المنتخب المغربي للفتيان يسحق كاليدونيا الجديدة ويعزز آمال التأهل    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    الركراكي يوجه الدعوة لآيت بودلال لتعويض غياب نايف أكرد    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    التجمع الوطني للأحرار بسوس ماسة يتفاعل مع القرار التاريخي لمجلس الأمن حول الصحراء المغربية    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    مغاربة فرنسا يحتفلون بذكرى المسيرة    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    بعد حكيمي.. إصابة أكرد تربك الركراكي وتضعف جدار الأسود قبل المونديال الإفريقي    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خارج الحدود
ماي 68 .. ثورة طلابية من الأحلام
نشر في المساء يوم 17 - 02 - 2008

إنها أجمل ثورة عرفها التاريخ، واعتقد معها الجميع أن غدا ستحكم الحرية العالم. مجرد أحلام صارت في الوقت الحالي ذكرى من الماضي، لكن ذلك الأمس البعيد يبدو هو المستقبل الذي لم نستطعه، لن نكون جاحدين ونقول إن تغيرا لم يقع، لقد قلب هؤلاء الغاضبون الدنيا، ولن نكون أيضا حالمين، إنها كلمات منحوتة على أطلال «ماضي الأيام الآتية». مع اقتراب الذكرى الأربعين لثورة ماي68 الطلابية صدر لباتريك روتمان كتاب بعنوان «ماي68 محكيا للذين لم يعيشوه»، هنا مقتطفات منه نشرته مجلة النوفيل أوبسرفاتور.
شباب غاضب
من المستحيل تناول «ماي 68» ككتلة منسجمة بمنحه بعدا واحدا يتمثل في كونه مجرد مظاهرة طلابية أو ثورة مجهضة... هناك تعريفات كثيرة تلتقي في ما بينها.
يحاول التعريف الأول حصر «اللحظة» في معناها الصارم، أي الأسابيع الثمانية ابتداء من 3 ماي 1968 وهو التاريخ الذي انطلقت فيه الأحداث إلى غاية 30 يونيو.
لقد تميزت هذه الفترة بتشابك أزمة جامعية مع أزمة اجتماعية وأخرى سياسية.
وتأتي بعد ذلك مقاربة أخرى سوسيولوجية هذه المرة تضع «ماي 68» في إطار استمرارية لسنوات الستينات، وتعتبره بمثابة اللهب الذي أشعل نار التغيير الثقافي والمجتمعي الكبير.
وتتموقع ثورة «ماي 68» في منتصف الطريق بين نهاية حرب الجزائر وأزمة البترول الأولى.
إن هذا التحقيب الممتد لعقد ونيف يسمح بالقبض على الحركات الصغرى والجزيئية للمجتمع والتي أعلن عنها ماي 68 وأيضا على انعكاسات هذا الحدث البعدية على المجتمع الفرنسي.
وفي الأخير، هناك صيغة ثالثة للتمييز، ومرتبطة أكثر بالسياسة، تدعو إلى تعريف مرحلة سنوات الستينات باعتبارها مرحلة «حمراء»... ويبدأ هذا التحقيب السياسي بالقصف الأمريكي الأول للفيتنام عام 1965 وينتهي سنة 1975 بسقوط سايغون، وقد استوعب موجة احتجاج شملت كل القارات تقريبا، ولو أن ماي 68 مثل صفات خاصة، فإنه لم يشكل إلا جزءا من ملامح ظاهرة عالمية ميزتها يقظة شعوب العالم الثالث وحرب الفيتنام.
عود ثقاب 3 ماي
لقد ولدت نواة الاحتجاج في جامعة «نونتير» في مفترق الطريق بين الشعور بالضيق الوجودي وبين موجة التسييس، حيث أنشئت هذه الجامعة وسط مساحة خالية ومباني سكن غير لائق، وضمت طلابا أتوا عموما من غرب باريس، وكانوا في الغالب ينتمون إلى طبقات اجتماعية ميسورة تعايشوا فيها مع طلبة يحصلون على منحة ومجبرين على الإقامة في الحي الجامعي..
كانت حفنة من الطلبة في شعبة علم الاجتماع يتحلقون حول دانييل كوهن بنديت الذي كان ينتمي من قريب أو من بعيد إلى جماعة فوضوية، سوداء وحمراء، وكان أفراد من بينهم متأثرين بالمجالسيين... وكانوا يلجؤون إلى التهكم والاستفزاز أملا في أن تدفع راديكالية احتجاجهم شيئا فشيئا الطلبة الآخرين لاعتراض طريقهم...
وانضاف إلى الاضطراب ذي الطابع الجامعي المحض النضال ضد حرب الفيتنام، حيث تم قذف الحجارة في اتجاه إحدى الواجهات الزجاجية، وانتهى ذلك بإيقاف أحد الطلبة.
وكدليل منهم على التضامن قامت المجموعة الصغيرة المتحلقة حول دانييل كوهن بنديت الذي لم يتوقف تأثيره عن الازدياد بتعبئة مئات التلاميذ في أحد المدرجات الجامعية، وفي قاعة الاجتماع أنشئت حركة 22 مارس... ليتم في النهاية إطلاق سراح الطالب المعتقل، ورغم ذلك استمرت حركة 22 مارس في إثارة الشغب ب«نونتير» خلال شهر أبريل، حيث وقع الأستاذ روني ريمون ضحية إحدى حالات الفوضى، وقدد قرر هذا الأخير بتاريخ 2 ماي 1968 إغلاق الجامعة وإرسال كوهن بنديت وبعض رفاقه إلى المجلس التأديبي للجامعة، ظنا منه أنه سيوقف زحف العدوى بهذا الحل، لكنه عكس ذلك قام بإشاعتها.
في الثالث من ماي نظم تجمع للتضامن مع طلبة نونتير بساحة السوربون عرف حضور 300 طالب، وأثناء هذا التجمع تم الإعلان عن أن كوموندو حركة يمينية متطرفة يزحف نحو السوربون، ليستعين المناضلون داخل الحرم الجامعي بالطاولات كدروع تقيهم الضربات، إلا أن «الفاشيين» لم يحضروا كما تم الإعلان عن ذلك، ولم يحدث أي شيء في الساحة.
رغم ذلك وفي تلك اللحظة بالضبط حضر رجال الأمن ودخلوا إلى السوربون بعد أن تم استدعاؤهم من طرف العميد. لم يحاول الطلبة الدفاع عن أنفسهم، لكنها كانت المرة الأولى التي اقتحمت فيها الشرطة الحرم الجامعي الذي كان يعتبر إلى ذلك الوقت مزارا مقدسا لا يمكن الاقتراب منه.
ودون تقديم أي تبرير قرر رجال الشرطة أخذ الأولاد إلى المخافر قصد مراقبة هوياتهم في عين المكان، إلا أن الحافلات التي كان من المفترض أن تقلهم إلى هناك تأخرت كثيرا قبل أن تصل، وأثناء ذلك الوقت حاصر البوليس الشارع، في حين كان الطلبة يجلسون على أرصفة الحي اللاتيني يراقبون أعمالهم، ويقتربون ويطرحون أسئلة خالصين إلى تحميل رجال الأمن مسؤولية ما يقع.
بعد ذلك بدأت الشرطة في الهجوم والطلبة كانوا يقاومون. حينها شرع بين 2000 و3000 منهم في انتزاع أشجار شارع السان ميشيل، مع تشكيل ما يشبه المتراس في رأس الشارع، وفي الجهة الأخرى أخذ البوليس يطلقون الغازات المسيلة للدموع.
شارك المتسكعون في مشاهد عنف غير قابلة للتصديق، وتلقى رجل أمن حجارة فتحت جمجمته، فأخلت الشرطة شارع السان ميشيل بقمع وضرب كل شاب أو حتى يافع يصادفونه في طريقهم، وخلال بضع ساعات أيقظت هراوات قوى الأمن نزعات آلاف المسعورين.
10 ماي.. ليلة المتاريس
عدد كبير من الشباب كانوا على موعد في ساحة دونفر روشرو، على الساعة السادسة والنصف، من بينهم عدة آلاف من التلاميذ الراغبين في التعبير عن تضامنهم مع الطلبة.
كان عدد المتظاهرين مثيرا للدهشة كما تبرز ذلك صور تلك الحقبة، وقدر بحوالي ثلاثين ألفا ... وقد أعطى كوهن بنديت باعتباره العقل المدبر الأوامر لاحتلال الحي اللاتيني كرد فعل على احتلال رجال الأمن للسوربون، وانتشر الطلبة في الأزقة المجاورة إلى غاية البانثيون وشارع غاي لوساك دون عنف.
كان الجو مرحا والطلبة يناقشون في ما بينهم ومع السكان، وفجأة ودون أن يدري أحد من أين أتى ذلك، في التاسعة مساء، شرع البعض في قذف الحجارة... متنافسين على صنع أجمل المتاريس وأعلاها... في الساعة الحادية عشرة تم وضع حوالي أربعين متراسا، يقترب بعضها من العبث، كما هو الحال بالنسبة إلى واحد أنشىء في زقاق بدون مخرج.
في تلك اللحظة كان المحافظ موريس غريمو ينتظر طويلا ليترك للتلاميذ الوقت كي يتوجهوا إلى بيوتهم ليناموا، إلا أنه قرر في الساعة الثانية صباحا أن يحسم في الأمر وأعطى أوامره بإزالة المتاريس... لترتكب حينها أعمال عنف غير مبررة، وتحولت تلك الليلة إلى لحظة مفصلية وشكلت نقطة اللاعودة بالنسبة إلى هذه الأحداث، كما خلق عنف هذه الليلة الجنونية وضعا جديدا جعل كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين يأخذونه بعين الاعتبار.
إضراب عام
في الرابع عشر من ماي توجه دوغول إلى رومانيا في زيارة رسمية، وتردد في إتمام هذا السفر الذي كان مهيأ له منذ فترة طويلة، إلا أن «بومبيدو» دفعه إلى ذلك سعيدا بالبقاء وحده قائدا للسفينة، وفي نفس الوقت تم التصويت على خوض الإضراب في مصنع «سود أفياسيون»، حيث احتل ألفا عامل المصنع واحتجزوا المدير تقودهم نواة من النقابيين الفوضويين.
لقد كانت أول شركة يعلو فيها العلم الأحمر.
بعد ذلك بقليل سيتوقف العمل أيضا في مصنع «رونو»، وتمت محاصرة الأبواب واحتجاز المدير، وأصبحت «سود أفياستون» و«رونو كليون» بالنسبة إلى الإضراب ما كانته نونتير بالنسبة إلى الاحتجاج أي فتيلا للإشعال.
انتشر الخبر مرة أخرى بسرعة فائقة بفضل الترنوزيستور، وبعد ذلك بقليل لم يبق الأمر مقتصرا على مصنعين يخوضان الإضراب، إذ منذ السادس عشر ماي التحقت مصانع «رونو» الأخرى بالحركة، وأصبح كل واحد يجعل أنظاره موجهة إلى ما يحدث في «رونو»... وأكثر من أي وقت مضى انتقلت القلعة العمالية وقلعة نقابة السي جي تي إلى رمز.
تمثلت المطالب الرئيسية في الأجور وخاصة الحد الأدنى للأجور، وأسبوع الأربعين ساعة عمل، وشروط العمل... وفي السادس عشر من ماي نظم أوجين ديسكون اجتماعا للمسؤولين في نقابة السي إف دي تي الذين أكدوا له مجتمعين وجود مناخ مناسب للتحرك في الشركات، وأعطى الأمر للتصويت لصالح الإضراب، والتحقت بهم السي جي تي في الغد، حذرا من التنظيمات اليسارية، لأن النقابة تتخوف دائما من أن تتجاوزها تلك الحركة والتي تشعر أنها تعرف اتساعا يجهل مداه، وحاولت الحفاظ على قوتها وتأثيرها في المعاقل الكبرى للتعدين وفي النقل.
من الثامن عشر ماي إلى العشرين تم تعميم الإضراب بسرعة فائقة كعدوى منتشرة، وفي ظرف أسبوع فقط بلغ عدد المضربين ستة ملايين، وفي الثالث والعشرين أصبح الإضراب عاما، وسجلت فرنسا سبعة ملايين مضرب، وشكل إضراب 1968 أكبر إضراب في تاريخ الحركة العمالية الفرنسية.
وداعا دوغول
فهم دوغول أن الأمر يتعلق بأزمة مجتمعية عميقة، بل إنه سيتحدث عن «أزمة حضارة». إنه يميل إلى الإصلاح لكنه طبعا يريده هادئا، حيث انفلت من بين يديه هذا الحراك العقيم وهذه الوضعية غير القابلة للتحكم.
اقترح دوغول أن يتوجه إلى الشعب في مساء 24 مارس، مقتنعا أنه سيجد حلا للأزمة كما تعود دائما أن يفعل، فهو ذلك الشخص الذي يجسد فرنسا والتاريخ والشرعية والسلطة، وقد فكر في كون سحر كلامه كفيلا بحلحلة الوضع، إلا أن خطأ آخر ارتكبته الحكومة اعترض مخططه، ففي 22 ماي وحين بلغ الإضراب ذروته تم منع دانييل كوهن بنديت من الإقامة في فرنسا بدعوى تصريحه في أمستردام أنه يجب تمزيق العلم الفرنسي لتعويضه بالعلم الأحمر، وقد أطلق هذا الحدث حركة طلابية منهكة بسبب انسداد الآفاق وغياب الزعيم الذي غادر منذ أيام ولم يعد.
في 24 ماي دعت الحركة الطلابية إلى التظاهر في محطة ليون مع رفع واحد من أشهر شعارات ماي 68 وأجملها: «كلنا يهود ألمان»، وفي الثامنة مساء استمع المتظاهرون إلى خطاب رئيس الدولة مباشرة في الراديو... حيث قام دوغول بتحليل مجتمع بلا روح مليء بآمال مشروعة في حياة مختلفة وقدم كحل للأزمة المفهوم الدوغولي للمشاركة.
كان خطاب 24 ماي جيدا والذي أخذ قيمته في ارتباطه بالأحداث، إلا أنه رغم ذلك لم يحقق النجاح المرجو منه، حيث أخرج المتظاهرين مناديلهم بمجرد انتهاء الخطاب وأخذوا يصيحون «وداعا دوغول، وداعا دوغول»، أثناء ذلك سد رجال الأمن شارع ليون، ووجد عدة آلاف من المتظاهرين أنفسهم محاصرين، قبل أن يتفرقوا إلى مجموعات صغيرة، وقد أعطت قوى الأمن الانطباع بأن الأحداث تجاوزتها، وأنها تصل دائما متأخرة، فعندما وصلوا إلى البورصة، على سبيل المثال، كانت النيران بدأت في التهام البناية ، وفي ذلك المساء اجتمعت كل الظروف لتنحرف الحركة في اتجاه المجهول، وكان بإمكان مجموعات مصممة أن تستولي على وزارات لا توجد بها حراسة كافية وأن تحتل بنايات رسمية وتحول التمرد الغاضب إلى فتنة، لقد كانت كل الظروف مجتمعة باستثناء شيء واحد هو إرادة حمل السلاح والموت... هكذا وفي ساعة المساء الأولى بشارع ليون سارع رجال الأمن لمنع السطو على مصنع للأسلحة من طرف عناصر سائبة، ويمكن تخيل ما كان سيحدث لو أطلقت رصاصة واحدة.
رغم ذلك كانت مشاهد العنف فظيعة، وتعرض مركز الشرطة بالدائرة الخامسة إلى هجوم بقذائف المولوتوف واشتعلت فيه النيران، حيث تملك الخوف رجال الشرطة المتواجدين بالداخل وطالبوا رئيسهم بأن يأذن لهم بإطلاق النار، إلى أن جاءت المساعدة في الوقت المناسب لتفريق المتظاهرين قبل أن يبدأ رجال الأمن في إطلاق الرصاص، بعد أن كان الوضع على شفا حفرة من الكارثة.
يقال إن أحداث ماي لم تخلف موتى 68، ومع ذلك فقد سجلت تلك الليلة قتيلين.
مفاوضات للبحث عن مخرج
فتح باب المفاوضات في وزارة الشغل بين الحكومة والباترونا والنقابات بعد زوال يوم 25 ماي، ساعات فقط بعد عودة الهدوء إلى باريس، وقد شكل اجتماع كل الفاعلين حول نفس الطاولة نصرا لبومبيدو، فرئيس الوزراء كان يتحكم جيدا في الملفات ويسير الحوار بمساعدة مستشاره إدوار بلادير وجاك شيراك الذي كان يشتغل بفعالية في الكواليس زهاء أسبوعين تقريبا.
كان رئيس الوزراء يدعو إلى وضع حد للإضراب وإلى عودة الهدوء على قاعدة اتفاق مع المركزيات النقابية الكبرى، ونفس الأمر كانت تعتقد به قيادة نقابة السي جي تي الذراع العمالية للحزب الشيوعي.
كان الحزب الشيوعي الفرنسي إقطاعية تابعة للحركة الشيوعية العالمية وللاتحاد السوفياتي، وفي الستينات كان برجنيف على رٍأس السلطة في الاتحاد السوفياتي، وبالنسبة إليه كما هو الحال بالنسبة إلى القادة السياسيين الذين سبقوه، فإن السياسة الخارجية حاسمة، والحال أن سياسة عدم الانحياز التي ينهجها الجنرال دوغول، ومادامت تبدو ذات نزعة مناهضة لأمريكا ، فهي تمثل مكسبا مهما للاتحاد السوفياتي....
مساء الأحد أعلن جورج سيغي من نقابة الحزب الشيوعي أنه لا مخرج تم التوصل إليه، وعلم أن مظاهرة يهيأ لها في ملعب شارلتي برعاية الحركة اليساروية التي يمقتها ودعم نقابة «السي إف دي تي» و«منديس دو فرونس»، وفجأة تحرك «سيغي» باعتباره سياسيا وليس نقابيا وطالب بتسريع المفاوضات، وعاد للقاء جاك شيراك رأسا لرأس، ليتم التوصل إلى اتفاق في الفجر.
صباح الاثنين ذهب بومبيدو إلى بيته لينام، بعد أن أخذ منه العياء نصيبه، لكنه كان مرتاحا، مؤمنا بأن المخرج من الأزمة صار قريبا.
مأزق اليسار
في الوقت الذي تم التوصل فيه إلى اتفاق كان هناك تجمع للحركة الثورية في ملعب شارلتي، يسعى الداعون إليه إلى تقديم حل مانديس فرونس الذي فرض نفسه كرجل أرسلته العناية الإلهية ... فهو يمتلك سمعة الحركة لانتمائه إلى الحزب الاشتراكي الموحد بقيادة ميشيل روكار، ومن جهة أخرى صورة رجل الدولة نظرا لماضيه كرئيس سابق للمجلس.
جمع شمل الثوريين والإصلاحيين في ملعب شارلتي حول شخصه، إلا أن هذا التقارب لم يكن إلا ظاهريا، وهو ما اكتشفه مانديس بنفسه، حيث لجأت كل الخطابات التي تم إلقاؤها ذلك اليوم إلى بلاغة ثورية يجد نفسه بعيدا عنها، بين جموع تسبح في اليوتوبيا وتتحدث عن لجان العمل المجالس العمالية، وباختصار فقد كان تجمع شارلتي عبارة عن رغبة سياسية مجهضة.
مقابل مانديس دو فرانس يظهر فرانسوا ميتران ممثل اليسار غير الشيوعي والغائب عن تجمع شارلتي. كان التنافس قويا بين الرجلين، إذ دعا ميتران إلى ندوة صحفية قصد الإعلان عن حله الخاص للأزمة، لأن الاستفتاء الذي اقترحه دوغول اعتبر بمثابة إعلان فشل، ويكمن المخرج الوحيد حسبه في تنظيم انتخابات جديدة يرشح نفسه فيها، واقترح بموازاة ذلك حكومة انتقالية بقيادة مانديس.
وجدت اقتراحات ميتران صدى لها عند اليسار التقليدي والمبنية على فرضية مغادرة دوغول لسدة الحكم، وهو اقتراح ووجه بإدانة كبيرة من طرف اليمين في ما بعد، الذي لم يتردد في وصفه ب«الانقلابي».
اختفاء الجنرال
في التاسع والعشرين من ماي سارت كل الأمور بسرعة، إذ أعلم الجنرال دوغول رئيس الوزراء أن مجلس الوزراء تم إلغاؤه ليصعد إلى طائرة الهليكوبتر دون أن تتمكن الرادارات من رصده مختفيا عن الأنظار.
بعد ذلك تم إخبار وزير الدفاع باختفاء رئيس الجمهورية ، وعلم بومبيدو بنفسه الخبر بهذه الطريقة، وبعد زوال 29 ماي كانت المظاهرة التي نظمتها نقابة السي جي تي على مبعدة 400 متر من قصر الإليزيه، إلا أن القصر كان خاليا لأن الرئيس غادره.
لقد حطت الهليكوبتر الرئاسية ب«بادن بادن» في إقامة «ماسو» رئيس القوات الفرنسية في ألمانيا، لكن دوغول التزم الصمت حول هذه القصة، في الوقت الذي حكى فيه «ماسو» هذا المشهد لعدة أشخاص، بل إنه ألف كتابا حول الموضوع يدعي فيه أنه رفع من معنويات دوغول.
هل فكر رئيس الدولة حقا في الاستسلام وأن يخضع لواقع الأمر، إنه أمر لا يمكن تصوره ولا يمكن تخيل الرئيس متخليا عن الرئاسة، لقد كان متعبا، وهذا أكيد، منهكا وساهرا لليال، إلا أنه كان في كامل قواه. فلا يمكن لرجل 18 يونيو أن يفر إلى ألمانيا، حيث توجد فرضية أخرى تناقض الرواية التي قدمها «ماسو» وتقول إن الهروب الذي استمر لساعات قد لا يكون إلا خطة محبوكة وضعها معلم بارع لإثارة صدمة نفسية عند الرأي العام، إذ بذهابه كان دوغول يحاول أن يخلق حالة انتظار تسمح له في النهاية بعودة مدوية.
وفي خطاب موجه إلى الفرنسيين عبر الراديو بتاريخ 30 ماي على الساعة الرابعة تحدث دوغول بصوت مؤثر وحربي يذكر بدوغول الأيام الخالدة، معلنا أنه سيبقى ولن ينسحب محبطا استراتيجية ميتران التي صرع بها قبل 48 ساعة فقط، ومعلنا احتفاظه ببومبيدو وبحل البرلمان، وفي نفس اللحظة التي كان فيها يلقي خطابه خرجت مظاهرة دعت إليها مجموعة شبكات دوغولية صغيرة في ساحة لاكونكورد، وكان الداعون إليها يعتقدون أنهم سيجمعون بعض الآلاف، لكن سحر اللغة الدوغولية جمع حشدا كبيرا قدر بحوالي 300 ألف إلى 400، اجتمعوا لتأكيد دعمهم لدوغول.
يمكن القول بأن ماي 68 انتهى في مساء 30 ماي خلال أربع دقائق استغرقها خطاب كان بمثابة عصا سحرية، فرضت الحل واستمرار دوغول في مهامه وتصويت الفرنسيين في الانتخابات التشريعية ليونيو 1968 التي شكلت اكتساحا لليمين وانكسارا لليسار، وعاد كل شيء إلى سابق عهده بعودة الهدوء والنظام، حيث أفضت هذه الحركة الكبرى الديمقراطية والفوضوية إلى البرلمان الأكثر محافظة منذ زمن بعيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.