“.. إن حياة ابني الصحافي جوليان أسانغ في خطر وشيك، وأشكركم جميعا على سماعكم لدعوة أم تطلب منكم المساعدة لإنقاذه”. كان هذا مطلع النداء المؤثر والحزين لوالدة الصحافي جوليان أسانغ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، عندما قاد رئاسة تحرير موقع “ويكليكس” وكشف فيه بمهنية عالية كثيرا من الأسرار التي دارت أحداثها في كواليس السلطة في عدد من دول العالم، اتضحت معها خبايا كثيرة في السياسة الدولية وفي العمل الدبلوماسي، وكشفت أن العديد من المواقف والأحداث، كانت الإدارة الأمريكية هي من تقف وراءها بازدواجية في مواقفها، بين التصريحات العلنية وبين ما كان يكتبه سفراؤها عن الدول التي يعملون بها. نداء والدة أسانغ الذي وجهته في الثالث من هذا الشهر، تجاهلته وسائل الإعلام الغربية “الديمقراطية جدا”، وشكل موقعي “Le Grand soir” و “les Crises”الاستثناء، وبفضلهما تمكن جزء من المدافعين عن الصحافة الحرة وحقوق الإنسان من الوقوف على حقيقة تواطئ الإعلام الغربي على القتل المعنوي والمادي للصحفي جوليان أسانغ المطلوب لأمريكا بتهم قد تؤدي إلى الحكم عليه بالمؤبد، ولتجنب هذا المصير يوجد منذ سنوات لاجئا بسفارة جمهورية الإكوادور بالعاصمة البريطانية لندن، في ظروف قاسية روتها والدته في شريط صوتي على موقع “يوتوب”، محروما من الشمس ومن التطبيب بسبب عزم بريطانيا تسليمه لواشنطن فور خروجه من السفارة، كما أن جمهورية الإكوادور تتعرض لضغوط أمريكية متزايدة لتسليمه لها، وهو ما قد تنجح فيه في أية لحظة؛ ما يعني حجم الضغط والمعاناة النفسية التي يتعرض لها أسانغ بشكل يومي، وسط تجاهل إعلامي غربي فاضح وقاس ومخجل لشخصه ولقضيته، تقول والدة جوليان إنه “على الرغم من أن جوليان صحافي مرموق، محبوب ومحترم بسبب شجاعته في إدانة وكشف جرائم خطيرة ومستويات عليا من الفساد، وذلك خدمة للمصلحة العامة، فهو حاليا في عزلة تامة وحيدا ومريضا ويعاني في صمت، قطعت عنه الاتصالات وتعرض للتعذيب في قلب لندن.. السجن الحديث للسجناء السياسيين لم يعد برج لندن، بل سفارة الإكوادور.”… في قضية الراحل جمال خاشقجي شهد العالم بشاعة انهزام السلطوية أمام الرأي، وفي حالة جوليان أسانغ شهدنا كيف انهزمت الديمقراطية الغربية أمام الحقيقة، وبينما اتخذ الإعلام الغربي موقفا واضحا في قضية خاشقجي، ربما، لأن قاتله عربي “مسلم”، فإنه ساهم في قتل جوليان بمعاول التجاهل وتركه وحيدا يواجه مصيرا لا يختلف كثيرا عن مشاهد الدماء والتقطيع في حالة خاشقجي، سوى بما توفره “الحضارة” من أساليب قتل أقل بداوة ووحشية… لكن في النهاية النتيجة واحدة، وهي إسكات الأصوات المزعجة، والتي تغرد خارج السرب وإلى الأبد. في كتاب: “كيف تموت الديمقراطيات”، يقول كل من دانييل زيبالت وستيفن ليفيتسكي، إن التجربة التاريخية أثبتت أنه في معظم الحالات أن “الديمقراطيات تموت ببطء ولا يكاد يلاحظه أحد”، إذ إنها “تفسد بسبب القادة الذين يسيئون استغلالها”، حيث تتعرض الديمقراطية إلى الهدم التدريجي بشكل، ربما، لا تتوقع أثاره المدمرة. في الولاياتالمتحدةالأمريكية يتحقق هذا التصور بشكل واضح، ولعل وجود شخص مثل دونالد ترامب في موقع الرئاسة، وحده يقوم دليلا على كيفية موت الديمقراطيات. لذلك، لا يمكن مثلا انتظار موقف جدي من ترامب في قضية خاشقجي، بينما تطالب إدارته بجوليان أسانغ، ولا يجب أن ننخدع كثيرا بتوزيع الأدوار في الإدارة الأمريكية، ولا حتى بدموع جزء من الصحافة الغربية التي تغاضت طويلا عن أعمال إجرامية وإبادات جماعية في أنحاء متفرقة من العالم، الصحافة الحرة تواجه مصيرها وحيدة أمام تضخم السلطوية وزحفها على الديمقراطيات الغربية ولو بشكل ناعم، وجوليان أسانغ أحد الأمثلة الدالة على ذلك.