، مناقشات سقراط وحوارات أفلاطون ومقولات أرسطو ومدرسة فيينا وهايدجر ووجودية ياسبرز، كذلك شعر شيللر وجوته وهاينه.
وسيأتي الدور على الشعر الجاهلي والمعلقات العشر وكتب الوردي والنيهوم ومالك بن نبي، ومرثية الأندلس لأبي البقاء الرندي وبكائية أبي العلاء المعري، أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فرع غصنها المياد؟ أعمال المسلمين المخطوطة المحفوظة في الأسكوريال قريبا من مدريد.
وصور الكثير... الكثير... من الوثائق مثل وثيقة صلح وستفاليا في (منستر) التي ختمت حرب الثلاثين عاما (1618 1648م) نذكرها لأهميتها في هندسة الحرب والسلم في التاريخ، وما توصل إليه لوردات الحرب والسلام عبر القرون: ميترنيح وريشيليو وفوكييه ونابليون، واتفاقيات زمن الشدة وبناء السدود وهندسة مأرب وبقايا حجر رشيد وحمورابي، وما سطرته المحاكم من قضايا خطيرة تم البت فيها، ووثائق الإقطاعيات وملكيات الأراضي، وبالطبع مجامع الكنيسة والهرطقات والديانات والنبوات والثورات وحركات الإصلاح والماجنا كارتا، وطيران رأس الملك شارل ومقصلة لويس السادس عشر وماري أنطوانيت، ومعه الثورة ورأس لافوازييه أبو الكيمياء، وماكس بلانك أبو ميكانيكا الكم ونسبية آينشتاين...
لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا صورتها وثقتها!!
إنه مشروع جوجول بالنسخة الأصلية التي لا تزول، وسفينة نوح تحت أرضية لكل الثقافة الإنسانية..
وهكذا، فإذا قدر وخسفت الأرض خسفا، وانتهت الحضارة فعلينا ربما التعلم وبناء الحضارة بالطريقة الجرمانية؟
ولكن القرآن سيكون هو حافظ اللغة العربية. وكما يقول إقبال: إذا أردت حفظ شيء فاكتبه باللغة العربية، لأنها خالدة بخلود القرآن..
ابتدأ المشروع منذ عام 1975م وهو ماض في طريقه يتضخم باستمرار واضطراد.. على الطريقة الألمانية الدؤوبة الصبورة الدقيقة المنجزة بدون كلل واستقالة..
كيف يمضي المشروع؟
كل ستة أشهر يتم تفقد البراميل السحرية الغالية من الحديد والرصاص التي بلغت حاليا 1466 برميلا، ليضاف إليها كل مرة 10 40 برميلا جديدا، طازجا بالمعلومات، من مطابخ الثقافة وصافي رحيق العلم، الموثقة بالصور، تحت شعار جوته في كتابه (فاوست):
«إنني أعلم الكثير ولكنني أريد أن أعرف كل شيء».
إنه نهم الاستزادة المعرفية التي حرمنا نحن منها، واستبدلناها بتقارير المخابرات السرية منذ عصر كافور الإخشيدي، كما استبدل أهل اليمن القهوة بالقات، فناموا وشخروا، كما هو نغم الشخير العام في الجملوكيات والمملوكيات والمشيخات...
ولكن السؤال هو: ما أهمية هذا العمل؟ ومن جهتين:
- أولا: بعد أن دفنت الحرب الباردة في صلاة خاشعة في باريس عام 1995م وبدأ تفكيك السلاح النووي من خمسين ألف رأس إلى أقل من عشرة آلاف والعدد في تناقص؟
لقد زال الخوف أليس كذلك؟؟ فما مبرر الاستمرار في حفظ الثقافة الإنسانية؟
- ثانيا: وعلى فرض انفجار العالم وهدمه، فكيف سيتم الاهتداء إلى هذا المخبأ السري؟ كما حدث في بكين حين أميط اللثام منذ فترة قريبة عن مدينة بكين جديدة كاملة تحت بكين الحالية بمساحة 60 كلم مربعا حفرها عشرات الآلاف من الصينيين بأدوات بسيطة وأحيانا بأكفهم وأصابعهم العارية؟ ولكن إذا انفجرت حرب نووية فستكون البداية من بني صهيون، فقد خزنوا على أحدث المعلومات 400 رأس نووي، تحت شعار لا عودة إلى أوسشفيتس؟ كناية عن محارق النازية في بولندا في الحرب العالمية الثانية، ومخزونهم يكفي لهدم العالم انطلاقا من أريحا وتل أبيب وأشدود وبيت لحم (من هذه الدولة الفسفوسة!!)..
وبالطبع، سيبدؤون أولا في مسح حواضر المدن الألمانية: مانهايم ودارمشتات وكيل وشتوتجارات وهامبورغ؟ انتقاما للهولوكست النازي، فلا يبقون على ظهرها ألمانيا، ذلك أن 40 رأسا نوويا أكثر من كافية لمسح عواصم العالم العربي، ونسف سد دجلة والفرات وأسوان، وإغراق الموصل والقاهرة وحلب بماء منهمر، ومعها دولة شمشون الصهيونية، كما جاء في كتاب سيمور هيرش (خيار شمشون)، أما البقية من الرؤوس ال400 فهي لرؤوس الجرمان، ولكن لا أحد يصرح ويقول؟؟
ومنه كانت صحة توقعات وتشاؤمات (مارتين لوختر هاندت)، رئيس مشروع سفينة نوح الثقافية، بأنه إذا قامت القيامة فسيكون أيضا من الصعوبة بمكان الوصول إلى هذا النفق، أو تذكره أيضا حين يتم الدخول عليه، وتفقده ومعرفة محتوياته، ثم تعلم اللغة الألمانية، لإدراك محتوى هذه الأفلام؟
والجواب متعدد الجوانب: أولا، أنه مشروع لا بد منه؟ ثم إن هذه الأنفاق موجودة في الأصل منذ 800 سنة جاهزة للاستعمال، قد وفرت ملايين من ساعات العمل والجهد؟ ويمكن استخدامها لهذه المهمة التاريخية.. (الله يخلف على معسكرات الاعتقال النازية، فقد حفروا قسما منه حتى الموت جوعا وتعبا!!)
يقول (لوخترهاندت) إن هذه الأنفاق حفرت عبر العصور للاستفادة من العديد من المعادن، مثل الفضة والخارصين والرصاص والفحم، وهي لائقة لفكرة الخزن الثقافي الاستراتيجي.. ويمكن تخزين أضخم حجم يحلم به إنسان للخزن المعرفي..
أنفاق باربارا موجودة منذ 800 عاماً!!
إن الجبال في منطقة أوبر ريد تحولت إلى غربال وعشوش نحل ودبابير، من كثرة الحفر، فالأعمال تتوالى عليها لأكثر من مشروع ومنذ 800 سنة، بحثا عن المواد الخام، ولا ننسى سخرة النازيين لتعساء المعتقلين في حفر الكهوف، وتزفيت الطرقات، وتشغيل مصانع الذخيرة والسلاح، بما يذكر بالمغول الذين كانوا يدخلون المعارك بأجساد المعتقلين، ويتمترسون بأجسام ضحاياهم من أهل القرى التي يحاصرونها إذا قذفوا بالنبال؟
أو ما فعله الطاغية فرانكو بعد الحرب الأهلية الإسبانية والتمكن من الصولجان والطاسة الملكية بتسخير خصومه من المعتقلين الشيوعيين ببناء أعلى صليب في العالم، والمسيح من الحزبين بريء، بنوه وهم يلعنون فرانكو والصليب والمصلبة.. ولقد رأيته أنا في إحدى زياراتي..
وتمتد هذه الأنفاق حاليا على امتداد 100 كلم؟ وعلى 22 مستوى، وبعض الأنفاق والممرات مفتوحة لزيارة السواح لتأملها، أما أنفاق باربارا فلا؟
والمسموح به فقط مرة واحدة في السنة وفي يوم محدد ولمجموعة لا تزيد على عشرين شخصاً، يقودهم مرشد سياحي بصرامة، يخضعون فيها لتفتيش ومراقبة دقيقين.. خوفا من عمليات التخريب، وهي لحسن الحظ لم تحدث حتى الآن ولا لمرة واحدة خلال 27
عاماً..
إن المكان المركزي المخصص لبراميل الثقافة يمتد حوالي 860 مترا في الجبال الرواسي، وتنخفض درجة الحرارة بعد عدة خطوات من دخول الممر إلى عشر درجات سنتجراد، وتنتهي بكتل من صخر الجرانيت والكوارتز، وهو مخبأ جيد للتخزين.
وعند بوابة الدخول التي لا تلفت النظر كثيرا، الزنابق الثلاثة باللونين الأزرق والأبيض، وهي علامة اتفاقية (هاج) لحفظ التراث في أزمنة الصراع، وهي اتفاقية بدأت منذ عام 1954م، وانضمت إليها مائة دولة، ودخلتها ألمانيا عام 1967م، ومنذ ذلك الوقت لا ترى الزنابق الثلاثة إلا في ثلاثة أمكنة: الفاتيكان ومتحف ريجيك في هولندا، وهنا عند (أوبر ريد) في ضواحي فرايبورج من جنوب ألمانيا قريبا من الغابة السوداء (شفارتس فالد).
ومنطقة أوبر ريد محظور الطيران فوقها، أو المشي فوقها من المدرعات العسكرية، وعلى عربات الجيش أن تلف بعيدا عنها بثلاثة كيلومترات..
وبالطبع، ليس من ضمانة لأعمال التخريب، فالتاريخ أعطانا خبرا من تدمير بغداد وتراثها الإنساني بالحصادة المغولية، كذلك تدمير تمثال بوذا الأعظم في باميان على أيدي مجانين الطالبان، وكان بإمكانهم الاستفادة منها للسياح في خلق دخل للبلد، بدل زرع الحشيش والمحششة؟
كذلك عمل المجرم الصربي (رادوفان كاراديتش) الذي مثل أمام العدالة عام 2009م، وهو من أمر بضرب المكتبة الوطنية في سراييفو في حرب البلقان المجنونة.
كذلك ما فعله النازيون في الحربين العالميتين من إشعال الحرائق في الأعمال الفنية، وحرق مكتبة الجامعة في بلجيكا عام 1914 بدون مبرر سوى لذة التدمير..
اجتماع لجنة العمل الدوري
يجتمع أعضاء الفريق العلمي مرة كل سنة ب16 موظفا من 16 ولاية، لدراسة نوعية الأفلام التي يجب أن تصور، ومثلا فكل وثيقة أقدم من 200 سنة لها الأولوية خشية تلفها، خاصة تلك اليتيمة التي هي نسخة وحيدة في العالم مثل مونا ليزا وأعمال رامبراندت أو نسخ الكتب المقدسة القديمة، وهناك الكفاية من أفلام الحرب العالمية الثانية، فيمكن أخذ نسخ عنها.
أما أماكن التصوير فهي 15 مركزا موزعة في كل ألمانيا، ومركز برلين هو في فيتناو، الذي كان في الأصل مركزا للذخيرة والسلاح فتم ترميمه، وتعمل فيها سيدتان ورجل في غرفة مظلمة، جلّ عملهم هو التصوير من الصباح إلى المساء 8 ساعات في اليوم.
وحين تنتهي عملية التصوير فهي تذهب إلى مكان مخصص في ميونيخ، حيث تحفظ في براميل مبردة، وهناك ميزانية من 3 ملايين يورو لكل العمليات من أخذ اللقطات والشحن والتفريغ والخزن.
يقول لوختر هاندت: «لا يتصور الناس مقدار الكمية الفلكية من الوثائق واجبة التصوير؟»، ربما بسبب نقص الوعي بمبرر هذا العمل وتكاليفه؟ وهل يستحق مثل هذا الجهد والنفقات
الخرافية؟
لقد فكر السياسيون طبعا في إلغاء المشروع وصرف المبالغ في وجوه أخرى، حتى وقعت الواقعة في 3 مارس 2009م، حين انهار كامل مركز الوثائق والأراشيف المركزي في مدينة (كولن) ومعه نفيس المراجع والمخطوطات، بعدها نقلت نسخة من أراشيف كولن وضعت في برميل رقم 1799 ويحوي 6369 فيلما بحوالي 10 ملايين لقطة، وبعدها خرس المرجفون في التشكيك في مشروع فرايبورج الحيوي الاستراتيجي!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.