بنكيران: "البيجيدي" هو سبب خروج احتجاجات "جيل زد" ودعم الشباب للانتخابات كمستقلين "ريع ورشوة"    الأقاليم الجنوبية، نموذج مُلهم للتنمية المستدامة في إفريقيا (محلل سياسي سنغالي)    نبيل باها: عزيمة اللاعبين كانت مفتاح الفوز الكبير أمام كاليدونيا الجديدة    اتحاد طنجة يفوز على نهضة بركان    مجلس الشيوخ الفرنسي يحتفل بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    نصف نهائي العاب التضامن الإسلامي.. تشكيلة المنتخب الوطني لكرة القدم داخل القاعة أمام السعودية    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    كرة القدم ..المباراة الودية بين المنتخب المغربي ونظيره الموزمبيقى تجرى بشبابيك مغلقة (اللجنة المنظمة )    بعد فراره… مطالب حقوقية بالتحقيق مع راهب متهم بالاعتداء الجنسي على قاصرين لاجئين بالدار البيضاء    أيت بودلال يعوض أكرد في المنتخب    أسيدون يوارى الثرى بالمقبرة اليهودية.. والعلم الفلسطيني يرافقه إلى القبر    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    حصيلة ضحايا غزة تبلغ 69176 قتيلا    بأعلام فلسطين والكوفيات.. عشرات النشطاء الحقوقيين والمناهضين للتطبيع يشيعون جنازة المناضل سيون أسيدون    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    توقيف مسؤول بمجلس جهة فاس مكناس للتحقيق في قضية الاتجار الدولي بالمخدرات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    مديرة مكتب التكوين المهني تشتكي عرقلة وزارة التشغيل لمشاريع مدن المهن والكفاءات التي أطلقها الملك محمد السادس    عمر هلال: اعتراف ترامب غيّر مسار قضية الصحراء، والمغرب يمد يده لمصالحة صادقة مع الجزائر    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الرئيس السوري أحمد الشرع يبدأ زيارة رسمية غير مسبوقة إلى الولايات المتحدة    أولمبيك الدشيرة يقسو على حسنية أكادير في ديربي سوس    شباب مرتيل يحتفون بالمسيرة الخضراء في نشاط وطني متميز    مقتل ثلاثة أشخاص وجرح آخرين في غارات إسرائيلية على جنوب لبنان    دراسة أمريكية: المعرفة عبر الذكاء الاصطناعي أقل عمقًا وأضعف تأثيرًا    إنفانتينو: أداء المنتخبات الوطنية المغربية هو ثمرة عمل استثنائي    "حماس" تعلن العثور على جثة غولدين    النفق البحري المغربي الإسباني.. مشروع القرن يقترب من الواقع للربط بين إفريقيا وأوروبا    درك سيدي علال التازي ينجح في حجز سيارة محملة بالمخدرات    الأمواج العاتية تودي بحياة ثلاثة أشخاص في جزيرة تينيريفي الإسبانية    فرنسا.. فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات باريس الدامية للعام 2015    لفتيت يشرف على تنصيب امحمد العطفاوي واليا لجهة الشرق    الطالبي العلمي يكشف حصيلة السنة التشريعية    ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرحالة ابن جبير
نشر في ميثاق الرابطة يوم 11 - 03 - 2011

رأيت أن أخصص هذه الحلقة لرحالة مغربي كبير ترك لنا رحلة من أروع وأبدع كتب الرحلات في عالم الإسلام.. يتعلق الأمر بالرحالة الأديب ابن جبير الكناني..
هو محمد بن أحمد بن جبير الكناني، البلنسي، الشاطبي. ولد سنة 539 ه حسب لسان الدين بن الخطيب في "الإحاطة في أخبار غرناطة" أو سنة 540ه حسبما ذكره المقري في "نفح الطيب". واتفق المؤرخان على أن مولد ابن جبير كان ببلنسية، وقال آخرون أنه ولد بشاطبة... وقد عاش إبان حكم الدولة الموحدية في المغرب والأندلس..
تلقى العلم أولا عن أبيه، ثم شغف بالعلم شغفا ملك عليه حواسه، ولم يفارقه طوال حياته، فكان يسعى إلى العلماء أينما حل وارتحل، بدأٌ بسبتة -حررها الله- ووصولا إلى مكة وبغداد وحران ودمشق، بالإضافة إلى أخذه عن علماء الأندلس.. وكان اهتمامه بعلوم الدين من فقه وحديث وقراءات، وما اتصل بها من علوم اللغة والنحو والأدب، لكن ميوله برزت أيضا في علم الحساب.. قال ابن العماد في "شذرات الذهب" (5/60-61): أن "ابن جبير سمع من أبيه وعلي بن أبي العيش المقري، وأجاز له أبو الوليد بن الدباغ، وحج فحدث في طريقه"..
عمل ابن جبير كاتبا لدى الأمير الموحدي أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، الذي ولاه والده على سبتة وطنجة سنة 549ه.. وفي نفس الفترة عين كل من الفيلسوف أبو بكر بن طفيل القيسي، وأبو بكر بن حبيش كاتبين عند الأمير أبي سعيد عثمان. ولما خضعت غرناطة لسلطان الدولة الموحدية سنة 551ه، أضافها عبد المؤمن بن علي إلى ولاية ابنه أبي سعيد. وتنقل ابن جبير مع الأمير الموحدي بين غرناطة وسبتة.
يقول الأستاذ إبراهيم شمس الدين في مقدمة تحقيقه لرحلة ابن جبير (طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 2003): "لم يشتغل ابن جبير بالكتابة وحدها بل بالتدريس أيضا، وخاصة بعد رحلته الثانية إلى الشرق.. فقد انقطع مدة في فاس للتحديث ورواية ما عنده وممارسة التصوف. وكان قد فعل شيئا من ذلك في المشرق، فخلف بذلك تلاميذ له في الغرب الإسلامي أشهرهم على الإطلاق أحمد بن عبد المؤمن الشريشي شارح المقامات الحريرية، وأشهرهم في الشرق عبد الكريم بن عطاء الله، ورشيد الدين بن العطار بالإسكندرية، والحافظان أبو محمد المنذري وأبو الحسين يحيى بن علي القرشي بالقاهرة...".
ووصف لسان الدين بن الخطيب -في "الإحاطة"- صاحبنا ابن جبير بأنه "كان فاضلا، نزيه الهمة، سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الطريقة، ذا فضل بديع وورع يحقق أعماله الصالحة". ووصفه صاحب "الملتمس" بأنه "كان من أهل المروءات، عاشقا في قضاء الحوائج والسعي في حقوق الإخوان والمبادرة لإيناس الغرباء".. ويظهر في رحلته الشهيرة حرصه الشديد على زيارة أضرحة أعلام الدين، ولقاء المشهورين من رجاله، كل ذلك جعله يميل إلى الزهد. وأخذ هذا الميل يزداد إلى أن جعله ينبذ الدنيا العريضة التي نالها بالأدب كما يقول المقري في "النفح"..
قام ابن جبير بثلاث رحلات إلى المشرق، فقد بدأ رحلته الأولى سنة 579ه من غرناطة في اتجاه سبتة، ومنها ركب البحر إلى الإسكندرية، فزار القاهرة، ثم توجه إلى مكة عن طريق عيذاب وصولا إلى جدة.. ثم حج وزار المدينة والكوفة وبغداد والموصل وحلب ودمشق، ثم ركب البحر إلى صقلية عائدا إلى غرناطة عام 581 ه، وقد استغرقت رحلته سنتين وزيادة، سجل فيها مشاهداته وملاحظاته بدقة فائقة في يومياته المعروفة "برحلة ابن جبير".. أما رحلته الثانية فقام بها بعد استرجاع بيت المقدس من قبل صلاح الدين الأيوبي سنة 583ه، واستغرقت من سنة 585ه إلى سنة 586 ه. وكانت رحلته الثالثة إثر وفاة زوجته، فخرج من سبتة إلى مكة وبقي فيها فترة من الزمن، ثم غادرها إلى بيت المقدس والقاهرة وصولا إلى الإسكندرية التي توفي فيها سنة 614ه.
ولم يترك لنا ابن جبير إلا تفاصيل عن رحلته الأولى... وقد كنت ذكرت في مقالي حول "أبي الحسن الشاري السبتي" (عدد 35 من جريدة ميثاق الرابطة) نقلا عن العلامة عبد القادر زمامة": "أن ابن الزبير ينقل عن أستاذه أبي الحسن الشاري فيما يرجع لرحلة ابن جبير الشهيرة شيئا غريبا، وهو أن ابن جبير لم يكتب رحلته، وإنما قيد حاصلها من ذكر المراحل والانتقالات وأحوال البلاد لنفسه تقييدا لم يقصد به التأليف فرتبه من أخذ عنه.."..
ومهما يكن من أمر؛ فإن رحلة ابن جبير تعتبر مصدراً مهماً للباحثين في مجال التاريخ والاجتماع والحضارة العربية - الإسلامية في القرن السادس وبداية السابع الهجري.. إذ يفيدنا ابن جبير في "رحلته" بشأن الضريبة الإضافية التي فرضها الإفرنج في الشام على التجار المغاربة دونا عن سائر تجار المسلمين: "لأن طائفة من أنجاد المغاربة غزت مع السلطان نور الدين محمود زنكي أحد الحصون فكان لهم في أخذه غنى ظهر واشتهر، فجازاهم الإفرنج بهذه الضريبة المُكسية ألزموها رؤوسهم، فكل مغربي يزن على رأسه الدينار المذكور في اختلافهم على بلادهم..." ثم يشير ابن جبير في "رحلته" إلى "اهتمام الملوك وأهل اليسار والخواتين من النساء في الشرق العربي بفداء الأسرى من المغاربة: فكل من يخرج من ماله وصية من المسلمين بهذه الجهات الشامية وسواها إنما يعينها في افتكاك المغاربة خاصة لبعدهم عن بلادهم"..
ويفيدنا صاحبنا ابن جبير في "الرحلة" بمعلومات وافية عن المعالم الإسلامية الدينية والمدنية التي وقف عليها، ووصفها وصفا بديعا. وهو ما يشكل مادة علمية ثرية حول تاريخ العمارة الإسلامية ومعطياتها مشرقا ومغربا.. فقد تفقد فيها الآثار والمساجد والدواوين، ووصف حال مصر في عهد صلاح الدين ومدحه لإبطاله المُكس (الضريبة) المترتبة على الحجاج، ووصف المسجد الأقصى والجامع الأموي بدمشق والساعة العجيبة التي كانت فيه، وهي من صنع رضوان ابن الساعاتي.. ومن أهم مشاهداته ما تحدث به عن صقلية وآثارها، من مساجد ومدارس وقصور، وعن الحضارة التي خلفها العرب في الجزيرة.. والأمر لله..
وقد كان صاحبنا ابن جبير أديباً وشاعراً، له ديوان يسمى "نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان".. وهذا نموذج من شعره، من قصيدته التي مدح بها السلطان صلاح الدين الأيوبي يهنئه فيها بفتح بيت المقدس، إذ يقول:
ثأرت لدين الهدى في العدا فآثرك الله من ثائر
وقمت بنصر إله الورى فسماك بالملك الناصر
فتحت المقدس من أرضه فعادت إلى وصفها الطاهر
وأعليت فيه منار الهدى وأحييت من رسمه الداثر
ونستفيد من الدراسة التي قام بها محقق "الرحلة" إبراهيم شمس الدين أن ابن جبير "صرح في صدر رحلته أنه لم يكن وحيدا فيها، إذ كان أحمد بن حسان القضاعي رفيقا له، وكان أحمد من أندة من مدن مقاطعة بلنسية، درس الطب وأصدر فيه كتابا مفيدا، وشارك في بعض العلوم الأخرى، وسمع بدمشق أبا طاهر الخشوعي مع محمد. وكتب للأمير أبي سعيد الذي كتب له محمد وغيرهما، ومات بمراكش في سنة 598 أو 599ه. وبرغم هذه الزمالة، لم يشر إليه محمد في الرحلة غير ثلاث مرات..".
وقد طال المقام بصاحبنا ابن جبير في القاهرة التي ترك لنا في رحلته معلومات ثرية حولها في ميادين العمران والعادات والطبائع بما يمكن اعتباره شهادات "أنثربولوجية" ثمينة تعد باستثمار معرفي كبير إذا ما انبرى الباحثون إلى استثمارها.. فلما غادر ابن جبير الإسكندرية "قطع إقليم البحيرة مارا بعاصمته دمنهور. ثم اجتاز فرع رشيد من النيل، ثم اخترق الدلتا فمر ببرمة وطندة (طنطا) وسبك ومليج وقليوب والمنية، ثم اجتاز فرع دمياط عند دجوة التي انتقل عنها إلى القاهرة.." وطال مقامه بالقاهرة فطال حديثه عنها. فمنحنا قائمة بأسماء من يقال إن القرافة (الجبانة) تضمهم من الأنبياء، وأهل البيت، والصحابة، والتابعين، والأئمة، والعلماء، والزهاد، مع الاحتياط بالتصريح بأنه غير جازم بصحة كل ما ورد فيها. وأفاض في الكلام عن المشهد الحسيني، ووصف بنائه وجدرانه ورخامه وحجره الأسود، وأستاره وقناديله، وما ألف الناس أن يؤدوه عند زيارته. والتقط من القائمة مشهد الإمام الشافعي، فأشار إلى التأنق في بنائه، والعناية به، وتشييد مدرسة وحمام بإزائه. وذكر بعض المساجد، غير أنه آثر مسجد أحمد ابن طولون بالعناية، لكونه مأوى للمغاربة في ذلك الوقت.." (إبراهيم شمس الدين، مقدمة تحقيق رحلة ابن جبير).
ولما أقلع ابن جبير من عيذاب مغادرا مصر في اتجاه الحجاز "وصف طريقه في البحر (الأحمر)، وما واجهه من أخطار العواصف، والجزر والشعب المرجانية، وبراعة الربان في التصرف بينها، حتى هبط جدة، فوصف مساكنها وآثارها ومساجدها.." ولما وصل ابن جبير إلى مكة استهل وصفه بحديثه عن المسجد الحرام، "فأفاض في الحديث عنه ورسم له الصور من جميع الأنحاء معتنيا بأدق التفاصيل، فأبان مقاييسه، وأركانه، وأرضه، وجدرانه وأعمدته... ثم التفت إلى مكة وتحدث عن أبوابها وجبالها وفضل كل منها ومساجدها.. ومما قاله في حق مكة:
بلغتَ المنى وحللت الحرم فعاد شبابُك بعد الهرَم
فأهلا بمكة أهلا بها وشكرا لمن شكره يُلتزَم
ولما وصل المدينة نظم قصيدة أخرى قال في أولها:
أقول وآنست بالليل نارا لعل سراج الهدى قد أنارا
وإلا فما بال أفق الرّجى كأن سنى البرق استطارا
وأريد في هذا المقام أن أبرز من خلال رحلة صاحبنا ابن جبير بعض مظاهر الحياة الفكرية في بغداد خلال القرن السادس الهجري وبداية السابع من خلال المجالس العلمية التي حضرها بنفسه ووصفها وصفا شاملا طال العلاقات العلمية ومناهج التدريس، بما يمكن اعتباره وثائق حية عن "الحركة العلمية" في بغداد على عصر المؤلف.. من ذلك وصفه لمجلسي الإمام رضي الدين القزويني عميد المدرسة النظامية، والعالم الكبير جمال الدين بن الجوزي.. وقد جاء الحديث عن المجالس العلمية ببغداد ممزوجا بحديث حول ما آل إليه عمران المدينة من تلاش واندثار: "فقد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها" كما يقول في الرحلة.. ثم قال: "فأول من شاهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام رضي الدين القزويني رئيس الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار إليه بالتقديم في العلوم الأصولية. حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر، وأخذ القراء أمامه في القراءة على كراسي موضوعة، فتوقوا وشوقوا، وأتوا بتلاحين معجبة، ونغمات محرجة مطربة، ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور فخطب خطبة سكون ووقار وتصرف في أفانين من العلوم، من تفسير كتاب الله عز وجل، وإيراد حديث رسوله، صلى الله عليه وسلم، والتكلم على معاينة. ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب، وما قصر، وتقدم وما تأخر، ودفعت إليه عدة رقاع منها، فجمعها جملة في يده وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذها أن فرغ منها. وحان المساء فنزل وافترق الجمع. فكان مجلسه مجلس علم ووعظ، وقوراً هيناً ليناً، ظهرت فيه البركة والسكينة؛ ولم تقصر عن إرسال عبرتها فيه النفس المستكينة، ولا سميا آخر مجلسه، فإنه سرت حمياً وعظه النفوس حتى أطارتها خشوعاً، وفجرتها دموعاً، وبادر التائبون إليه سقوطاً على يده ووقوعاً، فكم ناصية جز، وكم مفصل من مفاصل التائبين طبق بالموعظة وحز فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة.." (ص 171، طبعة دار الكتب العلمية بيروت 2003)..
وبخصوص مجلس ابن الجوزي يقول ابن جبير: "ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه، الإمام الأوحد، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي (ت 597ه)، بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة ومالك أزمة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدُّر، فأمّا نظمه فرضي الطباع، مهياري الانطباع، وأمّا نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقُسّ وسحبان... ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر ويبتدئ القرّاء بالقرآن، وعددهم نيف على العشرين قارئاً، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القراءة يتلوها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصلها عدداً، أو يسميها نسقاً. فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته، عجَلاً مبتدراً، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه درراً، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقراً، وأتى بها على نسق القراءة لها، لا مقدماً ولا مؤخرا. ثم أكمل الخطبة قافية آخر آية منها. فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ما قرأ القراء آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف ينتظمها مرتجلاً، ويورد الخطبة الغراء بها عجلاً! " اَفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون" [سورة الطور، الآية: 15]، و"إن هذا لهو الفضل المبين " [النمل، الآية: 16] فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخبَر عنه كالخُبْر.. ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقاً، وذابت بها الأنفس احتراقاً، إلى أن علا الضجيج، وتردد بشهقائه النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها، ويمسح على رأسه داعياً له، ومنهم من يغشى عليه فيرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هولا يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم تركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل، لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناجحة، والحمد لله على أن منّ بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله... ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق، بديعة الترقيق، تشعل القلوب وجداً، ويعود موضعها النسيبي زهدا. وكان آخر ما أنشده من ذلك، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام:
أين فؤادي أذابه الوجد وأين قلبي فما صحا بعد
يا سعد زدني جوىً بذكرهم بالله قل لي فُديت يا سعد
وأود أن أختم هذه المقالة بشعر لابن جبير في حب الوطن يقول فيه:
لا تغترب عن وطنٍ واذكر تصاريف النّوى
أما ترى الغصن إذا ما فارق الأصل ذوى
توفي ابن جبير وهو راجع من رحلته الثالثة في الإسكندرية سنة 614 ه، عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاماً. رحمه الله ونفعنا بعلمه...
والله الموفق للخير والمعين عليه


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.