وليد التجوهي الأربعاء 15 أكتوبر 2025 - 14:18 أين اختفى المعقول؟ حين قال المرحوم عبد الله باها ذات يوم "إن المغرب لا ينقصه لا موارد بشرية ولا مالية، بل ما يحتاجه هو المعقول"، كان يشير إلى جوهر أزمة ثقة تتجاوز الاقتصاد والموارد لتصل إلى صميم السياسة نفسها، أزمة تتجلى اليوم في نفور جيل زد من المشاركة السياسية المؤطرة والعمل الحزبي. المعقول الذي تحدث عنه باها لم يكن قيمة أخلاقية مجردة، بل قاعدة ناظمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع، بين الناخب والصندوق، بين الفعل السياسي ومعناه الحقيقي. ولعل ما يجري الآن من احتجاجات شبابية متفرقة ومنقولة عبر الفضاء الرقمي يطرح سؤال الشرعية الانتخابية من جديد. ماذا يعني أن نستمر في تنظيم انتخابات في بلد تتقلص فيه الثقة إلى هذا الحد، وتتسع فيه الهوة بين شباب ناقم ونخب حزبية تبدو معزولة عن نبض الجيل الصاعد؟ إن احتجاجات جيل زد 212 ليست فقط رد فعل سريع على قرارات اجتماعية أو توترات ظرفية، بل هي تعبير عن قناعة تتشكل تدريجيا مفادها أن منظومة الوساطة الحزبية لم تعد قادرة على تمثيل تطلعاتهم، ولا على إنتاج معنى سياسي يصالحهم مع فكرة التصويت. هؤلاء الشباب الذين خرجوا إلى الشارع أو اكتفوا بإعلان غضبهم على خوادم الديسكورد ومختلف وسائط التواصل، ينطلقون من ملاحظة بسيطة: كون خريطة التنمية في المغرب غير متكافئة، والفوارق المجالية تتسع، ومن يفترض أن يعبر عن هذه القضايا داخل المؤسسات لا يقوم بدوره كاملا. ومن هنا يبدأ الخيط الأول لانعدام الثقة. حسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط، بلغ عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية خلال الانتخابات التشريعية السابقة 17,509,000 ناخب. يبدو الرقم في ظاهره تعبيرا عن قاعدة انتخابية واسعة، لكن التفاصيل تكشف هشاشة المشهد. فبناء على التقديرات نفسها، فإن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 سنة لا يمثلون سوى 19% من هذه اللوائح، رغم أنهم على مستوى البنية السكانية العامة يشكلون قرابة 29% من مجموع السكان حسب نتائج احصاء 2024. بمعنى أوضح أن الكتلة الشبابية خارج اللعبة الانتخابية أكبر بكثير من تلك التي تظهر في الأرقام الرسمية للمسجلين. الأدهى من ذلك أن نسبة المصوتين فعليا سنة 2021 من مجموع المسجلين لم تتجاوز 50,86% وفق معطيات وزارة الداخلية. هذه النسبة تضعنا أمام معادلة واضحة، كون نصف من يحق لهم التصويت فقط هم من حددوا مصير الخريطة السياسية للبلاد. وفي ظل وجود قاعدة ناخبة بهذا الحجم المحدود، يصبح من السهل على أي حزب يتقن قواعد اللعبة المالية أن يوجه النتيجة النهائية عبر شراء نسبة صغيرة من الأصوات. حين تكون المشاركة ضعيفة، تكون كلفة التحكم في الصندوق منخفضة وشبه مضمونة. من هنا يتشكل جوهر الإشكالية، فعزوف الشباب عن المشاركة السياسية لا يضعف فقط الشرعية التمثيلية، بل يعمق من قدرة المال على حسم النتائج. لو ارتفعت نسبة المشاركة، خاصة في صفوف الفئات الشابة التي لا تخضع بسهولة للضبط المالي، لأصبح من الصعب على أي جهة أن تحسم الانتخابات عبر المال وحده. لذلك فتوسيع قاعدة المصوتين هو في جوهره معركة من أجل تحرير الإرادة العامة من التأثير المالي، وليس مجرد دعوة كلاسيكية للمشاركة. جيل زد كما تكشف نقاشاتهم على خوادم الديسكورد ومنصات التواصل، لم يعد يرى في الأحزاب قوة تأطير بل يعتبرها جزءا من المنظومة التي فقدت مصداقيتها. هذا الجيل لا ينتقد عبر البيانات أو المنابر التقليدية، بل ينتج سرديته الخاصة عن طريق القصص الرقمية، والمقاطع الساخرة، والميمات السياسية... ليتساءل في العمق عن كيف يمكن للسياسة أن تكون مجالا للتغيير، بينما الأحزاب التي من المفترض أن تحمل هذا التغيير فقدت قدرتها على التأثير، بعد أن جرى تفريغها تدريجيا من مضمونها التأطيري؟ التجربة الأخيرة لجزء من الأغلبية الحكومية في انتخابات 2021 لم تضع فقط حدا لمسار سياسي، بل وجهت رسالة قاسية إلى جيل كامل مفادها أن العمل الحزبي يمكن أن يسقط انتخابيا بطرق لا علاقة لها ببرامج ووعود جذابة ولا بنقاش سياسي نزيه، بل بمعادلات قوة خارجية. الكرة الآن ليست فقط في ملعب الأحزاب، فبما أن الادارة قد أصبحت الضامن السياسي والمادي للعملية الانتخابية، فهي مطالبة اليوم بأكثر من مجرد تنظيم تقني للصوت، بل بإعادة بناء شروط الثقة العامة. إعادة الاعتبار للسياسة لا يتم عبر البيانات ولا عبر حملات موسمية لتسجيل الناخبين، بل من خلال الاعتراف بأن الشباب لا يريد فقط صناديق اقتراع، بل يريد مسارا سياسيا يشعر من خلاله أن صوته ليس مجرد رقم في معادلة مغلقة. بهذا المعنى فإن المعركة الكبرى ليست ضد العزوف فقط، بل ضد بنية سياسية تعيش على هامش جيلها، وتكتفي بإدارة الانتخابات بدل بناء الثقة. إذ أنه لا يمكن لأي بلد أن يستمر في نفس مسار 2021 ويتوقع نتائج مختلفة. وإذا كان المغرب كما قال المرحوم عبد الله باها، لا ينقصه لا بشر ولا مال، فإن النقص الحقيقي اليوم هو في الجرأة على إعادة تعريف السياسة بما ينسجم مع نبض الجيل الذي يشكل أكبر كتلة ديموغرافية، وأخطر كتلة احتجاجية، وربما آخر فرصة لمعنى السياسة ذاته. الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة