فيدرالية اليسار الديمقراطي بتيسة تدق ناقوس الخطر بشأن الأوضاع الاجتماعية وتنتقد المنع والتهميش    زيلينسكي والقادة الأوروبيون يبحثون في البيت الأبيض شروط اتفاق سلام في أوكرانيا    كأس آسيا لكرة السلة: المنتخب الأسترالي يتوج باللقب على حساب نظيره الصيني    نادي الجزيرة الإماراتي ينهي تعاقده مع الإطار المغربي الحسين عموتة    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    قرار هدم يثير الجدل بأزمور: مهاجر مغربي يشتكي من قائدة الملحقة الادارية الاولى    توقيف شخص وسيدة متورطين في سرقات محلات للهواتف بطنجة    نادي الجزيرة الإماراتي ينهي التعاقد مع الحسين عموتة    مظاهرات في إسرائيل تطالب بإنهاء الحرب في غزة وإعادة الرهائن ونتانياهو يعتبرها "تعزز" موقف حماس    اغتصاب جماعي لطفل قاصر بموسم مولاي عبد الله أمغار    المليوي أفضل لاعب في مباراة المغرب والكونغو    برامج تنموية جديدة بتوجيه ملكي .. ولفتيت يحذر من التوظيف الانتخابي    ماكرون: بوتين يريد استسلام أوكرانيا    الرئيس عون: لبنان تعب من الحروب    السكتيوي: قوة شخصية اللاعبين وثقتهم بأنفسهم كانت حاسمة في المباراة ضد الكونغو الديمقراطية    هل الدولة المغربية محايدة سياسيا؟    بطولة إفريقيا للاعبين المحليين لكرة القدم.. المغرب يتأهل إلى ربع النهائي بفوزه على الكونغو الديمقراطية    حالة الطقس: جو حار ورياح نشطة غدًا الاثنين    الصحافة من بوابة الثقافة في ذكرى رحيل غلاب    الدرك الملكي يحجز أزيد من 200 كيلو غرام من مادة "المعسل"    ارتفاع ليالي المبيت ب13% في النصف الأول من 2025.. السياحة الوطنية ترتفع 5% والدولية 16%    السيارات المصنَّعة في طنجة تتصدر المبيعات في إسبانيا    إدغار موران : إسرائيل/ فلسطين : ثنائية النَّظرة    مؤرخان إسرائيليان ‬يقارنان المحرقة.. ‬والإبادة في‬ غزة!‬    المنظمة المغربية لحقوق الإنسان تتصل بزوجته لتأكيد التضامن‮ ‬ .. بعد تهديد وزير الأمن القومي‮ ‬الاسرائيلي‮ ‬للقائد السجين مروان البرغوثي‮ ‬داخل زنزانته    حادث مأساوي يودي بحياة شرطي في الشارع العام    تزكية معاذ القادري بودشيش شيخاً للطريقة القادرية البودشيشية    مشروع الربط السككي بين طنجة وتطوان يعود إلى قبة البرلمان    "سينما الشاطئ" تحل بطنجة وتحتفي بالإبداع المغربي في الهواء الطلق    الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية الغابون بمناسبة العيد الوطني لبلاده        الصيادلة يعلنون عن احتجاج وطني تنديدا بنظام تسعيرة الأدوية بالمغرب        السكتيوي يكشف تشكيلة المغرب لمواجهة الكونغو في الجولة الحاسمة من الشان        لأول مرة..الصين تكشف عن روبوت برحم صناعي قادر على الحمل والولادة    أطفال القدس الشريف يحلون بالحمامة البيضاء ويزورون أهم المعالم التاريخية لمدينة تطوان    البيجيدي يسائل وزير الداخلية حول مشاركة طوطو في مهرجان القنيطرة وضمانات التزامه بقيم المجتمع    أنفوغرافيك | خلال 2024.. المغرب ثاني وجهة استثمارية في شمال إفريقيا    ميرغت.. الزمان والمكان والذاكرة    130 سربة و42 ألف خيمة.. موسم مولاي عبد الله أمغار يسجل مشاركة غير مسبوقة    الصيادلة يصعدون ضد وزارة الصحة بسبب تجاهل مطالبهم المهنية    المغاربة على موعد مع عطلة رسمية جديدة هذا الشهر    الجزائر.. السلطات توقف بث قنوات تلفزية بسبب تغطيتها لحادث سقوط حافلة بوادي الحراش    مذكرات مسؤول أممي سابق تكشف محاولات الجزائر للتدخل وعرقلة المغرب في قضية الصحراء    المنتخب الوطني يواجه الكونغو الديمقراطية.. هذا موعد المباراة والقنوات الناقلة    "لاغتيست" يشعل منصة "رابأفريكا"    بورصة الدار البيضاء تنهي أسبوعها على وقع ارتفاع طفيف لمؤشر مازي    هكذا يتجنب عشاق ألعاب الفيديو متاعب العين    دراسة: أطباء يفشلون في تشخيص السرطان بالذكاء الاصطناعي    دموع الأم ووفاء الوطن.. لحظات استثنائية في حفل كزينة بالرباط    منظمة الصحة العالمية تحذر من استمرار تدهور الوضع العالمي للكوليرا    مشروع قانون يثير الجدل بالمغرب بسبب تجريم إطعام الحيوانات الضالة    "بعيونهم.. نفهم الظلم"    بطاقة «نسك» لمطاردة الحجاج غير الشرعيين وتنظيم الزيارات .. طريق الله الإلكترونية    هنا جبل أحد.. لولا هؤلاء المدفونون هنا في مقبرة مغبرة، لما كان هذا الدين    الملك محمد السادس... حين تُختَتم الخُطب بآياتٍ تصفع الخونة وتُحيي الضمائر    المغاربة والمدينة المنورة في التاريخ وفي الحاضر… ولهم حيهم فيها كما في القدس ..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة : مليحة...
نشر في السند يوم 26 - 03 - 2011

نظر إلى ساعته وقد بدا عصبيا، ينفث دخان لفافته كداخون قطار يعمل على الفحم، الوقت يمر، ولم يُكمل استعداده بعد، تنقصه تفاصيل الخطة، مُنع من السفر إلى الأردن، كان عليه الاجتماع بالقيادة لوضع اللمسات الأخيرة على خطته التي يعمل عليها منذ شهرين،
لم يجد من يأتمنه للسفر مكانه، حتى رائد الذي يشاركه العمل لا يستطيع إرساله، والزمن يمر سريعا كهبة ريح غربية، فكلما مرَّ جزءٌ من زمن، تراه قد عصفت به الحيرة، وبعثره القلق.
ما بك واجما كمن فقد أمه؟ سألته وهي تقدم له فنجانا من القهوة السادة، لم يجبها، ولم يعطها التفاتة، فأعادت عليه السؤال مرة ثانية، وثالثة، وفي المرة الرابعة هزته من كتفه قائلة "نص الألف"، عندها أجاب بانقباض شديد: لا شئ ... لا شئ يا عمتي، وكل هذا الوجوم... أنت على غير عاداتك هذه الأيام، فقد تغيرت طباعك، وذهب عنك مرحك، فأين حديثك الجميل، وقصصك الحلوة؟ أين ابتسامتك المشرقة؟ أشاح بوجهه عنها ولم يجبها، وهي بدورها لم تُثقل عليه، بل ذهبت لإحضار كأس ليمون بارد...
استيقظ مع خيوط الفجر الأولى، جلس متكئاً على وسادته محاولاً إنضاج فكرة راودته طيلة الليلة الفائتة، فقد وجد الشخص الذي يثق به، لكنه يراجع الفكرة ويدورها برأسه، نعم، هي الوحيدة التي أستطيع الوثوق بها، وبنفس الوقت لا تثير أية شكوك عند الأعداء...
وضعت أمامه طبق القش وعليه خبز الطابون، وصحنا فيه زيت زيتون، وبيضا مقليا على شكل عيون، وفحل بصل، وبندورة، وإبريق شاي بالنعناع، التف أحفادها حول المائدة، لم تستطع زوجته مشاركتهم الطعام، فقد كانت متعبة بسبب الحمل، لاحظت الحماة صهرها، يأكل بشهية كبيرة، فاطمأنت بأنه عاد إلى نفسه.
قال لها: "إلك وللا للذيب" يا عمة؟ "خسا الذيب"... هناك مهمة لا أحد غيرك بمقدوره انجازها، فهل جواز سفرك ساري المفعول؟ نعم، ولكن، لماذا؟ ستذهبين اليوم إلى عمَّان، جهزي نفسك. استغربت... لكنها رضخت للأمر ليقينها بأنه إذا ما قرر أمرا فإنه لا يتراجع عنه...
هو طويل القامة، ولد ليكون قائداً بالفطرة، شديد ولين، حنون وقاسٍ، مرح وجاد، يقيس قبل أن يغوص، ورع، لا يفوته فرض ولا واجب، يعيش لدنياه ولآخرته، كريم وحريص... سلمها رسالة ملفوفة بإحكام، ووصف لها العنوان بدقة متناهية، وذكر لها اسم الشخص الذي ستقابله، وأوصاها بأن لا تخبر أحداً بسفرها هذا... هي حريصة، مليحة، رقيقة، عذبة كماء جدول يتسلل من بين رياحين الرياض، تزرع السكينة في من يجالسها، ذكية، صلبة في إيمانها... تمخر عباب الحياة مستعينة ببوصلة الوطن، تتحطم الأعاصير تحت أقدامها الصغيرة... وقد كانت ملاذه في معظم الجولات...
فوجئت برائد رفيق ثائر، يجلس بنفس السيارة المتجهة إلى الجسر، تجاهلته تماماً، وتظاهرت بأنها لا تعرفه، وهو بدوره لم يحادثها... توجهت إلى العنوان الذي حفظته عن ظهر قلب، أنجزت مهمتها وباتت ليلتها في بيت ابنها في مرج الحمام إحدى ضواحي عمان، وطفقت عائدة في اليوم التالي إلى القدس، تحمل بين ثنايا ثوبها الفلسطيني المطرز، رسالة، وبعض المال إلى ثائر...
سلمت ما في جعبتها من أمانات إلى صاحبها، وعادت لحياتها كأن شيئاً لم يكن، أما هو فقد أكمل ما بدأ به بعد تسلمه توجيهات القيادة الأخيرة...
بعد منتصف ليلة خميس، طرق شديد على باب بيتها، لم تفقد ثباتها، وضعت شالتها على رأسها وأطلت من وراء ستارة، لتجد العشرات من الجنود المدججين بأنواع السلاح، يحيطون ببيتها من كل جانب، يتقدمهم رجل أشقر ذو لكنة غريبة، يقف بجانبه مختار القرية، "مين انتو؟" افتحي يا حجة أنا المختار ابو متعب ومعي الكابتن ابو يوسف. " وشو بدكو؟ بهالليل؟" "افتخ باب، اخنا جيش دفاع" ... فتحت الحجة مليحة باب البيت ليندفع الجنود إلى الداخل، فيقلبون البيت رأساً على عقب، ينثرون الطحين فوق العدس والأرز، يخلطون المئونة فوق بعضها، يقلبون الفراش، يخرجون الملابس من جوف الخزانة، والمختار يقف بجانب الكابتن الأشقر، الذي يرقب جنوده منتظراً نتيجة بحثهم وتخريبهم... جاء أحد الجنود حاملاً بين يديه جوازات سفر من بينها جواز سفرها، وقدمه إلى الرجل الأشقر، ثم وضعوا الحديد بيديها الاثنتين، وسحبوها معهم إلى المعتقل...
- لماذا ذهبت إلى عمَّان قبل أسبوعين؟
- ذهبت لزيارة ابني المريض.
- ليوم واحدٍ فقط؟
- من قابلتِ؟ ما اسم الشخص الذي قابلتيه؟ أين ثائر؟
- أنا لا أعرف عن ماذا تتكلم، فانا ذهبت لزيارة ابني والاطمئنان عليه وهذا ما حدث، ولا أعرف أين ثائر، فهو لا يقول لي أين يذهب، انه يأتي متى يشاء، ويذهب متى يشاء، ولا أعرف عنه شيئاً.
- هناك من رآك في عمَّان وأخبرنا بكل شئ.
- أنا لا أعرف عمن تتحدث.
أحضروا رائد... هذه المرأة صعبة جدا، الظاهر بأنها ستتعبنا معها... أُحضر رائد ورأسه مغطى بكيس من الكتان، وصلت رائحة قذارته لأنف مليحة التي صرخت في وجهه: أنت أيها الكلب هل تعرفني؟ وللا شفتني؟ تفو عليك واحد رخيص.
تفاجأ رائد بردة فعلها عندما رأته، فارتبط لسانه عن قول أي شيء، أصابته دهشة، لم يفق منها إلا على صراخ المحقق يأمره بالتكلم، لكنه خجل من نفسه أمام صلابة هذه المرأة، التي بدت أمامه كالطود الشامخ، خُيل إليه بأن كل نساء فلسطين يتجسدن أمامه بنظراتهن اللواتي اخترقت كل خلية من خلاياه، فارتفع الإدرينالين إلى أعلى نسبة مرة واحدة، ليتحول وجهه إلى اللون الأصفر الفاقع، حتى ليكاد يبول على نفسه، فلم يتفوه بحرف واحد، لكن المحقق تدارك الأمر بخبرته في تلك المواقف، فأمر بإبعاده فوراً من أمامها، حفاظاً على ما تبقى منه.
خمسة أيام بلياليها الطويلة أمضتها مليحة بين الزنزانة الضيقة المعتمة، بأرضيتها المبللة بالماء وجدرانها الباردة الرطبة وبابها الحديدي الضخم وأصوات مفاتيح ترن بأذنها، تمنعها من إغماض عينيها لحظة واحدة، فتحرمها النوم، وبين غرفة المحقق المجردة من الأثاث عدا طاولة صغيرة يجلس خلفها محقق متجرد من كل إنسانية، ومعاونان يكاد رأس كل منهما يلمس سقف الغرفة، ضخمان يثيران الرعب بأقوى الرجال، في داخليتها شعرت بأنها من بقي على وجه الأرض في مواجهة هذا المحقق وأعوانه، هي من بقي من نساء ورجال وشيوخ فلسطين تقف وجها لوجه أمامهم، أغاظتهم بثباتها وشكيمتها، كما أغاظتهم بثوبها المطرز بألوان الأرض الفلسطينية، المزين بجذور التاريخ... لم يكن بمقدورهم هزيمتها برغم هذا الحجم من التعذيب والقهر، خمسة أيام طويلة على المحقق أيضاً، نفذ ما بجعبته من وسائل ترهيب وترغيب لاقتناص كلمة منها، تغيرت وجوه المحققين مرات ومرات، وتنوعت الأساليب، ومليحة ثابتة لا يهتز لها رمش... خرجت بعدها، وبقي المحقق يجتر غيظه وخيبته، خرجت منتصرة... لكنها متألمة من رائد الذي وشى بها وبثائر الذي بقي مطاردا إلى أن قضى شهيدا في إحدى المواجهات، هي تعافت من آلامها عندما جلست حول أحفادها تحدثهم عن حكاياتها، فكانوا يستمتعون بتلك الحكايات التي تجعلهم يفخرون بجدتهم، وبأبيهم أمام الأطفال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.