الحكومة والنقابات توقعات على زيادات عامة في الأجور وتخفيضات في الضريبة على الدخل    بالفيديو.. الجيش الإسباني ينفذ تمارين عسكرية على الحدود مع الناظور    الصين: "بي إم دبليو" تستثمر 2,8 مليار دولار اضافية شمال شرق البلد    200 مليون مسلم في الهند، "أقلية غير مرئية" في عهد بهاراتيا جاناتا    تقرير: المغرب وإسرائيل يسعيان تعميق التعاون العسكري رغم الحرب في غزة    منظمة المطبخ المركزي العالمي تستأنف عملها في غزة بعد مقتل سبعة من عمالها    استطلاع.. غالبية المريكانيين كيبان ليهوم أن إدارة ترامب أنجح من ديال بايدن    أول تعليق من مدرب نهضة بركان على مواجهة الزمالك في نهائي كأس "الكاف"    يوسفية برشيد يضع قدمه الأولى في القسم الثاني بعد التعادل مع تطوان    ماركا: المغرب يستغل الفرصة.. استعدادات متقدمة لنهائيات كأس العالم وسط فضائح الاتحاد الإسباني    توقعات طقس اليوم الاثنين في المغرب    رواد مركبة الفضاء الصينية "شنتشو-17" يعودون إلى الأرض في 30 أبريل    هجوم مسلح يخلف سبعة قتلى بالاكوادور    إدارة أولمبيك خريبكة تحتح على الحكام    "عشر دقائق فقط، لو تأخرت لما تمكنت من إخباركم قصتي اليوم" مراسل بي بي سي في غزة    "العدالة والتنمية" يندد بدعوات إلى استقالة ابن كيران بعد خسارة انتخابات جزئية    مدرب بركان يعلق على مواجهة الزمالك    فريق يوسفية برشيد يتعادل مع "الماط"    "العدالة والتنمية" ينتقد حديث أخنوش عن الملك خلال عرض حصيلته منددا بتصريح عن "ولاية مقبلة"    كلمة هامة للأمين العام لحزب الاستقلال في الجلسة الختامية للمؤتمر    البطولة: المغرب التطواني يضمن البقاء ضمن فرق قسم الصفوة وبرشيد يضع قدمه الأولى في القسم الثاني    مرصد يندد بالإعدامات التعسفية في حق شباب محتجزين بمخيمات تندوف    بايتاس: ولوج المغاربة للعلاج بات سريعا بفضل "أمو تضامن" عكس "راميد"    مكناس.. اختتام فعاليات الدورة ال16 للمعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    طنجة تسجل أعلى نسبة من التساقطات المطرية خلال 24 ساعة الماضية    ماذا بعد استيراد أضاحي العيد؟!    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يترأس الجائزة الكبرى لجلالة الملك للقفز على الحواجز    الدرهم يتراجع مقابل الأورو ويستقر أمام الدولار    تعميم المنظومتين الإلكترونييتن الخاصتين بتحديد المواعيد والتمبر الإلكتروني الموجهة لمغاربة العالم    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    مقايس الامطار المسجلة بالحسيمة والناظور خلال 24 ساعة الماضية    الأسير الفلسطيني باسم خندقجي يظفر بجائزة الرواية العربية في أبوظبي    الجهود الدولية تتكثف من أجل هدنة غزة    "البيغ" ينتقد "الإنترنت": "غادي نظمو كأس العالم بهاد النيفو؟"    الفيلم المغربي "كذب أبيض" يفوز بجائزة مهرجان مالمو للسينما العربية    اتفاق جديد بين الحكومة والنقابات لزيادة الأجور: 1000 درهم وتخفيض ضريبي متوقع    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    التاريخ الجهوي وأسئلة المنهج    طنجة "واحة حرية" جذبت كبار موسيقيي الجاز    تتويج الفائزين بالجائزة الوطنية لفن الخطابة    المعرض الدولي للفلاحة 2024.. توزيع الجوائز على المربين الفائزين في مسابقات اختيار أفضل روؤس الماشية    نظام المطعمة بالمدارس العمومية، أية آفاق للدعم الاجتماعي بمنظومة التربية؟ -الجزء الأول-    خبراء "ديكريبطاج" يناقشون التضخم والحوار الاجتماعي ومشكل المحروقات مع الوزير بايتاس    مور انتخابو.. بركة: المسؤولية دبا هي نغيرو أسلوب العمل وحزبنا يتسع للجميع ومخصناش الحسابات الضيقة    المغرب يشارك في الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    صديقي: المملكة قطعت أشواط كبيرة في تعبئة موارد السدود والتحكم في تقنيات السقي    مهرجان إثران للمسرح يعلن عن برنامج الدورة الثالثة    سيارة ترمي شخصا "منحورا" بباب مستشفى محمد الخامس بطنجة    خبراء وباحثون يسلطون الضوء على المنهج النبوي في حل النزاعات في تكوين علمي بالرباط    ابتدائية تنغير تصدر أحكاما بالحبس النافذ ضد 5 أشخاص تورطوا في الهجرة السرية    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    انتخابات الرئاسة الأمريكية تؤجل قرار حظر "سجائر المنثول"    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    الأمثال العامية بتطوان... (583)    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في تجربة الحركة الإسلامية بتركيا -الحلقة الثالثة
نشر في التجديد يوم 25 - 10 - 2002


6
تحولات في مسيرة تجربة الحركة الإسلامية بتركيا
1. على مستوى تجربة الطرق الدينية والصوفية.
* الطرق الدينية والمقايضة السياسية:
لم تكن التيارات الصوفية أو الطرق الدينية مجرد أرقام بشرية داخل المجتمع التركي بقدر ما كان لها حضور وتأثير في هذا المجتمع ،فإلى جانب دورها التربوي و الروحي كان تقوم أيضا بأدوار سياسية وان لم تكن بطريقة مباشرة ، ذلك أنها كانت تميل بأصواتها لأحزاب دون أخرى ، مرجحة في كثير من الأحيان كفة هذه الحزب دون غيره .وفي تحول نوعي عرفته هذه الطرق وهو كونها انتقلت من إعطاء أصواتها بشكل مجاني nإن صح هذا التعبير n الى الدخول فيما اصطلحت على تسميته "بالمقايضة السياسية" ، ذلك أنها أصبحت تقايض بأصوات مريديها وأتباعها ، فتتفاوض مع حزب معين أثناء الحملة الانتخابية أو قبلها، فمقابل أن تمنحه أصوات مريديها ماذا سيمنحها هو من مكاسب .
لقد بدت الملامح الأولى لهذا الأسلوب -الذي تعد الطريقة النورجية سباقة إليه - بعد تجربة حزب السلامة الوطني ، فكما أشرت سالفا ، كان يتكون هذا الحزب من تيارين : تيار ينتمي أعضاؤه الى الطريقة النورجية ، وتيار ينتمي أعضاؤه الى الطريقة النقشبندية ، اختلف التياران معا في تقديرهم للائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري في تلك الفترة ، تيار الطريقة النورجية رفض هذا الائتلاف ، وتيار الطريقة النقشبندية كان مؤيدا لهذا الائتلاف .وعقب تلك الفترة ستختار الطريقة النورجية نهج أسلوب المقايضة ، وسيزداد هذا النهج اتضاحا مع الحكومات التي أعقبت تجربة حزب الرفاه في رئاسة الحكومة.
وتمت مكاسب مهمة تفاوض من أجلها الطريقة النورجية الأحزاب الراغبة في أصواتها من هذه المكاسب :
-أن يمنحها الحزب المفاوض مناصب يتقلدها داخل وزارات معينة كوزارة العدل ووزارة الديانة .
-حصول شركاتها على تراخيص لإنجاز مشاريع معينة،
- تمكين بعض أطرها من ولوج سلك التدريس ببعض الجامعات التابعة للدولة.
- تنصيب بعض أعضائها خاصة من خريجي كليات القانون والإلهيات كقضاة في محاكم الدولة.
هذا إضافة إلى أن يقوم الحزب الفائز بأصواتهم بحجب التضييقات التي قد تلحقهم خاصة اذا وصل الى السلطة. يجسد هذا السلوك السياسي الذي تقوم به هذه الطريقة قوة وحيوية مؤسسات المجتمع المدني ، ودوره الحقيقي والفعلي في توجيه الأحزاب السياسية ومعه أجهزة الدولة للصالح العام الذي ينتفع جل أفراد المجتمع.
* الطرق الدينية وتأسيسها لأحزاب سياسية:
وفي آخر تطور شهدته هذه الطرق الدينية شروع إحداها قبل الانتخابات الأخيرة في تأسيس حزب سياسي ، ويتعلق الأمر بالطريقة القادرية التي كانت تدعم في السابق حزب تانسو تشيلر. وهو توجه بدأت تركب موجته بعض دول عالمنا العربي الإسلامي ، موظفة إياها في محاصرة تعاظم بعض التجارب الإسلامية الناجحة. ومؤشرات ذلك بدأت بعض ملامحها في الآونة الأخيرة .
تمت أسباب عديدة أدت الى حدوث تحولات في مسيرة الطرق الدينية الصوفية، ولعل بعضها مرتبط بما حققته التجربة السياسية الإسلامية على المستوى السياسي ، فكلما تقدمت هذه التجربة خطوات الى الأمام ، نفست عن التيار الإسلامي قليلا ، كلما عاود التضييق والحصار المكونات الإسلامية برمتها ، وما حصل عقب تجربة حزب الرفاه نموذج في هذا السياق ، وقد أشرت سلفا لبعض التضييقات التي أعقبت تجربته ، والتي طالت جل المكونات الإسلامية .
لقد حملت بعض الخطوات التي قام بها الحزب من قبيل الإفطار الجماعي الحاشد الذي دعا إليه أربكان في مقر رئاسته رؤساء وشيوخ الطرق الصوفية شبه تحدي للمؤسسة العسكرية ، وقد أوحت هذه الخطوة ومعها مجموعة من الخطوات برسالة من مكونات الحركة الإسلامية المحتشدة في هذا الجمع للتيار العلماني ومعه المؤسسة العسكرية، ذلك أنه في تجمعها إشارات واضحة لنوع من التهديد المبطن لثوابت الدولة التركية العلمانية. ومهما خلى هذا السلوك من هذه النوايا ، فللخصوم وللمتربصين عموما بالحركة الإسلامية من الخارج أومن الداخل مقاييسهم ومقاربا تهم يزنون بها ممارسات التيار الإسلامي ، قد تختلف تماما عن نوايا فاعلي العمل الذين لا نشك في إخلاصهم وصدقهم.
لا تخفي بعض الطرق الدينية الصوفية امتعاضها من أخطاء التجربة السياسية الإسلامية ، كما لا تخفي معارضتها للخطوات التي تقدم عليها التجربة السياسية سواء على المستوى الداخلي أو المستوى الخارجي ، ومن أجل أن تخرج من أي مأزق يسببه سلوك التجربة السياسية فضل بعضها كما رأينا انتهاج أسلوب المقايضة والسياسية مستقلة بذلك بخياراتها ، بل لا تتوانى أن تبرئ ساحتها من أي سلوك يقوم به هذا الفصيل أو ذلك.
لم نعد انطلاقا من هذا التطورات التي عرفتها الطرق الدينية الصوفية أمام طرق تجمع حشودا من الدراويش بقدر ما أصبحنا أمام خط تغييري جديد ، ينضاف اعتباره ووزنه السياسي ، الى وزنه الاقتصادي المعتبر ، ذلك أن كثيرا من الطرق الدينية الصوفية لها نشاطاتها الاقتصادية والتجارية،في مجالات مختلفة: صناعية وتجارية وخدماتية، وفي المدة الأخيرة أخذ منطق الربح والخسارة يضبط تحركها وحساباتها وتقديراتها لأي خطوة تقدم أو يقدم عليها مكون من مكونات التيار الإسلامي.
2. على مستوى التجربة السياسية الإسلامية:
عرفت الجبهة الداخلية للتجربة السياسية الإسلامية قبيل تجربة حزب الرفاه وبعد حله أيضا نقاشات واسعة بين صفوف أبناء التجربة ، وقد اشتدت في السنتين الأخيرتين من عمر حزب الفضيلة ، إذ لوحظ وجود تيارين داخل الحزب : التيار الأول وهو التيار المحافظ بزعامة نجم الدين أربكان ، وتيار ثاني ظهر بعد تجربة حزب الرفاه وما رافقها من نقاش اثر خطوات قامت بها ، ويقود هذا التيار كوادر قوية ، على رأسها طيب أردوغان ، الرئيس السابق لبلدية استنبول ، وعبد الله جول وعبد الله شنر،وأطلق على أنصار هذا التيار الجديد اسم المجددون .
لا يخلو أي تنظيم بشري من خلافات بين أعضائه ، فلكل وجهة نظره ، ومقاييسه في تقدير مجموعة من الأمر ، طبعا تمت خلاف بين التيارين ، وهو خلاف ليس في الأهداف ، ولا في المنطلقات بقدر هو خلاف في أسلوب العمل والحركة ورسم الاستراتيجيات ومواجهة بعض القضايا المطروحة على الساحة التركية.
أكدت تحليلات كثير من خصوم التجربة السياسية الإسلامية أن التيار الجديد ظهر نتيجة شعور الجيل الجديد من الحزبين بعدم وجود ديمقراطية كافية في تدبير شؤون الحزب ، وأن كل شيء مرهون بأوامر وتعليمات نجم الدين أربكان ، وقد ولد انفراده بالقيادة وتسيير الحزب بعض التذمر ، والذي تصاعد بعد حل حزب الرفاه وخاصة عند قام الحزب ببعض المبادرات غير محسوبة النتائج ، وأعضاء بل زعماء من التيار التجديدي في الحزب نصحوا أربكان بخطأ بعض التصرفات التي قام بها عندما كان رئيسا للوزارة ، منها على سبيل المثال قيامه بزيارة ليبيا ، فقد نصحه السيد عبد الله جول n وهو من خبراء السياسة الخارجية ،وشغل منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية في حكومة أربكان n بعدم إتمام الزيارة لأنها ضد السياسة الخارجية لتركيا ، وهو لا يضمن كيفية تصرف معمر القذافي في هذه الزيارة ، وحدث ما توقعه تماما ..كما عارض عبد الله جول أربكان حينما قام بدعوة رجال الدين وبعض رؤساء الطرق الصوفية الى مأدبة إفطار في شهر رمضان في مقر رئاسة الوزراء ، وقال حينها عبد الله جول بأن ظروف تركيا لا تسمح بهذا العمل ، وأنهم سيواجهون متاعب هم في غنى عنها ، وفعلا حصل ما قاله ،
وكانت هذه الدعوة أحد الأدلة التي قدمها المدعي العام ضد حزب الرفاه ومن الأسباب غير المباشرة لحله.
بعد حل حزب الرفاه وتأسيس حزب الفضيلة الذي تسلم رجائي قوطان رآسته نصح من هذا التيار التجديدي بتغيير أسلوب وطريقة ادارة الحزب ، ولكنه حافظ على نفس خطى صديقه نجم الدين أربكان بل قيل : إن جل ما يقوم به من مبادرات : مواقف أو أعمال ، تجد بصمات أربكان واضحة فيها ، حتى اتهم من قبل بعض المتتبعين بأنه كان لا يدير الحزب ولا يقوده بنفسه ، بل بالتعليمات والأوامر التي يستقيها من أربكان ، وزاد هذا المنهج من شدة التذمر لدى كوادر التجديد داخل الحزب التي بدا لها من حزبها n حزب الفضيلة - وكأنه لا يقوم بوظيفة الحزب المعارض ، يضاف لهذا كله التردد من خلال تصريحاته ومحاوراته وصلت درجة التناقض في بعض الأحيان.
وكان لتراجع نسبة الأصوات التي حصلت عليها تجربتهم السياسية في ظل حزب الرفاه المحظور وتناقصها من 22 / في ا انتخابات 1995 إلى 15/ في الانتخابات التي دخلها حزب الفضيلة إلى تضاعف شكوى التيار التجديدي ، ودفعتهم مجموع هذه السلوكات للتفكير جديا في معالجة الأمر من خلال تسلم قيادة الحزب بالطرق والأساليب الديمقراطية أي بترشيح أنفسهم في المؤتمر العام للحزب الذي انعقد في 14 ماي 2000. والذي شهد تنافسا قويا بين عبد الله جول والسيد رجائي قوطان انتهى بترؤس السيد قوطان للحزب.
أدى حل الحزب بمسار التجربة السياسية الإسلامية وجهة أخرى ، إذ لم تمض إلا أسابيع قليلة حتى عرفت الساحة السياسية التركية ميلاد حزبين : وهما حزب السعادة وعلى رأسه رجائي قوطان يمثل المحافظين من التجربة السياسية الإسلامية ، وحزب العدالة والتنمية وعلى رأسه طيب أردوخان ، ويمثل التيار التجديدي داخل التجربة السياسية الإسلامية.
*خلفيات مسار التحول الأخير في تجربة الإسلاميين السياسية :
قد يكون لكل ما ذكر عن شخصية أربكان أو شخصية صديقه رجائي قوطان في طرق تسييرهم للحزب أو مواقفهم المتشددة من بعض القضايا ... وفي المقابل قد يعلل تذمر التيار التجديدي داخل الحزب بكون زعمائه وقيادييه تحدوهم رغبة جامحة لتحقيق طموحاتهم السياسية التي لم تكن لتتحقق في ظل مسك أربكان بمقاليد تدبير شؤون الحزب ..
هذه الأسباب أو الملابسات صح بعضها أو جلها لا نستطيع أن ننفي حضورها داخل الجبهة الداخلية للتجربة السياسية الإسلامية ، مادام أن أصحابها من سلالة بني البشر تعتريهم من النقائص ما تعتري غيرهم ، وتصيبهم عيوب ما خلى منها كائن بشري منذ خلق الله الإنسان ، لكن هناك تمت ملابسات أخرى دورها أعظم وأبلغ في انصراف التجربة السياسية الإسلامية نحو منحاها ومسارها الجديد أملت هذا المسار وهذا المنحى شروط إعادة جدولة وترتيب الصراع داخل الساحة التركية ، بين التيار العلماني المدعوم من الخارج والداخل وبين التيار الاسلامي وكان شعاره هو ما جاء على لسان السيد خالد الحسن رحمه الله في تعريفه للسياسة ، وقد جاء هذا التعريف في كلمات المرحوم أما المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد بالجزائر سنة 1992 م ، جاء في تعريفه للسياسة بكونها هي: " فن تعريف الصدق مع الشعب وفن المناورة مع العدو ، وفن تحقيق الممكن في اطار العدالة".
برزت داخل التجربة السياسية الإسلامية آراء مختلفة بين قيادييها ،خصوصا بعيد تجربة حزب الرفاه ، إذ انطلاقا من هذه الفترة بدأت عملية المراجعة ، أملتها شروط ترتبط بمستويات ثلاث:
المستوى الأول : مرتبط بالانطلاقة الأولى لهذه التجربة السياسية ، فإلى حد كبير لم تكن فكرة الدخول الى المعترك السياسي بشروطه قد أخذت حقها من التبلور والإحاطة من حيثياتها المختلفة ، وكان الاعتقاد لدى زعماء هذه التجربة أنها ولوج هذا المدخل يمكن أن يكون بوابة حقيقية لباقي المداخل الأخرى ، فلم تكن باقي جوانب تصور التجربة السياسية قد اكتملت ، وتركت عملية استكمالها لتتم داخل ميدان الممارسة والمعركة ، وساحة الممارسة السياسية آنئذ محكومة بشروط معينة ، وهامش التحرك فيها بالنسبة للتيار الإسلامي ضيق جدا.
قبلت التجربة السياسية الإسلامية الدخول في اللعبة الديمقراطية برغم هامش التحرك الضيق ،وكانت في كل مناسبة تحاول تمطيط ذلك الهامش ، وفعلا نجحت في كثير من الأحيان في تحقيق ذلك. لكن في المقابل كانت آلة الحظر والحل تلاحقها في كل مرة وحين ، ولهذه العملية تكاليفها.
المستوى الثاني :
مرتبط بشراسة المعركة التي تجمع التيار الإسلامي بالتيار العلماني في تركيا ، فالتيار العلماني ليس تيارا بسيطا وسهلا ، بل تيار قوي وخطير جدا ، ويملك من الأدوات المادية ما لا يملكها التيار الإسلامي ، كما هو محظوظ بالدعم السخي الذي يتلقاه من الخارج ، و بالمساندة التي يتلقاها من المؤسسة العسكرية الحاكمة حقيقة داخل تركيا ،فتزداد قوة المؤسسة العسكرية الى قوته لتشكل جبهة موحدة ضده.
المستوى الثالث:
اعترى مواقف زعماء التجربة السياسية الإسلامية في ظل التجارب السالفة ضعف في تقدير بعض المبادرات والخطوات والمبادرات سواء على المستوى الخارجي أو على المستوى الداخلي ، هذه الخطوات جلبت على التجربة السياسية معارك جديدة ، استنزفت جزء مقدرا من مجهوداتها ،وإمكاناتها ، فأملت ضرورة تأملها واستخلاص العبر منها.
* حزب العدالة والتنمية تحول أم استمرار في التجربة السياسية الإسلامية القديمة:
هناك شبه إجماع بأن التجربة الجديدة شكلت إضافة نوعية في التجربة السياسية الإسلامية بتركيا خصوصا، وسيرورة في تطور تجربة الحركة الإسلامية عموما ، اتضح معها قدرة المشروع السياسي الإسلامي على إدارة صراعه مع خصومه ، حيث أبدى كفاءة عالية ومرونة مقدرة في إدارة هذا الصراع ، مغلبا المصلحة الوطنية أكثر من تحقيق طموحاته السياسية . لا يمنعنا هذا الشعور من هذه التجربة ولدتها مناقشات ارتبطت معظمها بحيثيات عديدة أحاطت بالمستويات السالفة الذكر ، وهي التي ألقت بظلالها على المواقف الجديدة التي تبناها قياديوا التجربة الجديدة. التي نستطيع أن نقول عنها بأنها : تحول واستمرار في التجربة السياسية الإسلامية داخل تركيا ، نعم هي تحول في جانب مواقفه التي أبداها تجاه قضايا حساسة داخل مجتمعه ، قضية التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي ، قضية الحجاب ، قضية صندوق النقد الدولي الذي أغرق تركيا في دوامة من الديون ..
فإذا كانت مواقف التجارب السياسية الإسلامية الماضية من هذه القضايا والملفات قد طبعت بنبرة تعلوها مسحة التشدد ، فان نبرة الليونة والمرونة قد طبعت مواقف التجربة الجديدة . وتبقى مواقف الاثنين خيارات -لا تعدو كونها اجتهاد وتقدير- قدرها زعماء التجربتين اعتبارا للظرفية التي وجدت فيها.
أما من جهة اعتبار التجربة الجديدة استمرار فعنوانها المنطلقات التي انطلقت منها التجربة ، وهي الرؤِية الإسلامية ، وأظن أن هذه الرؤية هي التي تحكم مقاربات التجربة الجديدة ، وهي نفسها ظلت تحكم التجارب السابقة ، ويبقى تنزيل مضامين هذه الرِؤية خاضعا لكل مرحلة وظرفية.
إن الذي حصل عموما في التجربة الجديدة ، هو ذاك التغير في مواقف زعماءها n الذي كما قلت سالفا أملته شروط إعادة جدولة وترتيب الصراع- تجاه بعض القضايا الاشكالات ، بحيث أظهر زعماء التجربة الجديدة ليونة مقدرة في التعامل والتعاطي مع كثير من الاشكالات التي كانت وراءها معارك كبيرة .
طبع هذه المواقف والآراء اعتدال ، جاء منسجما مع التيار الاعتدالي الذي ظهر في جبهة خصم التجربة السياسية الإسلامية ، والذي تعاظم وكبر حتى أصبح يشكل كثلة داخل مجموعة من الأحزاب العلمانية واليسارية.
الى هنا يمكن اعتبار الخط الاعتدالي الذي تبناه بعض زعماء التجربة السياسية الإسلامية الجدد لا يخرج عن النفس الاعتدالي أو مع موجة الاعتدالية التي طبعت مواقف بعض الأحزاب تجاه بعضها البعض وتجاه القضايا والاشكالات الكبرى المطروحة داخل المجتمع التركي، لتشكل مجتمعة خطا جديدا ، كان السبق لحزب العدالة والتنمية في شق طريقه داخل الحياة السياسية التركية. وهو ما مكنه من تحقيقه فوزه الكاسح في انتخابات 3 نونبر 2002 الأخيرة ،انتخابات عادت بالتيار الإسلامي ليكون مرة أخرى على رأس هرم السلطة ، في تجربة ثانية ، وباستراتيجية أخرى.
* معادلات خفية في صراع التجربة الجديدة مع خصومها :
وجهت للتجربة الجديدة اتهامات تأخذ عليها توجهها ومسارها الجديد ، لا يفتأ الناظر إلى صك الاتهامات أن يخلص الى نتيجة مفادها : أن زعماء التجربة الجديدة قدموا تنازلات كبيرة لخصومهم ولأعدءهم ، ومن بين التهم التي تنعت بها التجربة:
- كون الحزب يضم أعضاء علمانيون ، يعملون لصالح مؤسسات خارجية يرومون الدفع بقرارات الحزب نحو مزيد من التنازل على مبادئه ومعتقداته.
- كون مواقف زعماء حزب العدالة والتنمية لانت تجاه بعض المؤسسات التي كان لها دور في إغراق تركيا في أزمتها الاقتصادية ، ومن بين تلك المؤسسات :صندوق النقد الدولي الذي لم يخف ترحيبه لدعم التجربة الجديدة ومساعدتها في الجانب الاقتصادي للخروج بتركيا من أزمتها الخانقة.
- كون زعماء الحزب قد أخذوا تعهدات من الإدارة الأمريكية التي شجعت المؤسسات المالية والبنكية التي تدور في فلكها سواء داخل تركيا أو خارجها بالانفتاح على التجربة الجديدة ، وتسهيل سبل التعامل معها.
الى وقت قريب كانت الجهات والمؤسسات المذكورة والتي اتهم حزب العدالة والتنمية الجديد بتعاملها وانفتاحه أو انفتاحها عليه تبدي تحفظاتها تجاه التيار الإسلامي سواء في المعارضة أو في الحكومة ، تجربة الرفاه نموذجا ، كما لا تخفي دعمها لإجهاض أي محاولة لانبعاث هذا التيار وتسلمه مقاليد الحكم في أي منطقة ، وقد سخرت لهذا الغرض كل امكانتها ومقدراتها، ونجحت في كثير من الأحيان في إفشال نهوض وانبعاث التيار الإسلامي،بل ساهمت في تشويه صورته أمام الرأي العام الداخلي والخارجي . لا أذكر أن هذه الجهات قد توقفت اليوم عن مخططاتها،بل أقول: إنها ومن خلال ما بدى من تعاملها n إن وقع ذلك- مع التجربة التركية الحالية-ومراعاة لمصالحها- اضطرت لتليين مواقفها اتجاه هذا التيار ، والذي مارست ضده مجموعة من المخططات ، الا أنها وجدته خصما شرسا ، تكسرت أجزاء من مخططاتها على صخرته.
هناك عدة مؤشرات تؤكد أن تمت شروط أملت على الجهات الخارجية والداخلية التنازل وتليين مواقفها مراعاة لمصالحها الاستراتيجية ، وهذا -في نظري n مكسب انتزعته تجربة الحركة الإسلامية بتركيا خاصة ، مؤكدة من خلال ذلك ، بأنها ليست دائما مصدر تهديد لمصالح الجهات الخارجية والداخلية ، فهي على العكس من ذلك ، قد تتوافق مصالحها ومصالح وطنها مع مصالح الجهات الداخلية والخارجية بشروط تحفظ للطرفين حقوقهما. وقد كانت تجربة التيار الإسلامي ، في تدبير شؤون البلديات بصفة خاصة تجربة نموذجية ، لعلها من أهم الأسباب التي ساهمت في نجاح حزب العدالة والتنمية ، إذ أن زعماءه وعلى رأسهم رئيس الحزب طيب أردوخان أظهروا حنكة عالية وخبرة فائقة في حسن التدبير والإدارة والتنظيم .
لا ننكر أنه صارت للطرف الخارجي مدعوما بخصوم الداخل ، توافقت أيضا مع مصالح التيار الإسلامي داخل تركيا، ففرض الوضع تقديم كل طرف قدرا من التنازل الذي يحفظ للطرفين حقوقهما . وكما صارت المؤسسات المالية لا تخفي أملها في أن تشكل التجربة الجديدة n تجربة حزب العدالة والتنمية -معبرا لترويج الفكرة اللبرالية داخل التيار الإسلامي ، وأيضا التيار العلماني لا يخفي فرحه بأن تكون التجربة الجديدة جسرا لترويج الفكرة الليبرالية داخل هذا التيار. لا يخفي أبناء التيار الإسلامي ومن خلال تجربتهم الحالية قدرتهم على اختراق الجدار العلماني ومعه المؤسسات الداعمة له ، وترويج الفكرة الإسلامية داخله. إنها سنة التدافع ، والمعركة تأثير وتأثر.
7
خلا صات واستنتاجات
- يمكن اعتبار تجربة التيار الإسلامي داخل تركيا فريدة ونوعية من عدة نواحي أهمها ناحية إيمانها منذ وقت مبكر بأهمية المدخل السياسي في عملية التغيير والإصلاح داخل المجتمع ، فهي قد مارست اللعبة السياسية في البرلمان والحكومة وفق نظام ديمقراطي ، آمنت بشروطه كلها ، وعملت في الهامش الضيق المسموح لها به ، وبالرغم من ذلك فانتظامها هذا التيار ضمن شروط اللعبة الديمقراطية ، أتاح له التعبير عن طروحاته علنا وبطريقة سلمية،هكذا تكون الديمقراطية التي كانت وسيلة لاستيعاب الحركة الإسلامية والتيار الإسلامي والتقليل من" أخطاره" و"أصوليته" هي نفسها حملت هذه الحركة وهذا التيار ممثلا بحزب الرفاه في التجربة السابقة وحزب العدالة والتنمية في التجربة السياسية الحالية الى السلطة في تركيا الجمهورية العلمانية.
- إن تجربة الحركة الإسلامية التركية في شقها السياسي الذي مثلته الأحزاب الستة وتعاملها داخل الساحة السياسية وفق مقتضيات النظام الديمقراطي مكنها من التعرف عن قرب على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بكل تحدياته ، ومكنتها اكثر من التعرف على خصمها الآخر وهو التيار العلماني المتغرب ، كيف يفكر ؟ بأي أساليب يتحرك كل ذلك أكسب حركيتها في ظل وضع معقد مزيدا من التفهم والعقلنة.
- شكلت تجربة حزب الرفاه في السلطة سنة 97 ، شوطا من شبه التفاهم على إدارة الاختلاف بين تيارين داخل تركيا : تيار إسلامي أصيل ، نابع من هوية مجتمعه ، تحكمه منظومة ظلت ردحا من الزمن تشكل عقيدة وسلوك أفراد مجتمعه . وتيار دخيل ، أملته شروط خارجية وداخلية ، تحكمه منظومة غربية لادينية. استطاع الطرفان بعد جولات من التقاطب والتجاذب قبول بعضهما الآخر ،أما الشوط الثاني فهو الذي تجسده حاليا تجربة حزب العدالة والتنمية.
أملنا أن يكتب للتجربة السياسية الإسلامية الجديدة التوفيق والنجاح ، وتتمكن من تجاوز ما يحفها من مخاطر، تزيد تجربة الحركة الإسلامية عموما صلابة وقوة.

إدريس بوانو


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.