مؤتمر دولي بفاس يوصي بتشجيع الأبحاث المتعلقة بترجمة اللغات المحلية    أخنوش: لا وجود لإلغاء صندوق المقاصة .. والحكومة تنفذ عملية إصلاح تدريجية    أخنوش يربط الزيادة في ثمن "البوطا" ب"نجاح نظام الدعم المباشر"    الخريطة على القميص تثير سعار الجزائر من جديد    بطولة انجلترا لكرة القدم.. مانشستر سيتي يفوز على مضيفه برايتون برباعية    أخنوش: نشتغل على 4 ملفات كبرى ونعمل على تحسين دخل المواطنين بالقطاعين العام والخاص    رئيس الحكومة يجري مباحثات مع وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي    الأمير مولاي رشيد يترأس مأدبة ملكية على شرف المشاركين بمعرض الفلاحة    3 سنوات سجنا لشقيق مسؤول بتنغير في قضية استغلال النفوذ للحصول على صفقات    المغرب يستنكر بشدة اقتحام متطرفين المسجد الأقصى    نمو حركة النقل الجوي بمطار طنجة الدولي خلال بداية سنة 2024    ''اتصالات المغرب''.. النتيجة الصافية المعدلة لحصة المجموعة وصلات 1,52 مليار درهم فالفصل اللول من 2024    بطولة مدريد لكرة المضرب.. الاسباني نادال يبلغ الدور الثاني بفوزه على الأمريكي بلانش    الدفاع المدني في غزة يكشف تفاصيل "مرعبة" عن المقابر الجماعية    الاتحاد الجزائري يرفض اللعب في المغرب في حالة ارتداء نهضة بركان لقميصه الأصلي    التحريض على الفسق يجر إعلامية مشهورة للسجن    البطولة الوطنية (الدورة ال27)..الجيش الملكي من أجل توسيع الفارق في الصدارة ونقاط ثمينة في صراع البقاء    مهنيو الإنتاج السمعي البصري يتهيؤون "بالكاد" لاستخدام الذكاء الاصطناعي    السلطات تمنح 2905 ترخيصا لزراعة القنب الهندي منذ مطلع هذا العام    بلاغ القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية    زنا المحارم... "طفلة" حامل بعد اغتصاب من طرف أبيها وخالها ضواحي الفنيدق    بعد فضائح فساد.. الحكومة الإسبانية تضع اتحاد الكرة "تحت الوصاية"    بشكل رسمي.. تشافي يواصل قيادة برشلونة    الأمثال العامية بتطوان... (582)    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولات الخميس على وقع الأخضر    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    3 مقترحات أمام المغرب بخصوص موعد كأس إفريقيا 2025    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مناهج تلقين القرآن الكريم
نشر في ميثاق الرابطة يوم 10 - 12 - 2010

يعتبر تلقين القرآن الكريم عبادة في الإسلام يؤجر عليها الملقن والمتلقن وكل من له صلة بهما وخلصت نيته في النهوض بهذه المهمة الشريفة. وهي مهمة من أعظم المهام التي حظيت باهتمام المسلمين عبر التاريخ الإسلامي، فلماذا بدأ يبهت هذا الاهتمام في الوقت الذي يفترض أن يتقوى ويتطور؟ أليس من الواجب على المسلمين اليوم العناية البالغة والاهتمام المتزايد بتعليم القرآن الكريم وتلقينه للصغار حتى يشبوا وينشأوا على تعاليمه، فيرتبطوا به ويعملوا به؟
لماذا لا نستفيد من وسائل العصر الميسرة في تطوير تعليم القرآن الكريم وتلقين علومه؟ لما لا نجهز دور القرآن والكتاتيب بما يتيسر من وسائل التحفيز والتشجيع للصغار والكبار على السواء في ولوجها لتعليم القرآن الكريم وحفظه والتمكن من علومه؟
لماذا لا يكون لدور القرآن ومدارسه بنايات جميلة ومريحة تبعث على جلب الطلبة والمتعلمين، وترغبهم في متابعة الدراسة بها؟ لماذا لا نوفر لهم المآوي والمطاعم النظيفة والملائمة التي تساعدهم على الحفظ والاستذكار وعلى الدرس والتحصيل بالطرق الجيدة؟
بل لماذا لا يكون لهذه الدور القرآنية فنادق خاصة بروادها تضمن لهم المسكن المريح والتغذية الجيدة؟ ألا يستحقون ذلك وهم يشتغلون على أفضل الكتب وخير العلوم؟ ألا يليق بكتاب الله تعالى أن توفر لطلابه مثل هذه الوسائل من أجل تحقيق أهدافه التي لا تقتصر على الدنيا بل تتجاوزها إلى سعادة الدارين؟
ومن سر القرآن الكريم، هذه العناية التي يوليها المسلمون لحفظه في مختلف بقاع العالم وتعليمه، وتوريث حفظه وعلمه للأجيال من بعدهم، على اختلاف بينهم في الكيفيات والوسائل. وقد ذكر ابن خلدون أن تعليم القرآن الكريم شعيرة من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم. ويستعرض ابن خلدون في مقدمته مختلف الطرق والمناهج التي حفظ بها المسلمون القرآن الكريم وتعلموه، فبين أن طريقة أهل المغرب في حفظ القرآن الكريم مكنتهم من أن يكونوا أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم، ويقول: "فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه، أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه انقطاعا عن العلم بالجملة. وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة، وكذا في الكبر إذا رجَّع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره، فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم". مقدمة ابن خلدون: 538، دار الفكر بدون طبعة ولا تاريخ.
وأما أهل الأندلس فيقدمون على حفظ القرآن تعلم اللغة العربية والشعر والآداب، حتى إذا ما برع الطفل في هذه العلوم انتقل إلى دراسة القرآن الكريم. وحجتهم في ذلك أن الطفل لا يستطيع فهم وإدراك معاني القرآن الكريم ما لم يلم بأصول اللغة العربية وآدابها.
تصدير المناهج المغربية في حفظ القرآن الكريم:
تعتبر منهجية المغاربة في تعاملهم مع كتاب الله تعالى داخل الكتاب القرآني نموذجا ومثالا عند كثير من الدول الإسلامية، لذلك استعارها فقهاء البلدان المجاورة كأهل تونس مثلا، فاسترشدوا بها ورجحوها على غيرها، وتقوم هذه المنهجية على عناية طالب القرآن بكتاب الله دون أن يتجاوزه إلى غيره في الحفظ أو العناية، حتى إذا أتقن الحفظ، وأكمل "السلكة"، تطلّع بعد ذلك إلى متن ابن عاشر في الفقه وألفية ابن مالك في النحو وبعض الأصول الأخرى كالآجرومية وغيرها.
ومن المعلوم أن هذه المناهج المغربية في تحفيظ القرآن وتلقين علومه قد لقيت عناية وإقبالا منقطعي النظير في المغرب وخارجه، لما تتمتع به من مرونة في التعليم مناسبة لكل فئات الناس، على اختلاف أعمارهم وقدراتهم الفكرية والعقلية، فهي متضمنة لبعض القوانين البيداغوجية المهمة التي ينبغي اعتمادها وتطويرها.‏ ونستعرض نجاحها في مجال تحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه من خلال رصد خطواتها المنهجية على الشكل التالي:
1. البداية بسورة الناس (الدفة الأخيرة):
الهدف من هذه البداية هو مراعاة ذهنية الطالب الذي يكون في سن مبكرة لا يستطيع استيعاب مقاطع طوال السور إلى جانب الفوائد الموضوعية الآتية:‏
أ‌. كون أغلب هذه السور مكية ومعلوم أن القرآن المكي في غالبه يركز على ترسيخ العقيدة؛
ب‌. قصر فواصل هذه السور؛
ت‌. اشتمالها على قصص يستطيع الطالب استيعابها كسور الشرح والفيل والمسد؛
ث‌. كون الطالب مأموراً بالصلاة لسبع وهو أمر يناسب استعداده بحفظ سور من القرآن يقرؤها في صلاته؛‏
ج‌. قصر السور يجنبه الملل ويعينه على الحفظ.‏
ويجمل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي هذه المزايا في قوله البليغ، ويعتبره ضربا من إعجاز القرآن، حيث تناول الإعجاز في قصار السور فقال: "إن لهذه القصار لأمرا، وإن لها في القرآن لحكمة هي من أعجب ما ينتهي إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلا موقع الأدلة الإلهية المعجزة. فقد علم الله أن كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول، فيسره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها في المنفعة، وأولها في المنزلة هذه السور القصار التي تخرج من الكلمات المعدودة إلى الآيات القليلة، وهي مع ذلك أكثر ما تجيء آياتها على فاصلة واحدة، أو فواصل قليلة، مع ما بين الفاصلة والفاصلة، فكل آية في وضعها كأنها سورة من كلمات قليلة، لا يضيق بها نفس الطفل الصغير، وهي تتماسك في ذاكرته بهذه الفواصل التي تأتي على حرف واحد أو حرفين أو حروف قليلة متقاربة، فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه، ويثبت أثره في نفسه، فلا يكون بعد إلا أن يمر فيه مرا، وهو كلما تقدم وجده أسهل، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ، فهذا من معاني قوله تعالى: "وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمومنين" [سورة الإسراء: الآية: 82]. وهي لعمر الله رحمة وأي رحمة.
وإذا علمنا بأن ترتيب القرآن توفيقي، أدركنا فضل الله في تيسير حفظ كتابه على الناس، حيث جعل هذه السور آخر القرآن كتابة، وهي أول ما يحفظ الصبي من القرآن، وكلما تمرن على الحفظ اتسعت السور واتسع معها ذهن الصبي واستعداده.
وإذا أردت أن تبلغ عجبا من ذلك، فتأمل آخر سورة من القرآن، وهي أول ما يحفظه الأطفال، تلك سورة "قل اعوذ برب الناس"، وانظر كيف جاءت في نظمها، وكيف تكررت الفاصلة وهي لفظة (الناس)، وفيها السين أشد الحروف صفيرا، وأطربها موقعا من سمع الطفل الصغير، وأبعثها لنشاطه واجتماعه، وكيف تناسب مقاطع السورة عند النطق بها تردد النفس في أصغر طفل يقوى على الكلام، حتى كأنها تجري معه وكأنها فصلت على مقداره، وكيف تطابق هذا الأمر كله من جميع جهاته في أحرفها ونظمها ومعانيها". إعجاز القرآن للرافعي: 262، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة سنة 2005/1425.
2. استعمال اللوح ولوازمه من الصلصال و"الكراك"، و"الصمق"...:
أ‌. يمكن من مراعاة الفروق الذهنية واستغلال الطاقات؛‏
ب‌. يمكن من تعلم رسم الحروف؛‏
ت‌. يساعد على التدرج في حفظ السورة بخلاف الرجوع إلى المصحف الذي يضم السورة كاملة، والتي قد يتهيبها الطالب.‏
3. الاستظهار:
ويمكن تقسيمه إلى قسمين:‏
أ‌. استظهار أولي: حيث يسمع الطالب الآية صحيحة بعد تلقيها مكتوبة في لوحه من قبل الفقيه، وهذا ما يساعد على تصحيح أخطاء النطق؛
ب‌. استظهار نهائي: عندما يستظهر الطالب الآية أو السورة من أجل المحو بعد الحفظ.‏
4. التكرار:
وهو مراجعة دورية يستطيع الطالب من خلالها أن يربط بين الأجزاء التي حفظها خلال المدة السابقة للتكرار. ومن فوائده ترسيخ الحفظ، وكذا حضور الذهن عند رفع الصوت بالقراءة بخلاف لو كانت القراءة صامتة.‏
5. الإملاء:
عند بلوغ الطالب مرحلة متقدمة في الحفظ وتمكنه من الخط، ويكون ذلك غالبا عند (سورة يس) يبدأ في الإملاء، حيث يجمع الفقيه حوله مجموعة من الطلبة فيُملي عليهم كل واحد في موضع. وبهذه الطريقة يزداد الطالب ضبطا للرسم وطريقة الكتابة، كما يبدأ الفقيه في هذه المرحلة في تلقين بعض العبارات والمتون التي تفيد في الرسم والحفظ معا.
6. القراءة الجماعية:
ومن أهم مظاهرها الحزب اليومي الذي يقرأ في المساجد بين المغرب والعشاء، وهو غير قاصر على المتعلمين بل يحضره المعلمون والمتعلمون وعموم الناس، ومن فوائده عند العامة:‏
أ‌. القيام بشعيرة المواظبة على القرآن الكريم وعدم هجره؛‏
ب‌.‏ مساعدة حفظة القرآن الكريم على مراجعته باستمرار وترسيخه؛ لأنه أشد تفلتا من الإبل في عقلها.‏
اقتراحات للتطوير والتحسين
لقد أثبتت المناهج التعليمية التقليدية نجاعتها في الواقع العملي، بدليل عدد المتخرجين من الزوايا والمدارس القرآنية الذين هم أطر يشغلون مناصب مهمة في المجتمع. ولهذا فهذه الملاحظات لا تحل محل هذه المناهج بل تعتمدها أساسا في البناء الجديد. ولكن إيمانا منا بضرورة التجديد بمعنى التطوير لا بمعنى النسخ نقول إن هذه المناهج تحتاج إلى تجديد وفق الملاحظات الآتية:‏
أ‌. ضرورة الاستفادة من خدمات الحاسوب (الإعلام الآلي) في هذه المؤسسات؛ لأنها وسيلة مربحة للوقت والطاقة، ومسعفة في التطوير والجودة في الخدمات العامة، والاحتياجات التربوية؛‏
ب‌. تكوين المديرين والمدرسين والحفظة تكوينا شاملا يستجيب لمقتضيات العصر؛
ت‌. الاهتمام بالجانب التطبيقي، وتنزيل الحفظ والعلم إلى الواقع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قرآنا يمشي بين الناس.‏
ينبغي ألا يبقى منهج التلقين جامدا، لاسيما وهو يحمل عوامل التطور والحيوية في ذاته، وحتى لا يقال: "إن هذا الأسلوب التلقيني الذي يعتمد على الحفظ الخارجي لا يعطي مفهوما حقيقيا للعقيدة، ولا يحرك الفكر والوجدان لدى الإنسان. لقد كان الأزهر وغيره من المدارس في السابق يعتمدون أسلوب التلقين في تدريس منظومات لا تفيد شيئا؛ لأنها تعرض قضايا قديمة شغلت الناس في عصر معين مضى؛ لذا كان لزاما علينا اللجوء إلى التجديد والتحديث حتى نتمكن بالفعل من تكوين مفهوم حقيقي للعقيدة وتكوين عقيدة واضحة للمسلم". وحتى لا تلمز المناهج التقليدية بمثل هذا التحقيق الذي لا يخلو من موضوعية ومن غيرة على القرآن الكريم خاصة والإسلام عامة، لابد من مراعاة ما يلي:
إذا كان الله تعالى قد تكفل بحفظ القرآن فقيض له أناسا هم أهل الله وخاصته فعليهم أن يستشعروا منزلة هذه المهمة.
وأن يعلموا أن نجاح المناهج التقليدية كان منبعثا من إخلاص أهلها في تبليغهم للعلم مما ولد الثقة بينهم وبين المتعلمين فآتت تلك الطرق والمناهج أكلها.

فلنبادر جميعا إلى مزيد الاهتمام بالقرآن حفظا وتدبرا وتعليما، ولنسخر في سبيل ذلك كافة الوسائل المادية والبشرية، ونسعى جاهدين في تذليل العوائق والصعوبات التي تحول دون نجاعة هذه الوسائل التعليمية حتى نحقق رضا الله سبحانه وتعالى عنا. وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
يعتبر تلقين القرآن الكريم عبادة في الإسلام يؤجر عليها الملقن والمتلقن وكل من له صلة بهما وخلصت نيته في النهوض بهذه المهمة الشريفة. وهي مهمة من أعظم المهام التي حظيت باهتمام المسلمين عبر التاريخ الإسلامي، فلماذا بدأ يبهت هذا الاهتمام في الوقت الذي يفترض أن يتقوى ويتطور؟ أليس من الواجب على المسلمين اليوم العناية البالغة والاهتمام المتزايد بتعليم القرآن الكريم وتلقينه للصغار حتى يشبوا وينشأوا على تعاليمه، فيرتبطوا به ويعملوا به؟
لماذا لا نستفيد من وسائل العصر الميسرة في تطوير تعليم القرآن الكريم وتلقين علومه؟ لما لا نجهز دور القرآن والكتاتيب بما يتيسر من وسائل التحفيز والتشجيع للصغار والكبار على السواء في ولوجها لتعليم القرآن الكريم وحفظه والتمكن من علومه؟
لماذا لا يكون لدور القرآن ومدارسه بنايات جميلة ومريحة تبعث على جلب الطلبة والمتعلمين، وترغبهم في متابعة الدراسة بها؟ لماذا لا نوفر لهم المآوي والمطاعم النظيفة والملائمة التي تساعدهم على الحفظ والاستذكار وعلى الدرس والتحصيل بالطرق الجيدة؟
بل لماذا لا يكون لهذه الدور القرآنية فنادق خاصة بروادها تضمن لهم المسكن المريح والتغذية الجيدة؟ ألا يستحقون ذلك وهم يشتغلون على أفضل الكتب وخير العلوم؟ ألا يليق بكتاب الله تعالى أن توفر لطلابه مثل هذه الوسائل من أجل تحقيق أهدافه التي لا تقتصر على الدنيا بل تتجاوزها إلى سعادة الدارين؟
ومن سر القرآن الكريم، هذه العناية التي يوليها المسلمون لحفظه في مختلف بقاع العالم وتعليمه، وتوريث حفظه وعلمه للأجيال من بعدهم، على اختلاف بينهم في الكيفيات والوسائل. وقد ذكر ابن خلدون أن تعليم القرآن الكريم شعيرة من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم. ويستعرض ابن خلدون في مقدمته مختلف الطرق والمناهج التي حفظ بها المسلمون القرآن الكريم وتعلموه، فبين أن طريقة أهل المغرب في حفظ القرآن الكريم مكنتهم من أن يكونوا أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم، ويقول: "فأما أهل المغرب فمذهبهم في الوالدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه، أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه انقطاعا عن العلم بالجملة. وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة، وكذا في الكبر إذا رجَّع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره، فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم". مقدمة ابن خلدون: 538، دار الفكر بدون طبعة ولا تاريخ.
وأما أهل الأندلس فيقدمون على حفظ القرآن تعلم اللغة العربية والشعر والآداب، حتى إذا ما برع الطفل في هذه العلوم انتقل إلى دراسة القرآن الكريم. وحجتهم في ذلك أن الطفل لا يستطيع فهم وإدراك معاني القرآن الكريم ما لم يلم بأصول اللغة العربية وآدابها.
تصدير المناهج المغربية في حفظ القرآن الكريم:
تعتبر منهجية المغاربة في تعاملهم مع كتاب الله تعالى داخل الكتاب القرآني نموذجا ومثالا عند كثير من الدول الإسلامية، لذلك استعارها فقهاء البلدان المجاورة كأهل تونس مثلا، فاسترشدوا بها ورجحوها على غيرها، وتقوم هذه المنهجية على عناية طالب القرآن بكتاب الله دون أن يتجاوزه إلى غيره في الحفظ أو العناية، حتى إذا أتقن الحفظ، وأكمل "السلكة"، تطلّع بعد ذلك إلى متن ابن عاشر في الفقه وألفية ابن مالك في النحو وبعض الأصول الأخرى كالآجرومية وغيرها.
ومن المعلوم أن هذه المناهج المغربية في تحفيظ القرآن وتلقين علومه قد لقيت عناية وإقبالا منقطعي النظير في المغرب وخارجه، لما تتمتع به من مرونة في التعليم مناسبة لكل فئات الناس، على اختلاف أعمارهم وقدراتهم الفكرية والعقلية، فهي متضمنة لبعض القوانين البيداغوجية المهمة التي ينبغي اعتمادها وتطويرها.‏ ونستعرض نجاحها في مجال تحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه من خلال رصد خطواتها المنهجية على الشكل التالي:
1. البداية بسورة الناس (الدفة الأخيرة):
الهدف من هذه البداية هو مراعاة ذهنية الطالب الذي يكون في سن مبكرة لا يستطيع استيعاب مقاطع طوال السور إلى جانب الفوائد الموضوعية الآتية:‏
أ‌. كون أغلب هذه السور مكية ومعلوم أن القرآن المكي في غالبه يركز على ترسيخ العقيدة؛
ب‌. قصر فواصل هذه السور؛
ت‌. اشتمالها على قصص يستطيع الطالب استيعابها كسور الشرح والفيل والمسد؛
ث‌. كون الطالب مأموراً بالصلاة لسبع وهو أمر يناسب استعداده بحفظ سور من القرآن يقرؤها في صلاته؛‏
ج‌. قصر السور يجنبه الملل ويعينه على الحفظ.‏
ويجمل الأستاذ مصطفى صادق الرافعي هذه المزايا في قوله البليغ، ويعتبره ضربا من إعجاز القرآن، حيث تناول الإعجاز في قصار السور فقال: "إن لهذه القصار لأمرا، وإن لها في القرآن لحكمة هي من أعجب ما ينتهي إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلا موقع الأدلة الإلهية المعجزة. فقد علم الله أن كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول، فيسره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها في المنفعة، وأولها في المنزلة هذه السور القصار التي تخرج من الكلمات المعدودة إلى الآيات القليلة، وهي مع ذلك أكثر ما تجيء آياتها على فاصلة واحدة، أو فواصل قليلة، مع ما بين الفاصلة والفاصلة، فكل آية في وضعها كأنها سورة من كلمات قليلة، لا يضيق بها نفس الطفل الصغير، وهي تتماسك في ذاكرته بهذه الفواصل التي تأتي على حرف واحد أو حرفين أو حروف قليلة متقاربة، فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه، ويثبت أثره في نفسه، فلا يكون بعد إلا أن يمر فيه مرا، وهو كلما تقدم وجده أسهل، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ، فهذا من معاني قوله تعالى: "وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمومنين"[سورة الإسراء: الآية: 82]. وهي لعمر الله رحمة وأي رحمة.
وإذا علمنا بأن ترتيب القرآن توفيقي، أدركنا فضل الله في تيسير حفظ كتابه على الناس، حيث جعل هذه السور آخر القرآن كتابة، وهي أول ما يحفظ الصبي من القرآن، وكلما تمرن على الحفظ اتسعت السور واتسع معها ذهن الصبي واستعداده.
وإذا أردت أن تبلغ عجبا من ذلك، فتأمل آخر سورة من القرآن، وهي أول ما يحفظه الأطفال، تلك سورة "قل اعوذ برب الناس"، وانظر كيف جاءت في نظمها، وكيف تكررت الفاصلة وهي لفظة (الناس)، وفيها السين أشد الحروف صفيرا، وأطربها موقعا من سمع الطفل الصغير، وأبعثها لنشاطه واجتماعه، وكيف تناسب مقاطع السورة عند النطق بها تردد النفس في أصغر طفل يقوى على الكلام، حتى كأنها تجري معه وكأنها فصلت على مقداره، وكيف تطابق هذا الأمر كله من جميع جهاته في أحرفها ونظمها ومعانيها". إعجاز القرآن للرافعي: 262، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة سنة 2005/1425.
2. استعمال اللوح ولوازمه من الصلصال و"الكراك"، و"الصمق"...:
أ‌. يمكن من مراعاة الفروق الذهنية واستغلال الطاقات؛‏
ب‌. يمكن من تعلم رسم الحروف؛‏
ت‌. يساعد على التدرج في حفظ السورة بخلاف الرجوع إلى المصحف الذي يضم السورة كاملة، والتي قد يتهيبها الطالب.‏
3. الاستظهار:
ويمكن تقسيمه إلى قسمين:‏
أ‌. استظهار أولي: حيث يسمع الطالب الآية صحيحة بعد تلقيها مكتوبة في لوحه من قبل الفقيه، وهذا ما يساعد على تصحيح أخطاء النطق؛
ب‌. استظهار نهائي: عندما يستظهر الطالب الآية أو السورة من أجل المحو بعد الحفظ.‏
4. التكرار:
وهو مراجعة دورية يستطيع الطالب من خلالها أن يربط بين الأجزاء التي حفظها خلال المدة السابقة للتكرار. ومن فوائده ترسيخ الحفظ، وكذا حضور الذهن عند رفع الصوت بالقراءة بخلاف لو كانت القراءة صامتة.‏
5. الإملاء:
عند بلوغ الطالب مرحلة متقدمة في الحفظ وتمكنه من الخط، ويكون ذلك غالبا عند (سورة يس) يبدأ في الإملاء، حيث يجمع الفقيه حوله مجموعة من الطلبة فيُملي عليهم كل واحد في موضع. وبهذه الطريقة يزداد الطالب ضبطا للرسم وطريقة الكتابة، كما يبدأ الفقيه في هذه المرحلة في تلقين بعض العبارات والمتون التي تفيد في الرسم والحفظ معا.
6. القراءة الجماعية:
ومن أهم مظاهرها الحزب اليومي الذي يقرأ في المساجد بين المغرب والعشاء، وهو غير قاصر على المتعلمين بل يحضره المعلمون والمتعلمون وعموم الناس، ومن فوائده عند العامة:‏
أ‌- القيام بشعيرة المواظبة على القرآن الكريم وعدم هجره؛‏
ب‌.‏ مساعدة حفظة القرآن الكريم على مراجعته باستمرار وترسيخه؛ لأنه أشد تفلتا من الإبل في عقلها.‏
اقتراحات للتطوير والتحسين
لقد أثبتت المناهج التعليمية التقليدية نجاعتها في الواقع العملي، بدليل عدد المتخرجين من الزوايا والمدارس القرآنية الذين هم أطر يشغلون مناصب مهمة في المجتمع. ولهذا فهذه الملاحظات لا تحل محل هذه المناهج بل تعتمدها أساسا في البناء الجديد. ولكن إيمانا منا بضرورة التجديد بمعنى التطوير لا بمعنى النسخ نقول إن هذه المناهج تحتاج إلى تجديد وفق الملاحظات الآتية:‏
أ‌. ضرورة الاستفادة من خدمات الحاسوب (الإعلام الآلي) في هذه المؤسسات؛ لأنها وسيلة مربحة للوقت والطاقة، ومسعفة في التطوير والجودة في الخدمات العامة، والاحتياجات التربوية؛‏
ب‌. تكوين المديرين والمدرسين والحفظة تكوينا شاملا يستجيب لمقتضيات العصر؛
ت‌. الاهتمام بالجانب التطبيقي، وتنزيل الحفظ والعلم إلى الواقع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قرآنا يمشي بين الناس.‏
ينبغي ألا يبقى منهج التلقين جامدا، لاسيما وهو يحمل عوامل التطور والحيوية في ذاته، وحتى لا يقال: "إن هذا الأسلوب التلقيني الذي يعتمد على الحفظ الخارجي لا يعطي مفهوما حقيقيا للعقيدة، ولا يحرك الفكر والوجدان لدى الإنسان. لقد كان الأزهر وغيره من المدارس في السابق يعتمدون أسلوب التلقين في تدريس منظومات لا تفيد شيئا؛ لأنها تعرض قضايا قديمة شغلت الناس في عصر معين مضى؛ لذا كان لزاما علينا اللجوء إلى التجديد والتحديث حتى نتمكن بالفعل من تكوين مفهوم حقيقي للعقيدة وتكوين عقيدة واضحة للمسلم". وحتى لا تلمز المناهج التقليدية بمثل هذا التحقيق الذي لا يخلو من موضوعية ومن غيرة على القرآن الكريم خاصة والإسلام عامة، لابد من مراعاة ما يلي:
إذا كان الله تعالى قد تكفل بحفظ القرآن فقيض له أناسا هم أهل الله وخاصته فعليهم أن يستشعروا منزلة هذه المهمة.
وأن يعلموا أن نجاح المناهج التقليدية كان منبعثا من إخلاص أهلها في تبليغهم للعلم مما ولد الثقة بينهم وبين المتعلمين فآتت تلك الطرق والمناهج أكلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.