مساءلة المشهد العام قبل عشر سنوات ، أخذت معالم ظاهرة هجرة قروية جديدة تتشكل لتنمو وتتعاظم فيما بعد ، وتكتسح أقرب الحواضر والمدن لتتحول ؛ هذه الأخيرة ؛ وفي ضوء تدفق هذه الموجات القروية المهاجرة إلى جحيم لا يطاق ، في صور اكتظاظ الدور السكنية ، واختناق الشوارع والممرات ، وحمى ازدحام في كل مرافق الحياة المدنية ، فأضحى سير المواطن في الشوارع والطرقات ؛ راجلا أو راكبا ؛ ضربا من المغامرة ! ما رأي المسؤولين في هذا الطوفان القروي الذي بات يجتاح المدن ؟ وهل بتنا نشاهد ترييفها وخنق متنفساتها ؟!.. إلى متى نظل مكتوفي الأيدي ؛ والاكتفاء بحسن النوايا والخطابات المسكنة ؟ في مقاربتنا للموضوع ، سنستشير آخر تقرير لإحصاء السكان والسكنى (شتنبر 2014) ، ونعرض لحالات باتت تشكل أوراما خبيثة وعوائق حادة للمعابر ، وقنوات المرور داخل بعض المدن ، وما ينجم عنها من تعذر في الحركة إلى حد الشلل أحيانا !. قراءة في أرقام الإحصاء ما يقرب من 61% هي نسبة التمدن مقارنة لها ب 55% سنة 2004 ، كما أن تزايد السكان في المدن انتقل من 16.50% إلى 20.50% خلال 10 سنوات بنمو ديموغرافي سنوي 2.50% ؛ كما تراجع السكان القروييون بنسبة 2.50% . هذا وإن هناك خمس جهات تتمركز فيها أعداد السكان : الدارالبيضاءسطات 7مليون بنسبة 22.3% ؛ الرباطسلاالقنيطرة 4 مليون بنسبة 14% ؛ مراكشآسفي 5 مليون بنسبة 14% ؛ فاسمكناس تقرب من 5 مليون بنسبة% 14,50 ؛ طنجةتطوانالحسيمة 4 مليون بنسبة %11 .كما أورد التقرير 7 مدن تستقطب ما يفوق ربع السكان الإجمالي ، أي ما يعادل %45 من السكان الحضريين وهي : البيضاء ، فاس ، طنجة ، مراكش ، سلا ، مكناس ، الرباط ،، هذه المدن تعرف هجرة فصلية ، معظمها تتوسط المغرب لعوامل منها القرب الجغرافي ، وتعد القبائل المجاورة لها ، وعوامل سوسيواقتصادية أكبر العوامل وراء الهجرة . وبناء على هذا المعطى نجد أن مدينتي فاسوالدارالبيضاء تعتبران على رأس المدن استقطابا لموجات الهجرة القروية . دوافع مغرية وراء هذه الهجرة منذ عقدين أو أكثر ، كانت دوافع الهجرة محصورة بالكاد في عامل الشغل ، عرفتها بالخصوص مدينة الدارالبيضاء التي قصدتها موجات مهاجرة شملت كلا من رافدي المدن وبنسبة عالية إلى جانب القرى . لكن اليوم ؛ مع استفحال ظاهرة البطالة في صفوف القرويين ، علاوة على انعدام بعض المرافق العمومية والخدماتية .. عرفت وتيرة الهجرة تصاعدا مهولا زاد في تدفق أعداد ضخمة منها على المدن ، ليستقر بها المقام بهامش الأشرطة الحضرية ، أو داخل أحياء سكنية مكتظة ، وتعزا شدة تدفقات هذه الأمواج البشرية إلى جملة عوامل يمكن إجمالها في المؤشرات التالية : * انتشار وعي محلي ، ساهمت فيه بنسبة عالية وسائل التواصل الاجتماعي خاصة والميديا عامة ، والتي تركز على المدينة ؛ في الإشهار لكل منتجاتها ؛ وأسباب رغد العيش في غياب تام لأثر الحياة القروية ؛ * المواطن القروي لا يجد إدارة القرب ؛ من مرافق عامة وخدماتية ؛ مما يضطره إلى الهجرة إليها بدلا أن تهاجر إليه ؛ * متابعة الدراسة والتعليم ؛ في سلكيه الثانوي والجامعي ؛ كثيرا ما يحمل الأسرة القروية على الهجرة إلى المدينة ؛ * فرص الشغل في الحقول ، والأسواق الأسبوعية لم تعد مدرة للربح مثلما هي عليه في مجال الباعة المتجولين ( الفراشا ) ، والاتجار في الممنوعات ؛ * فرص الزواج والشغل ؛ بالنسبة للفتاة القروية ؛ ليست دوما متاحة ، وتكاد تنعدم في مجال الشغل ، إذا استثنينا التقليدية منها كالرعي ، والجني فتفضل الأم القروية المدينة لتوافر آفاق الشغل أمام ابنتها ، إما كعاملة في مصانع النسيج والخياطة أو كخادمة في البيوت ، أو السقوط في متاهات الضياع ؛ * القرب الجغرافي من المدينة ، كثيرا ما يكون حافزا للفلاح وأسرته لبيع ممتلكاته ولو بأثمنة زهيدة مقابل حشر أفراد أسرته داخل بيت وسط الجيران ، وقضاء سحابة يومه مسمرا داخل "هوندا" أو "بيكوب " أو " مرسد بنز" ، في تظار الخدمات ، أو يبتاع "تريبورتور" ليساهم في خنق الشوارع والطرقات ... مدننا في ضوء هذه الهجرات تحولت كبريات الحواضر والمدن المغربية ؛ في ضوء موجات الهجرة هذه ؛ إلى دواوير كبيرة ، تأوي أوكارا متزايدة لتفريخ الجريمة بكل أشكالها ، والاتجار في الممنوعات ، وامتهان الدعارة ، علاوة على ظاهرة الاختناق التي تتهدد جميع مرافق الحياة . فإذا كانت المدن ؛ وحسب إحصاء السكان والسكنى ؛ تشكل نسبة %70 من ساكنة المغرب ، أي ما يقرب من 24 مليون نسمة تتخذ من خمس مدن مستقرا لها ، فسيقفز متوسط سكان المدينة الواحدة إلى قرابة 4 مليون نسمة ، ولو افترضنا أن عدد أسرها يزيد على 800,000 أسرة ، كل أسرة ؛ لا يخلو الأمر من تمتلك ؛ ما بين سيارة أو هوندا ، وبيكوب للنقل ، أو شاحنة أو "تريبورتور" فسيكون مجموع الآليات المتحركة في المدينة قرابة المليون ، إنه لجحيم لا يطاق !. بحكم شرايين الطرق الضيقة والمحدودة المسافات ، هذا عدا الشوارع والأزقة التي يحتلها الباعة المتجولون ( الفراشا ) ، مما يغدو معه التجوال والسير أو ركن السيارة عن قرب ضربا من المستحيل أو هو العذاب بعينه .. حالات جد عسيرة مقاهي تمتد كراسيها إلى الشارع العام ، وأبواق السيارات تتعالى في الفضاء نيابة عن صراخ واحتجاجات السائقين ، تتوقف أرتالها 3 إلى 4 مرات قبل اجتيازها للإشارة الضوئية ؛ تريد أن تبتاع شيئا ؛ عليك بارتداء القفازات وخوض معركة الزحام ؛ المارة في غدو ورواح لا يكترثون للآليات أن تدهسهم إحداها ، وفي أدمغتهم أن الموت واحد مهما تعددت أسبابه إذا اضطررت إلى حجز مقعد داخل طاكسي أو حافلة ، فقد يتطلب الأمر منك أن تكون حاملا لحزام أسود في التكواندو ، أو وجها طافحا بالندوب ؛ إذا ولجت إدارة في استقضاء مصلحة ما فعليك الاندماج في أجواء الانتظار والتأفف والبصاق ورفع أصوات الاحتجاج ، أو رصد المتسللين بإيكال اللعنات تلو أخرى ، فإذا وصل دورك تفاجأ بالموظف(ة) قد ذهب إلى استراحة غير محدودة ، أو يعطيك درسا في ضبط وثائق ملفك لتعيده إليه في اليوم الموالي !. ؛ إذا دخلت إلى مستشفى عمومي ، فقد تتراءى لك مشاهد وصور فظيعة ، أجنحة مرضى تنبعث منها روائح كريهة ، وزوار متكدسون في غرفة الانتظار طويل الأمد ، وأشخاص بزي الحراسة المدنية ، وقد تحولوا ؛ بقدرة قادر ؛ إلى أطباء إخصائيين ، يقذفون بنصائحهم في وجه الزوار والمرضى مجانا ؛ أنين وزفرات وتنهدات تنبعث من نوافذ هناك ، وكأن هناك مرضى يحتضرون في هدوء ؛ إذا أقيمت الصلاة في مسجد ما ، رأيت أفواج المصلين تركض متخطية الصفوف والرقاب ، وما إن يشرع الإمام في الصلاة حتى تتوالى على سمعك رنات الهواتف تزغرد في كل اتجاه وبألوان مختلفة ؛ نغمات أحيدوس واستاتي أو زقزقة طير أو النشيد الوطني . وهل يتأتى الخشوع وسط هذه الأصداء ؟!. أين هي سياستنا من هذه الأورام السرطانية التي باتت شائكة في كل المدن المغربية ؛ ولو بدرجات متفاوتة ؛ ؟ هل هي القدرة على فرقعة التصريحات الرنانة ، ونهج سياسة إعلان النوايا الحسنة ؟ أين وصلت نوايا توسيع المدارات الحضرية ، وجمالية المدينة ؟ وهل المدن القصديرية ، وتحويل شوارع المدن إلى مواقع وأسواق للباعة المتجولين هي السياسة "الرشيدة" الحالية لمدننا ؟!