الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    النصب على حالمين بالهجرة يقود سيدتين الى سجن الحسيمة    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشذرة ...طفلة ترفض الانسلاخ من طفولتها
نشر في بيان اليوم يوم 11 - 09 - 2015


قراءة في أعمال المبدع عمر علوي ناسنا
في البداية أود أن أبدي بعض الملاحظات أو أطرح بعض الأسئلة التي أرقتني وأنا أقرأ أعمال المبدع عمر علوي ناسنا، والصعوبات التي واجهتني أثناء مقاربتي لبعض شذراته.
لقد تساءلت كيف أقوم بدراسة لأعمال مكونة من كم كبير من الشذارت المتشظية إلى جزيئات، كل جزء من أجزائها يحيل على معان لا نهائية؟ كيف أواجه هذه الكثافة اللامحدودة واللانهائية التي تبدو أحيانا متناقضة، وأحيانا أخرى مفتوحة على التعدد ومكتنزة بدلالات رمزية وحالات نفسية لا متناهية؟
ما السبيل إلى جمع شتات هذا الخطاب المتصدع والمتنكر للجاهز والمألوف والثابت، والمحيل على فراغ زمني قلق يسعى دون هوادة إلى الانفصال والاختلاف والانفلات وهو يخلق حقلا أو بالأحرى حقولا دلالية تلغي الحدود والتأويل بنزوعها المرير نحو مزيد من التشذير والتفتيت؟ كيف أمسك بخيط رابط بين أفكارها ضمن زمنها المفصول؟
هذه النصوص البلورية جعلتني أقتنع أنها كما هي طفلة ترفض الانسلاخ من طفولتها للتعبير عن رؤية للإنسان وللأدب وبالتالي للعالم، بانطوائها على عمق شعوري منفلت من كل رقابة أو تسيج أو تجنيس، باللجوء إلى التكثيف والتركيز المؤكد على سطوة فكر أو أفكار تمارس خلخلة وتمهد أكثر من سبيل للاختراق أو للتعبير عن كنه الذات.
لماذا نتوق إلى أن تصبح مجنسة ونمنحها هوية بالقوة، ربما من المنطق أن تظل خارج التجنيس لتكشف بقوة عن صمتها وتحافظ على ملمحها التدميري. مادامت وليدة نسيان مترسب في القلب. هل تحمل الشذرة بصمة كاتبها؟ وهل يمكن اعتبارها نوعا من السيرة الذاتية المترجمة للمعاناة؟ ثم من أين تستمد كل تلك القتامة وكل تلك القوة وتلك المناورة والتشويش؟ هل بفعل تدفق إحساس كاتبها، أم لقوتها التوليدية وأساليبها المتنوعة، والزئبقية التي تؤمن لها الانتقال السلس بين الدلالات؟
إن الملمح الفلسفي في هذه الشذرات جعلني أتساءل عن علاقتها بالكتابة الصوفية من جهة، وكذا علاقتها بالأجناس الأخرى؟ ثم تساءلت لم لا تكون جنسا مستقلا بذاته، جنسا يبرز نوعا من العدوانية في الكتابة، ويمارس تشذيبا وحذفا وهدما لتوقه إلى التحرر من التجنيس أساسا. فخاصية تعقب الهامشي والغائب والمتحول والمنبوذ، لا يمنح الإحساس بالخضوع أو الولاء لتسييج معين. ثم لماذا نتوق إلى التجنيس ومنح الهوية لهذه الكتابة وتقعيدها بالقوة؟
ربما من المنطق أن تظل خارج كل تجنيس لتكشف بقوة عما لا يقال ولكي تحافظ على ملمحها التدميري ما دامت وليدة لنسيان مترسب في القلب . فهل تحمل الشذرة بصمة كاتبها ؟ وهل يمكن اعتبارها نوعا من السيرة الذاتية المترجمة للمعاناة ؟ ثم من أين تستمد كل تلك القوة والطاقة التدميرية ، وكل تلك القتامة ، وتعدد المنظور ؟ هل من طبيعتها البنائية ، وآليات مراقبتها وفعلها المشوش ؟ أم بفعل تدفق الاحساس وقوتها التوليدية وأساليبها المتنوعة وزئبقية انتقالها بين الدلالات ؟
لقد حاولت الاشتغال على شذرات من بعض أعمال المبدع عمر علوي ناسنا التي توفرت بين أيدنا ، وأثارتني لذة السؤال بل أثرت في الشذرة وحاولت تقاسم لوعتها معكم ،من خلال مقاربة مجموعة من الشذرات التي تفاعلت معها بشكل انتقائي لتقريب المتلقي من بعض دلالتها ومنظورها الموغل في عمق صمت رهيب ، معتمدا على بعض المقالات المنشورة افتراضيا .
وصايا الشيطان الطيب (1)
في كتابه « وصايا الشيطان الطيب» لاحظت من خلال عملية إحصائية بسيطة أن شذراته موزعة كالتالي :
شذرات مكونة من ثلاث كلمات :
- الرمال خصوبة الصحراء ص 51
شذرات من أربع إلى خمس كلمات : اللقاء عنف والعنف انفصال ص 30
شذرات مكونة من سطر : يشدك الألم إليك ، ترميك اللذة خارجك « ص 34
شذرات من سطر ونصف : العنف ليس شيئا آخر غير الحركة المنفلتة لهدوء محتقن «
شذرات من فقرة : يعتقد المتأمل أنه يصل جوهر الأشياء ، ما يحدث هو أنه يضيع جزء من ذاته كلما تقدم في طقسه التأملي ، التبد العام هو إعادة ما يسمى الجوهر «
شذرة مكونة من نص أنظر ص « 56 ( وصايا الانسان الطيب )
تناولت الشذرات ما لا يحصى من التيمات ، ووظفت دلالات تدل أحيانا على عكس منطوقها ، أو بالأحرى لافراغها من محتواها ، بفعل التشذير الذي حولها لجزيئات فاقدة لملمحها الأصلي .
ملاحظات أولية :
الاهداء :
تميزالاهداء في وصايا الشيطان الطيب بحمولات توريطية معلنة عن تقاسم المسؤولية « و» يضع الكاتب إهداء لكي لا يتحمل وزر شروره لوحده « ص 5 وهي عبارة بقدر ما تخرج عن المألوف تدل على القصدية في تحميل الوزر الجميل للآخرين .
تقديم الكاتب
تقديم الكاتب لعمله ص 7 تحت عنوان « قبل البداية «و هو تقديم يبرز المفهوم الذاتي للشذرة ، وسبب ادمانها ودلالتها ومواصفات الشذرة الناجحة « الشذرة الناجحة كطلقة موفقة ، إنها تنهي كل شيء في لمح البصر « ص 5
هذا الاشتغال الواعي لمسناه كذلك في أعماله الأخرى بدقة وحرص متناهيين .
الكتاب مقسم إلى جزئين « أفوريزمات « و» تقاسيم « وقد استحوذ الجزء الأول على مساحة أكبر في حين حاز الجزء المعنون بتقاسيم على حيز أصغر .
شذرات الجزء الثاني من الكتاب « يثيرنا فيها مفهوم التقاسيم الدال على الانسياب في العزف وخلق تلوينات النوطة السريعة جدا داخل اللحن دون الخروج عن المقام مع احترام تام للسلم الموسيقي .
وسنلمس أن هذا العزف تم داخل الجسد وعلى ايقاع أحاسيسه القابلة لتفجير الرغبة وفضح مكبوت الذات التي بدت للوهلة الأولى ككتلة صعبة الاختراق أو سطح غير قابل للتصدع ، يقول « ماذا يقول جسد يحن لبنت الجيران، لصاحبه المتمنطق بالديناميت ؟ « ص 63
إن حرقة السؤال بقدر ما تبرز إجابة صامتة تمنح الاحساس بالسخرية والفضح ، فالسؤال في الكتابة الشذرية أكثر وقعا من الجواب . و التعبيرالاستعاري في هذه الشذرة وشذرات أخرى يبرز الحمولة الشعورية للذة والرغبة في تفجير مكبوت الذات وفضح النية وإدراكات الجسد ذاته باعتبارها « إدراكات محجوبة لا ترتقي إلى درجة الوعي الانساني إلا كجزء ضئيل أو كصورة يعكسها الفكر أو نشاط الجسد « (محمد الاندلسي )
وتتحول الكتابة الشذرية إلى نوع من القفز نحو اللامرئي يقول « ماذا تقول عاهرة للذة معلبة ؟ « لندرك أن الكتابة الشذرية بهذا المعنى تعيش على هامش اللغة وليس داخلها ..من أجل الكشف عن الكلام الذي لم يقل بعد « وقد تكرر هذا البناء ضمن سياقات عديدة لنتأمل الشذرة التالية « تستطيع أن تعرف جوهر الخير إذا وجدت سره في أحد أشكاله « ص 67
فالتقاسيم ذاتها تحدث داخل الكتابة الشذرية تلوينات خاضعة لتقسيمات معينة :
تقاسيم على :
- مقام الارادة – مقام ماذا – الجسد – الطفولة – الجنون – الوصية – يا علي .
وهي تقاسيم مساعدة وتندرج ضمنها تيمات محددة .
في تقاسيم على مقام الحيوان : أنا نلمس أن السخرية بقدر ما تبدأ من الذات من خلال الارتكاز على مفهوم القلب ، تحيل على نزعة أكثر حيوانية ، من الحيوان يقول « أنا لا أحب أن أكون ذئبا لكني ذئب ..أسعد بأن العنزة التي عرفتها تشبه كثيرا العنزة التي تختبئ في داخلي والتي تجعلني ذئبا جميلا « ص 75 مع ما تحيل هذه الشذرة على قولة « إيما هي أنا « لفلوبير .
إنه اغتيال للأنا بنوع من القسوة تتجاوز السطح الخادع نحو العمق ..نحو الداخل لتعرية الاحساس الباطني وابراز خبث تطلعات وهشاشة تكوينه ببلاغة تعكس مكر الذات الخفي واللانهائي .
إننا هنا نبحث عن معنى حقيقي للمكر بل عما يساير المكر ذاته فالضحية في النص لا اعتبار لها ما دام البناء الشذري يعمل على هتك دناسة الخيانة بحثا عن سر التهكم والسخرية والبروز بوجه أكثر اختلافا للخيانة نفسها
إن هذا التشييد الذي يسم العديد من الشذرات يفتح الأبواب على مصراعيها للضحك ، وكذلك لنوع من الإحباط أحيانا أخرى ، إحباط نابع من طبيعة الشذرة المرتكزة على التناقض في الاستدلال المنطقي وإحالاته اللامتناهية .
في شذرة مندرجة تحت عنوان فرعي تقاسيم على مقام الوصية نقرأ ما يلي :
« أي بني :
مثلت أمك دور الزوجة السعيدة ، ومثلث دور المرأة المتفهمة التي تمتص كل الصدمات ، ومثلث دور المرأة التي لا تغضب ، ومثلث وامتصت كثيرا يا بني ، صارت أمك يا بني بعد كل هذه السنين اسفنجة كبيرة ،
إذا كنت مصرا على أن تعصر تلك الاسفنجة فأعد نفسك لترى كثيرا من الأوساخ التي ترشح ، أوساخ الحياة التي كنت أحضنها لتحبوها كما تشتهون « ص 78
إن المعاني التي تضمنتها الشذرة بقدر ما يوهمنا طرحها الأولي بالنزوح نحو استخلاص نتيجة ، تصدمنت نهايتها واستدلالها المتناقض مع المنطق ، بالانفتاح على الاختلاف الزائغ عن الطرح الأصلي وهي تتنكر من خلال خطاب ساردها لكل خصال الأم ونضالها أو كما يقول الأستاذ عبد السلام بنعبدالعالي « تجعلنا تكرس نسيانا فعالا لماضيها وتقيم جزر معان تصدع الخطاب ، وتقضي علىالوصل فيه وعلى المعنى النهائي( 2) ....فأسلوب النص وتوثره المفتعل ظل لا نهائيا لتتحول الشذرة إلى ألة حربية « كما عبر عن ذلك جيل دولوز ، واكتسبت لغة النص حيزا أ كبر من الوقاحة وشكلت متاهة تمتثل انعراجات الروح لتضبط التعقيد أصلا في روح العصر « حسب إلويت « (3)»كوكاس «
فالبناء الشذرية أشبه بفعل « الاغيال « حسب الأستاذ عبد العزيز كوكاس ، وهو هدم المعبد قبيل بنائه نقيا كما عبر عن ذلك « موريس بلانشو» ليقترب الأديب من حريته .» (4) فالكتابة هنا تضحى ممارسة لفعل تشظي مضاد لا يتحقق إلا بالإعدام الرمزي للأدب ..بما أنها رؤية خاصة لكاتبها ، هجرة ونسيانا ، وتعددا ، واختلافا « ( 5) حسب الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي . كما تعمل على سيادة المعنى وتكثيف اللغة وعلى ممارسة نوع من العدوانية عبر تفتيت نفسها كذلك وتروم خلخلة السائد والتعبير عن كنه الذات وعمق الرؤية .
في حين نلمس في الجزء الأول « أفوريزمات « كتابة بلورية يسود فيها التعدد والتنوع والتفكك أو بتعبير عبد الكبير الخطيبي « كتابة موجهة ضد الكاتب تسعى جاهدة لتحرير نفسها من سطوته وانغلاقه ..عن طريق تكسير أنظمتها الدلائلية ومحاولة لاقحام اللانهائي في الفضاء المحدود والتعدد ضمن الموحد ، في مقابل الوحدة التقليدية التي أساسها الانسجام المنطقي والبناء المعماري « ( 6).
يقول الشاذر» ماذا كان سيفعل الشيطان بذنوبنا كان سيقضي بقية أيامه وحيدا ؟ « ص 29
فالاحالة في النص بقدر ما تمارس همها للنطق الأصلي « العصيان « وكذا الزمن الماضي ( كان) وللمستقبل ( سيفعل) تعمل على الدفع بالمتلقي نحو العمق الآخر ، وهي تكنس الثوابت وتجردها من حقيقتها عبر تبني خطاب آخر ( يبدو منطقيا ) للإثارة الانتباه إلى المسكوت عنه والمهمش في النص الديني « إحساس الشيطان بالوحدة « وهو ما يتناص مع العتبة « وصايا الشيطان الطيب ومع شذرة أخرى كذلك يقول « لا أحد يتفهم الشيطان أكثر ، إلا من قرأ كثيرا عن القديسين والأنبياء « ص 29
إن الشذرة ترفع هنا شعار المغايرة والتجريب بنزوحها نحو ممارسة نوع من تحرير الذات وكذلك الوعي .لأنها حسب إميل سيوران « عتبة نصية ..لأنها منزاحة من نص أرحب « يروم تحريك الفكر وخلخلة يقينياته ..وتكسير المجرى العادي للأشياء « (7)
فالمراوغة المميزة للشذرة تروم نحو تشييد المفارقة التي بقدر ما تعمل على تخريب الراسخ من يقينياتنا ومألوفنا للمفاهيم والأشياء ودلالتها المترسبة في لا وعينا كتمثلات أو مقدسات غير قابلة للهتك . تتحول بفعل المناورة السردية إلى سراب وشك أو إلى كومة لغوية فاقدة لكل لذة وعاري من الدفء ويعوض ذلك بتوليد المعنى الجديد المعاكس والساخر مفهوم لن يكون أقل وقعا باعتباره ينكأ الجرح حد النزيف وهو ما لحظناه في أغلب نصوص هذا العمل .
أنا : مؤقتا أنا
في حين نلمس في كتابه المعنون « أنا مؤقتا أنا « (8 ) أن العتبة بقدر ما تنفتح على التشكيك في الذات تعمل على فتح مسارات جديدة نحو الأعماق ، نحو الأنا الكاتبة تحديدا المتشككة في كينونتها والمدركة فعليا لها باعتبارحياة الانسان هي « مرور عابر نحو زمن آخر فالمتأمل في شذرات هذا العمل ستنتابه الدهشة من كونها تخضع الذات والنفس على محك التأمل وتخضع النظرة إلى التابت والراسخ إلى الهدم وإعاد التشييد ، من خلال الارتكاز على المتقابلات الضدية التي لا تعمل إلا على إفراغ الفكرة من معناها الأصلي وإعادة بعثها بشكل مقبول يعكس جوهر حقيقة ما يقول الكاتب في تقديم كتابة « كثيرون يكرهونني ، إنهم يعتقدون أني أفضل منهم ، إنهم واهمون أنا فقط لست أسوأ منهم ص 5
فبين الاعتقاد المشيد في ذهن الأخر بالأفضلية والمثير للكراهية والغيرة نلمس الطرح البديل يعكس لجوهر الاعتقاد ووضعه في ميزان المقارنة – أفضل – أسوأ ، كدلالة رمزية على تموضع مقصود وتحويله للصياغة النهائية يبرز تأويل الخطاب في ذهن الأخر بإحداث نوع من الازاحة نحو الدونية القصوى .
إن تقشير اللغة وتخليصها من ذهونها هو انعكاس لمرآة الداخل ولواقع الأمرو التي تتبناها عبر حلقات متصلة من الوهم يعتقد معها الآخرون أنها دخلت في حيز الملق والتابث ، هذا الفضح بقدر ما يمارس سطوته ينزع من التابث جوهره المزيف يقول السارد «
ماذا يوجد في المعجم حقا ؟ كل تلك الكلمات والشروح لا تجدي شيئا ، نحن نذهب في الغالب للمعجم لنبحث إذا كان يتفق معنا فعلا « (32)
إن الرغبة في البحث عن المعنى الأصلي يظل في واقع الأمر رحلة للبحث عن إرضاء لنوازعنا وأفكارنا التواقة لمزيد من الطمأنينة . فالشذرة بحكمتها الساخرة تعمل على ايقاف زحف البشاعة وهي تساعد على تدفق أحاسيسنا نحو الاختلاف المعري عن هشاشة منطقنا ومنظورنا للأشياء وتكسير نرجسيتنا الميالة للدعة والتسليم والمألوف . وهي نظرة لم تسلم منها الفضاءات والأمكنة من خلال الحيز الذي نشغله أو نشكل ألفة معه .ونرتبط معه بعلاقة حميمة إلى درجة اننا نحملها بداخلنا هل تحملون الأمكنة الأثيرة بداخلكم ؟ اعتقد أن الجواب بقدر ما يجب البحث عنه من خلال أجوبتكم ربما قد تجدونه داخل هذه القاعة لا خارجها .لأنكم تعتقدون أن ما يجمعنا اللحظة هو زمن عابر في مكان عابر وضمن لحظة لن تتكرر ، لنتأمل هذه الشذرة :
غرفة الضيوف «لقد وضعوا فيها أغلى ما نملك ، أجمل الأشياء التي تثير الاعجاب ، والضيف لا يأتي إلا نادرا ، هكذا كانت هذه الغرفة التي تستحوذ على ثلثي البيت مغلقة في الغالب ، وفيما كنا نختنق فيما تبقى ، كان الهواء يضحك في غرفة الضيوف ،فهمت حينها حجم المساحات البلهاء في أنفسنا ، المساحات التي نتركها للأخرين الذين لا يأتون إلا لماما ، مساحات المجاملة والكذب ، والنفاق ، ولا يبقى للصدق ، إلا ركن صغير ، صغير حتى أنه يتحول لمرحاض في نهاية الأمر « ( 20)
فالحديث عن المساحة هو في الواقع حديث عن الذات ، عن الأنا الذي يبرز في الوقت ذاته المساحة التي نشيدها بغتة بين الصدق والكذب ، وكل حديث عن الذات توازيه المطالبة بارتداء المزيد من الأقنعة والتفنن في انتقاء أجمل العبارات الكاذبة والخادعة ، لكن هل يعتبر الصمت في هذه الحالة دافعا للنفس والذات على الحياد ؟
يقول السارد « طلب مني أن أتحدث عن نفسي ، رأيت حينها ظلا يكبر تحتي ، كان ذلك دون أن أتحدث أية عتمة كنت ساغرق فيها نفسي لو تفوهت بكلمة « ص ( 33)
إن خطورة البناء في الكتابة الشذرية يكرس النزوح نحو مزيد من القتل « للأنا « وللفكرة في مهدها بنوع من القسوة التي تشكل طعنة غادرة حتى لكاتبها المتأمل في هالتها أمر لا تمنحه الذاكرة ، ولا تمده به الحواس ، وإنما تمنحه الموت . فالكاتب دائما واثق من نبل الموت وفي نظري هذا طموح ووعي أعمق بكثير من عمق السطح ( السطح عمق آخر )
فالكاتب عمر علوي ناسنا بتأمله لأعماق النفس الإنسانية يقيم مفارقاته للقبض على المنفلت واللا مرئي والعادي والبسيط من الأشياء الكامنة في عمق المجاز ويكشف عن مفعولها المخدر الزائل يقول «
لا شيء يقوي بدون تمرين ، الخير مدين بكل عقلانية لمدرب حكيم اسمه الشر « ( أنا مؤقتا أنا )
الحكمة فاكهة زائفة ، لأن كثيرين يعرفون ذلك ، فلا أحد منهم يضعها في سلته « ( أنا مؤقتا أنا )
« باستثناء الحزن لا يوجد شعور آخر أصيل ، الفرح حالة شرود تنتاب الحزن « ( أنا مؤقتا أنا 45 )
خربشات طفولة معاصرة
أما في عمله « خربشات طفولة معاصرة « ( 9) يبرز الاشتغال على الشذرة نابعا من قناعة الكاتب بزيف الكتابة ذات النفس الطويل ، لأن اللذة نابعة من القلق والدهشة وضد الكاتب والمنطق والمسلم به ، جاء في تقديم الكتاب أن الشذرة حكاية قمحة باعتبارها الشكل الوحيد الملائم لمزاجي ، تمثل كبرياء لحظة محولة مع كل المتناقضات التي تحتويها ..إن علاقة ذا نفس طويل وخاضعة لمتطلبات بناء مزيف ...بهاجس التتابع هو عمل من الافراط في التماسك بحيث لا يمكن أن يكون حصينا « ( التقديم ) كما تضمن التقديم مفهوم إميل سيوران للشذرة ومواصفاتها وابعادها ودلالتها لنلمس أن كتاب خربشات طفولة معاصرة جاء تطبيقيا بامتياز ومنظرا من خلال نصوصه التي كتبت بجرأة وبدقة عالية تبرز دهشة الوعي بالكتابة الشذرية ، وفي نظري المتواضع أن ما عبر عنه الكاتب من مواقف وتصورات وأراء اعتبره ارضية نظرية بامتياز جاءت مختزلة وتبرز قلق الكاتب الذي تحدوه الرغبة في المغايرة يقول «
حين فكرت في كتابة هذا الكتاب اللعين ، كنت مدفوعا بقوة يدي طلك الطفل ، الطفل الذي كان يضعني دائما في تلك الحافات ، ثم بعجلة غريبة يدفعني لأسقط ، كان يوفر علي وقت التفكير وعناء اختيار الاحتمالات وحسابات الربح والخسارة ..مثلما أفكر في أن الوم ذلك الطفل الذي كان يدفعني للسقوط في كل مرة لأختبر إدعاءات أجنحتي « ص15
إن هذا الطفل الذي يسكن ذات الكاتب هو الشذرة التي ظلت بصغر قامتها ونحافتها وشغبها وتصرفها العفوي والتقاطها الساخر ومناوشتها الرافضة لكل تشييج بدء من التجنيس لتتحول باستمرار مجرد عتبة لكتابات ظلت ملازمة لمفهوم الخربشة الصادر عن اللاوعي وترجمتها للمبهم بداخلنا ، ولا ننظر إليها كلغة تعبيرية ذات معنى أو مغزى لأننا مقيدين بسياج المنظومة أو المنظومات يقول في نص طفولة « ما كنت أراه أنا هو مجرد خطوط متقاطعة تلتوي بكثافة في أماكن معينة وتتفرع رؤوسها بشكل عجيب في أخرى «ص 45
إن هذه الدلالة بقدرما تعبر عن منظور لوضع ، وواقع اللغة ، تترجم سوء فهمنا الضمني لها وعجزنا عن استيعاب قدرات تلك الخربشات نفسها كلغة فاضحة لفظاعة العالم ، وهي تترجم عمق زيفنا وظلمات أنفسنا لتدخلنا إلى نسيجها حسب ما جاء في مضمون شذرة أخرى يقول السارد « قيل إن اللغة حررتنا من الأشياء ، لم نستطع أن نفعل ذلك إلا بإدخالها إلى سجنها «
وارتباطا بالعتبة وخربشات الطفولة تكشف بعض من هذه الشذرات جوانب خفية في علاقة الصغار بالراشدين وتفضح زيفهم وهي تقدم تصورا صادما يعري عن جوهر تلك العلاقة ، يقول السارد « يفرح الأطفال حين نخبرهم بأننا سنسافر ، ليس السفر في حد ذاته هو مدعاة فرحهم ، إنهم سيسعدون لأنهم سيسافرون مع أب جديد وأم مختلفة لا يظهران إلا في السفر «
إن الاحالة على التغيير السلوكي نابع مما تترجمه تصرفات الأبوان من رقة ولباقة ، ما يكشف عن معاناة نفسية يحجبها جحيم آخر غير السفر .
فالاحساس بالسعادة نابع هنا من الانفلات من دائرة العنف اليومي ، والقهر المسلط على الذات باستمرار ومن التعاليم والقيود المكبلة للحرية فالأسرة تتحول إلى مؤسسة لإعادة الادماج بقوانينها الصارمة التي لا تتلاشى بالخروج من محيطها ومن مجالها المحدود نحو مجال أرحب ومن زمن تابت نحو زمن متحول ومن نواة قامعة وضاغطة ككماشة إلى أنويات أخرىمانحة للمزيد من الحريات .يقول السارد « إني أحاول أن أستعيد طفولتي باستعادة وحدتي ، الوحدة التي كانت في زمن الطفولة القلقة التي تحمي ذلك الأنا الذي لم يدجن بعد «.
وبقدر ما نلمس ذلك الحنين إلى الطفولة في محاولة لاستعادة «الأنا» ، فإن الكشف عن البعد اللامرئي فيها هو البحث عن صفاء الذات وعفويتها وتحريرها من قيودها بعيدا عن كل المؤثرات والتفاعلات التي دنستها ، ومحاولة الاستعادة هي سفر عكسي عبر الزمن نحو الداخل نحو « أنا « غير مدجنة .
فالشذرة تبرز أثرا رجعيا ، لتبديد قلق السارد وتوقه لتطهير ذاته مما علق بها وما ترسب داخلها عبر أحقاب.
إن علاقة الطفل داخل هذه الشذرات بالمحيط والعالم هي علاقة اندماج وتماهي مطلق يقول « يرسم الطفل في البداية خطوطا غير مفهومة ثم يتدخل العالم ويحمله شيئا فشيئا غير مفهومة ، ثم يدخل العالم للطفل شيئا فشيئا حتى يخرج الطفل نهائيا بشكل غير مفهوم تماما ، كخطوطه الأولى».
فالعالم يبرز من خلال الشذرة كقوة مؤثرة وفاعلة على احداث تغيير في مسار العفوية كنهها والطفولة هويتها لتتحول بشكل غير مفهوم تماما , إنه العالم الذي يفقد البذرة هويتها ينسخها طبقا لنموذج متعارف عليه وهو ما تعمل الشذرة على هدم كينونته وإحباط تجاربه ، والتجربة حسب مواقف الكاتب وكما جاء في إحدى الشذرات هي الطريق المعاكسة للطفولة ما دامت « الطفولة عنوانا لمقاومة إغراءات الراشدين الذين يفقدوننا جذورنا الأصلية».
إن هذا البناء يحول كتابة الخربشات بكل ما تحمله من عنفوان ودلالات وإيحاءات طفولية إلى بحث عن طبيعة الشذرة التي « ترفض أن تكبر مثلما كان حلمنا الا نكبر « حسب إميل سيوران ‹ ، ص 9، وهي توقف الزمن لتضحى كتابة يبقى كاتبها على « قيد الحماقة « حماقة الطفولة التي ترى عوالم مغايرة لعوالم الكبار ، أمر تعكسه الشذرة التالية « تلك الطفلة التي قالت لأبيها : أنا حضرت زواجك بأمي ، ثم أردفت حين استغرب : انا التي كنت أمسك بذيل فستان عرسها ، تلك الطفلة أجبرت أباها على أن يكبر ليصير في مثل سنها « (خربشات).
إن الأسئلة التي تفرزها الشذرة بقدرما تترجم هويتها وجلالها تبرز أن الجنون سمة من سمات الكتاب الكبار في تمردهم على المألوف والجاهز من القول والأحكام والتصورات ، دليلا على ميسم طفولة الشذرة التي هي كالطفلة لا تقيم وزنا للمنطق و أجبرت أباها على أن يكبر ليصير في مثل سنها.
فاللعب منطق وأساس الابداع الذي يتوق إليه الراشدين في مختلف مراحلهم العمرية يقول السارد « الفن مدين للطفولة بالكثير ، ذلك أن الفن قائم على منطق اللعب نفسه ، كل الناس يمكن أن يكونوا فنانين لو أمكنهم أن يصجبوا معهم ذلك الطفل الذي كانوه إلى أقانيم الرشد في مراحلهم العمرية القادمة « (خربشات).
وسنلمس هذا الامتداد في إشارة لمواقف من الطفولة في كتابه « أنا مؤقتا أنا « من خلال الاشارة إلى العلاقات الأسرية وخاصة العلاقة بالأب يقول السارد « كان عندنا ألبوم عائلي ، رجوت أبي أن يمنحني صوري الخاصة بي وأنا طفل ، لكنه ، كان يرفض دائما. عندما غادرت أسرتي أعطيت طفولتي إرثا خالصا لأبي، لأموت مرتاح الضمير» ص27 ( أنا مؤقتا أنا).
هناك أب يغري صغيره بمرافقته للمقهى ، ثم يطلب منه أن يجلس بهدوء، وأن يكف عن الحركة الزائدة، وأن يتكلم بمقدار، ويضحك بمقدار، إن الطفل الذي يعرف الريح جيدا، ويعرف البحر والسماء، لا يعرف كيف يستطيع أن يوجد بمقدار» ( أنا مؤقتا أنا )ص 43
« أعتذر للطفل الذي كنته فقد جعلته يكبر على وقع السياط ،كان من الممكن أيها الصغير أن تأكل بإيقاعك، لا أكلك بإيقاع أفكاري « ( أنا مؤقتا أنا ) ص 30
إن ما تقدمه هذه الشذرات من إيحاءات ضمنية تحول صورة الطفولة الأكثر فهما لإيقاع الحياة، والأكثر استيعابا لمنطق الأشياء، وهي تقيم مكافئاتها الجمالية ، وتفرغ عالم الراشدين من اتزانه المصطنع ، وتعري عن جنونه الحقيقي. فاغتصاب حقوق الطفولة هو اغتصاب للكينونة ولجوهر « الأنا « الصافي وتحويل لروحها وإيقاعها المستوعب لماهية الأشياء في بعدها اللا مرئي.
كما وجدنا إشارة تتماشى مع هذا الطرح كذلك في شذرات أخرى من كتابه « وصايا الشيطان الطيب « (ص 74).
خار ج التغطية
مرافعات سردية ( 11)
في حين لمسنا في كتابة « خار ج التغطية « مرافعات سردية ، مواقف حول مفهوم الكاتب للنص من خلال عنوان مثير جدا « بلاكة في الطريق « وهو تنبيه وتحذير وفي نفس الوقت يعتبر تنظيرا وتأطيرا للعمل ككل ، وسنتعرف على عينات تحدد طرحنا الأول أنطلاقا من الهامش رقم ( 1) الكيبلاد. ص 9 وحاشية النص التي ستضعنا داخل متاهة السؤال الفلسفي الأبدي بين اللذة والألم .
تستمر المرلافعات السردية في تحديد المواقف ومناورة القارئ الذي لا يكون لديه هامش للدفاع أو إبداء الموقف . ما دامت نوافذ تفتح على مصراعيها لتوطين النص داخل إطار خاص يعمل على تقديم مبررات منطقية لكل حدث على حدا ضمن مسلك التوجيه الخاص ، وغم كونه يطرح على مضض .
تعمل المرافعات على تكوين معجم تتحدد بصماته إنطلاقا من عنف النص وعنفوانه أحيانا وهو ما يبرز نزوحا نحو تجريب كتابة غير مسبوقة ربما من حيث المناورة التي تصل حدا من الإقناع الرهيب وكأننا داخل قاعة محكمة .
المرافعات السردية من هذا المنظور يتحول فيها القارئ لقاض عليه ضبط النفس والانصات بكل جوارحه لأن الاحتكام إلى الحجج لن يفيده مادام السارد يحمل دلائل إثبات لفشل منظومة بأكملها. كما تحمل هذه المرافعات السردية منظورا جديدا للنص ذاته وأليات اشتغال كاتبه ، وبالتالي فلعبه على التنويع والتضمين والاختراق يحوله لكتابة تخلخل السارد وتمارس تفكيكا للنص بعد قراءة هوامشه الموجهة نحو قارئ يجعل الطفل مرتكزا وهامشا في الوقت ذاته .ما دام حياده القسري هو تنبيه للقارئ بضرورة تحمل دوره التاريخي كقارئ للحظة والموقف
وسيتحول الهامس في النص نحو تبرير موقف وبالتالي منح الاختيار حول عنوان النص ، وهو ما يجعل السارد والكاتب معا ضمن دائرة واحدة « هيمنة ذكورة « نظرا لقوة التأويل وهالته من خلال ما ترسب في المخيال الذكوري من هيمنة ، والاعتذار بقدر ما سيفتح أفقا لقراءة النص وتحويل معناه بالبحث عن بدائل لمضامينه سيتحول مباشرة إلى تبيه البداية « بلاكة في طريق القارئ « ص 7 التي لم تكتب عبثا بل كانت آخر ما كتب من نصوص هذا الكتاب .
الهامش في هذه المرافعات إثبات لنفي ، ونفي لأتباث وتشكيك قد يصل إلى الطعن في سلامة قراءة النص ، وفتح لباب التأويل الممكن . كما أن القارئ من خلال هذه المرافعات يكتب نصه الخاص ، مادامت النصوص مجرد غرف زجاجية تسمح بالرؤية من كل الزوايا وعلى كل النظر إلى مضمون النص من زاويته المفضلة.
نلمس أن تعدد الضمائر تعبير عن وعي بخطورة وأهمية ما يسرد ، وهذا التخصيص يجعلني مدركا لمدى تأثير التنظير على الكاتب الذي تتحول كتابته إلى تنظيرات على شكل مرافعات سردية أو مناورات سردية واعية ومدركة لنهايات النصوص الموجعة أو المخيبة للآمال. فالقارئ يتحول في هذه النصوص إلى شخص مهزوم بالضربة القاضية.
لقد أضحت هذه المرافعات السردية مقترنة بهوامشها المتحولة لمفاتيح إجبارية ، ومسارات عبرها يتم ربط الدال بالمدلول في إطار من السخرية والعبثية أو التلغيز، وهي إحالات نصية أساسية لفتح مجموعة من المغاليق التي قد توهم القارئ بجعلها نهاية للنص عند حدود نقطة معينة . كما أن الهوامش كذلك هي منارات محفزة للدخول في عوالم لم يكتبها الكاتب بل ستكتب انطلاقا من تأمل صدى النص وما أحدثه من رجة بالأعماق ، وأحيانا تفتح علة بياض للدلالة على عجز وإحباط أو جنون أو توقف اضطراري.
تحاور هذه المرافعات نصوصا سابقة للكاتب ومواقف طريفة في نفس الوقت لكنها تحمل في طياتها منظورا ساميا للكتابة ، ومشروعا مهما بدأه بخطى حثيثة بدء من « وصايا الشيطان الطيب مرورا عبر خبز الله ، وخارج التغطية وخربشات طفولة معاصرة ، وأنا مؤقتا أنا» لنلمس أن كتابة الشذرة هي كتابة تقد من الأعماق والواقع والذاكرة والتجربة في قالب أدعى للسخرية والدهشة.
خلاصات واستنتاجات
من خلال قراءتنا لأعمال الأستاذ عمر علوي ناسنا نلمس أن الشذرة تترجم الحالات النفسية والمواقف الشخصية وانعكاسات الذات المتأملة كما نبرز العمق وتحفر في جوهر وكنه المفهوم بإزميل دقيق جدا ، كما ترسم ملامحها ومؤشراتها حول لغة تعتمد النحافة على جسد عبارة ضامرة حد السقم .فهي تنطلق من بضع كلمات إلى الجملة إلى الفقرة ثم النص ، وتظل مكتنزة بالعمق الدال على ردود الفعل المبني على تحقيق الكينونة والبحث عن الهوية ورد الاعتبار للأشياء المنبوذة والمهمشة والبسيطة بعمق فلسفي يتجاوز الوصف اللغوي الانسيابي إلى لغة مصقولة ضمن بنيان يوهم بتماسكه لكنه قابلا للانهيار بافتقاده لأحدى دعاماته أو أحد أجزائه . وهو ما يحولها إلى كتابة تعمل على الكشف والاستقصاء وهي تحوم حول تخوم الأحاسيس الداخلية وموجات ترددها العميقة واللامرئية.
هذا الاشتغال ضمن دائرة المحسوس أو المجرد يحولها أحيانا إلى لوحة سريالية وإغراء جميل ، أو موت بطيء وصامت ومعزوفة ممقوتة بسخريتها . فهي تسكن الشاذر ورعشاته تجتاحه على حين غرة لتقض مضجعه بجحيم أسئلتها الرهيبة.
الشذرة كسكين جراح تجتز الجاهز من الحقائق وتشكك في صحة الثوابث. وتتورط في جريمة المعنى وتنتقم منه ومن كاتبها. كما أن حياتها مشروطة بتداولها المفرط وبتأويلها المتعدد وبرفضها الأبدي وعنفها الرمزي. وهتكها للقداسة والفضيلة . إنها لعنة فاضحة لأسرار الخلق وعاهاته.
تعمل الشذرة على التحول لألة فتاكة تمارس الهدم والبناء للمعنى الجديد أو المعنى النفيض وهو ما يمنحها سلطة توليد المكلفئ الجمالي الجديد .لكنه ليس مطلقا بقدر ما هو سؤال يظل مفتوح كالجرح الغائر ينزف باستمرار . بقدر ما تمنح معنى للأشياء تعمل على خلق شروط جديدة لانفلاتها ، وقلق منظورها المخالف المليئ بالقسوة تجاه الذات الكاتبة كذلك.
الشذرة طفلة تعمل كذلك على تكسير أناها باختراقها نحو الكينونة، وإماطتها لأقنعة الأعماق ونفاذها الزئبقي نحو عمر آخر في رحلة معكوسة لتظل كذلك كتابة عاكسة للضعف والعجز بسخرية لا تتورع عن التنكيل والفضح باستمرار.
إحالات وهوامش
(1) عمر علوي ناسنا: وصايا الشيطان الطيب منشورات دار التوحيدي الرباط المغرب 2011
( 2) عبد السلام بنعبد العالي «مقالات في الكتابة الشذرية «
( 3) عبدالعزيزكوكاس «الشَّذرة كمحاولة لكتابة الصمت» موقع اتحاد الأنتريت المغاربة
( 4) عبد العزيز كوكاس الشَّذرة كمحاولة لكتابة الصمت « مذكور سابقا
( 5) عبد السلام بنعبد العالي مقالات في الكتابة الشذرية « مذكور سابقا
( 6) محمد الأندلسي « جينيالوجيا الكتابة « موقع : ابن خلدون
( 7 ) محمد الأندلسي « جينيالوجيا الكتابة « موقع : ابن خلدون مقال مذكور سابقا
( 8) عمر علوي ناسنا أنا : مؤقتا أنا ( أفوريزمات ) منشورات دار التوحيدي الرباط 2012
(9) عمر علوي ناسنا خربشات طفولة معاصرة كتاب الرافد العدد 18 يونيو 2011
( 10) عمر علوي ناسنا أنا : مؤقتا أنا ( أفوريزمات ) مرجع مذكور سابقا
( 11) عمر علوي ناسنا خارج التغطية مرافعات سردية دار العين الاسكندرية 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.