ميزانية مجلس النواب لسنة 2026: كلفة النائب تتجاوز 1.59 مليون درهم سنوياً    بنكيران: النظام الملكي في المغرب هو الأفضل في العالم العربي    تقرير: سباق تطوير الذكاء الاصطناعي في 2025 يصطدم بغياب "مقياس ذكاء" موثوق    لماذا تصرّ قناة الجزيرة القطرية على الإساءة إلى المغرب رغم اعتراف العالم بوحدته الترابية؟    بطولة ألمانيا لكرة القدم.. فريق أونيون برلين يتعادل مع بايرن ميونيخ (2-2)    كوريا الشمالية تتوج ب"مونديال الناشئات"    البطولة: النادي المكناسي يرتقي إلى المركز الخامس بانتصاره على اتحاد يعقوب المنصور    مدرب مارسيليا: أكرد قد يغيب عن "الكان"    موقف حازم من برلمان باراغواي: الأمم المتحدة أنصفت المغرب ومبادرته للحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد    نبيل باها: "قادرون على تقديم أداء أفضل من المباراتين السابقتين"    عائلة سيون أسيدون تقرر جنازة عائلية وتدعو إلى احترام خصوصية التشييع    ألعاب التضامن الإسلامي (الرياض 2025).. البطلة المغربية سمية إيراوي تحرز الميدالية البرونزية في الجيدو وزن أقل من 52 كلغ    طنجة.. وفاة شاب صدمته سيارة على محج محمد السادس والسائق يلوذ بالفرار    "جيل زد" توجه نداء لجمع الأدلة حول "أحداث القليعة" لكشف الحقيقة    بحضور الوالي التازي والوزير زيدان.. حفل تسليم السلط بين المرزوقي والخلفاوي    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    إسبانيا تشارك في المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء    خلاف بين وزارة الإدماج ومكتب التكوين المهني حول مسؤولية تأخر منح المتدربين    طنجة.. الدرك البيئي يحجز نحو طن من أحشاء الأبقار غير الصالحة للاستهلاك    الرباط وتل أبيب تبحثان استئناف الرحلات الجوية المباشرة بعد توقف دام عاماً    "يونيسيف" ضيفا للشرف.. بنسعيد يفتتح المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب    "أونسا" يؤكد سلامة زيت الزيتون    بيليم.. بنعلي تقدم النسخة الثالثة للمساهمة المحددة وطنيا وتدعو إلى ميثاق جديد للثقة المناخية    شبهة الابتزاز والرشوة توقف مفتش شرطة عن العمل بأولاد تايمة    لقاء تشاوري بعمالة المضيق-الفنيدق حول إعداد الجيل الجديد من برنامج التنمية الترابية المندمجة    تعليق الرحلات الجوية بمطار الشريف الإدريسي بالحسيمة بسبب تدريبات عسكرية    الجيش المغربي يستفيد من التجارب الدولية في تكوين الجيل العسكري الجديد    مخاوف برلمانية من شيخوخة سكانية بعد تراجع معدل الخصوبة بالمغرب    توقعات أحوال الطقس اليوم السبت    الداخلة ترسي دعائم قطب نموذجي في الصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي    مهرجان الدوحة السينمائي يعرض إبداعات المواهب المحلية في برنامج "صُنع في قطر" من خلال عشر قصص آسرة    بعد السرقة المثيرة.. متحف اللوفر يعلن تشديد الإجراءات الأمنية    تتويج مغربي في اختتام المسابقة الدولية للصيد السياحي والرياضي بالداخلة    دكاترة متضررون من تأخير نتائج مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي يطالبون بالإفراج عن نتائج مباراة توظيف عمرت لأربع سنوات    تشريح أسيدون يرجح "فرضية السقوط"    تدشين المعهد المتخصص في فنون الصناعة التقليدية بالداخلة تعزيزاً للموارد البشرية وتنمية القطاع الحرفي    قطاع غزة يستقبل جثامين فلسطينيين    فضيحة كروية في تركيا.. إيقاف 17 حكما متهما بالمراهنة    السلطة تتهم المئات ب"جريمة الخيانة" في تنزانيا    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    كاتبة الدولة الإسبانية المكلفة بالهجرة: المبادرة الأطلسية التي أطلقها الملك محمد السادس تشكل نموذجا للتنمية المشتركة والتضامن البين إفريقي    حمد الله يواصل برنامجا تأهيليا خاصا    العرائش.. البنية الفندقية تتعزز بإطلاق مشروع فندق فاخر "ريكسوس لكسوس" باستثمار ضخم يفوق 100 مليار سنتيم    "صوت الرمل" يكرس مغربية الصحراء ويخلد "خمسينية المسيرة الخضراء"    اتصالات المغرب تفعل شبكة الجيل الخامس.. رافعة أساسية للتحول الرقمي    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    عيد الوحدة والمسيرة الخضراء… حين نادت الصحراء فلبّينا النداء    فرحة كبيرة لأسامة رمزي وزوجته أميرة بعد قدوم طفلتهما الأولى    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    الوجبات السائلة .. عناصر غذائية وعيوب حاضرة    أشرف حكيمي.. بين عين الحسد وضريبة النجاح    انطلاق فعاليات معرض الشارقة للكتاب    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رهان الأخلاق المحمدية في إثبات يقينية الإسلام
نشر في هسبريس يوم 20 - 06 - 2009


تمهيد: ""
ألا بأبي من كان سيدا وآدم بين الماء والطين واقف
فذاك الرسول الأبطحي محمد له في العلى مجد تليد وطارف
أتى بزمان السعد في آخر المدى وكانت له في كل عصر مواقف
أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه فأثنت عليه ألسن عوارف
إذا رام الأمر لا يكون خلافه وليس لذلك الأمر في الكون صارف
الدلالة المحمدية على وحدانية الدين والديان
بعدما تحدثنا في المقالات السابقة عن أصل الاعتقاد وغريزة التدين عند الإنسان من خلال البرهان القرآني الذي أدى بنا كضرورة عقلية ونفسية واجتماعية وتاريخية إلى استنتاج وحدة التأصل العقدي المقتضي لوحدة الأصل، فإنه قد أفضى بنا هذا الاستنتاج إلى البرهنة على الواسطة الرئيسية التي من خلالها أمكن لهذا الإنسان أن يتذكر الميثاق الإلهي وهو في عالم الذر، وذلك بعد ما نزل إلى عالم البحر والبر، حيث حجب الشهوات والشبهات والنزوات والمغالطات، مما استدعى بسببها التذكير والتنبيه للحفاظ على الشهادة بوجهها الصحيح وفي مستواها السليم.
وهذا التذكير سيكون بحسب التسلسل والأسبقية عند الشهادة الأولى في عالم الذر، والأسبق والأسرع في هذا المقام هم الأنبياء والرسل والأولياء وهكذا....
كما أن الأسبق والأسرع في الأنبياء والرسل في هذا المقام كان هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم 13
"السابقون السابقون أولئك المقربون" والرسول صلى الله عليه وسلم هو أسبق السابقين فهو أقرب المقربين. "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا".
وهذا الميثاق قد نص عليه القرآن الكريم والحديث النبوي تنصيصا واضحا وصريحا، حيث يقول الله تعالى: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاء كم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا أقررنا. قال: فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين" .
وفي صحيح البخاري كتفسير لابن عباس قال: "ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه".
وفي هذا الصدد يقول ابن عربي الحاتمي مفسرا خصوصية النبوة المحمدية ورابطا لها بمرحلة الميثاق الإلهي في عالم الذر: "اعلم أيدك الله أنه ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"....وفي صحيح مسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة". فثبتت له السيادة والشرف على أبناء جنسه من البشر، وقال عليه السلام: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين". يريد على علم بذلك، فأخبره الله تعالى بمرتبته وهو روح قبل إيجاده أجسامهم، وألحقنا الله تعالى بأنبيائه بأن جعلنا شهداء على أممهم معهم حين يبعث من كل أمه شهيدا عليهم من أنفسهم وهم الرسل، فكانت الأنبياء في العالم نوابه صلى الله عليه وسلم من آدم إلى آخر الرسل عليهم السلام، وقد أبان صلى الله عليه وسلم عن هذا المقام بأمور منها قوله صلى الله عليه وسلم: "والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني"، وقوله في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان أنه يؤمنا، أي يحكم فينا بسنة نبينا عليه السلام ويكسر الصليب ويقتل الخنزير.
ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم قد بعث في زمان آدم لكانت الأنبياء وجميع الناس تحت حكم شريعته إلى يوم القيامة حسا، ولهذا لم يبعث عامة إلا هو خاصة، فهو الملك والسيد، وكل رسول سواه فبعث إلى قوم مخصوصين فلم تعم رسالة أحد من الرسل سوى رسالته صلى الله عليه وسلم"
ومن هنا فإن نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ملزمة لكل الأمم بأن يصدقوا بها، سواء في الماضي أو الحاضر، لما لها من حضور روحي شامل في هذا الوجود الممكن بأسره.
وبما أن الإنسان عبر العصور قد أدرك شعورا وفكرا أن غريزة الاعتقاد متأصلة في روحه ووعيه، وحيث أنه مال إلى التدين بوجه أو بآخر، فإن لا بد وأن يكون هذا الدين المنشود والمتطلع إليه مكتمل المراحل بحسب سلم الزمان والمكان الذي تمت عليه نشأة الإنسان والأكوان، إذ عناصر الوجود تتألف من البسيط إلى المركب إلى مركب المركب إلى الاستدارة كهيئة يوم خلقه الله ...وهكذا تصاعدا وتساميا ودوريا سيكون الدين بحسب مستوى ارتفاع الإنسان في مستوياته واستعداداته وبحسب الأمم العابرة في الأرض بما تحمله من حضارات وفلسفات وتصورات، هذا مع ملازمة أهم ركن في الاعتقاد وهو توحيد الله بداية ونهاية. ومن هنا كان لا بد وأن يمتد هذا الارتفاع إلى مستواه الكمالي الذي شخصه ظاهريا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لكل هرم قمة، وهرم الوجود الممكن له هذه القمة التي لولاها لما سمي الهرم هرما، كما أن الهرم كله مؤسس على مادة تلك القمة لا محالة، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الكمال الديني وشمولية الإسلام للسابقين واللاحقين من خلال حديث اللبنة المكملة للبناء يقول صلى الله عليه وسلم "مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى حائطا فأكمله إلا لبنة واحدة فكنت أنا تلك اللبنة فلا رسول بعدي ولا نبي" الحديث.
وهذا المعنى المفيد لشمولية وكمال الدين الإسلامي بالقواعد وملاءمة الزمان والمكان والأمم، يتضمنه النص القرآني المعجز والحديث النبوي الجامع للكلم، إذ فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا، فالنبوة والرسالة واحدة في الأصل والغاية وهذه الوحدة قد تحققت برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كما وصفه الله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".
وحينما نتأمل هذه الآية نجدها ذات دلالات جد عميقة تذهب بفهمنا إلى النظر في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم من حيث اعتبار خلقته وصلته بهذا الوجود الممكن بأسره، فلو كان شخصا عاديا شأنه شأن البشر الآخرين من حيث ظهوره على سبيل التسلسل الزمني والمكاني والتناسلي، فإنه حينئذ سيكون غير معروف سوى عند قومه، ومن ثم فلن يبعث إلا إليهم سواء اعتبرنا قومه من هم في بيئته الخاصة أومن هم حاضرون في زمانه وفي الفترة التي يمكن أن يمتد إليها صيته على وجه سليم.
لكن الأمر أوسع من هذا، إذ جل الأنبياء راجعون في الإشهاد إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجئ نوح وأمته فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون لا ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح من يشهد لك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فتشهد أنه قد بلغ، وهو قوله جل ذكره: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس والوسط العدل" .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" .
وهذه الوحدة الدينية تبقى اعتقادا جازما لدى النبي صلى الله عليه وسلم وكل أمته، مصداقا لقول الله تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" .
وفي هذا الباب يقول ابن عربي بحسب ذوقه لوحدة الأديان وحقيقة هذه الوحدة: "فمن زمان آدم عليه السلام إلى زمان بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ملكه وتقدمه في الآخرة على جميع الرسل وسيادته فمنصوص على ذلك في الصحيح عنه، فروحانيته صلى الله عليه وسلم موجودة وروحانية كل بني ورسول، فكان الإمداد يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة بما يظهرون به من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رسلا وتشريعه الشرائع كعلي ومعاذ وغيرهما في زمان وجودهم ووجوده صلى الله عليه وسلم، وكإلياس وخضر عليهما السلام وعيسى عليه السلام في زمان ظهوره في آخر الزمان حاكما بشرع محمد صلى الله عليه وسلم في أمته المقرر في الظاهر، لكن لما لم يتقدم في عالم الحس وجود عينه صلى الله عليه وسلم أولا نسب كل شرع إلى من بعث به وهو في الحقيقة شرع محمد صلى الله عليه وسلم" .
وقد صاغ البصيري هذا المعنى في قصيدة البردة حينما قال:
فاق النبيين في خلق وفي خلق ولم يدانوه في علم ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم
وواقفون لديه عند حدهم من نقطة العلم أو من شكلة الحكم
وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما اتصلت من نوره بهم
عالمية الحضور المحمدي في الدلالة على التوحيد
فاعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ينبغي فهمه ليس لمجرد العوالم التي كانت حاضرة عند وجوده الزمني والجسدي في التاريخ وإنما هي عوالم ماضية وحاضرة ومستقبلة، إذ الخطاب جاء غير مخصص ومن ثم فلا بد وان تصيب هذه الرحمة كل العوالم الممكنة، سواء كانت ذات طبيعة حية أو جامدة، إذ ثبت أن الكائنات الجامدة هي بدورها ذات نوع من التعبير أو الخطاب أو سمه ما شئت تدل بها عن نفسها، إما على سبيل الحقيقة واللفظ أو المجاز والإشارة.
وهذه الكائنات الجامدة قد ثبت في الروايات الصحيحة أنها خاطبت الرسول صلى الله عليه وسلم بلغة معينة، منها على سبيل المثال ما ورد في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن".وكذلك الحديث الذي رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لي غلاما نجارا قال: إن شئت، قال: فعملت له المنبر الذي صنع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت، قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر" .
فإذا كان الكائن الجامد يعي جيدا حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم لما لديه من انطباع أو تطبع على هذا الإدراك الذي يحمل في طياته دلالات واضحة على كلية الشخصية النبوية، فإن الإنسان وهو من جنس شخص النبي صلى الله عليه وسلم كان الأولى به أن يؤمن ويعرف هذا النبي لما للتقارب العنصري النوعي بين النبي والكائنات الحية وخاصة الإنسان على مستوى البشرية والأشكال الظاهرية الجبلية والعادية رغم الفارق الكبير بينهما عند التدقيق والتحقيق.
وأشد الناس ملامة ومؤاخدة في حالة عدم التسليم بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين يسمون بأهل الكتاب ممن يزعمون اتباع الأنبياء السابقين والعمل على شريعتهم، إذ لو كان اعتقادهم صحيحا وصادقا لسلموا ضرورة بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لما "يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل".
ومن هنا كان حكم النبي صلى الله عليه وسلم على مصير هؤلاء بقوله: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" .
وهذا الحديث فيه معنى اليقين الجازم والإلزام المعرفي والديني لكل من يدعي اتباع الأنبياء السابقين، إذ أنهم يدركون جيدا أن سيدنا محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم :"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون" . ومن هنا فلا حجة لديهم في إنكار هذه النبوة وما تقتضيه من توحيد سواء على المستوى الباطني أو الظاهري، رغم أنهم حرفوا وأخفوا الحقيقة الموجودة في الكتب السماوية التي كانت موجودة بين أيديهم.
إذ التسليم بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليس مجرد أن تقرأ في الكتب وترد في الأخبار والمرويات وإنما هي ذات باعث أعمق من الوعي الظاهري، لأن الحقيقة المحمدية مغروزة في النفوس بسبب عالمية الوجود المحمدي الذي كما رأينا أن الجماد يدركه فكيف بالإنسان الواعي الذي يحتوي كيانه على عنصري الروح والجسد، أي على ما هو مدرك بالإرادة وما هو مدرك بالذات والغريزة.
ومن هنا كان الخطاب جامعا بين الوجود الإنساني والوجود الكوني في الالزام باتباع نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ودلالتها على وحدانية الله تعالى خطابا ووجودا ظاهريا وباطنيا، تنضوي تحته كل عناصر الوجود الممكن بتشكلاته وتنوعاته مع عودته في الأصل إلى البذرة الأولى في وجوده وهي الابتداء بخلق النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هونورو نبي، كما نستشف هذا المعنى من قول الله تعالى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، الذي له ملك السموات والأرض، لا إله إلا هو يحيي ويميت، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، واتبعوه لعلكم تهتدون".
ونستشف من هذه الآية أيضا معنى آخر يسير في نفس الخط الذي يقتضيه خطاب الشمولية والأسبقية وعموم التبعية للنبوة المحمدية، وذلك من خلال إضفاء صفة الأمية على النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء، وتجمع بين الأمية المعرفية والأمية الصناعية والاصطلاحية. إذ الأمية هنا في باب العقيدة والإيمان نظير لمعنى الخلق بغير واسطة، لأنها عبارة عن الخلو من العلم والتعلم والتعليم الوسائطي في باب الحقيقة. حقيقة الحق والخلق، ومن هنا فلم يكن لأحد الفضل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وانتهاء سوى الله تعالى."وعلمك ما لم تكن تعلم" و "ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاءمن عبادنا".
ومن هذا المعنى فالرسول الله صلى الله عليه وسلم هو واسطة الوسائط ومنبع العلوم لكل الخلق، لأنه أولهم بغير واسطة ومتقدمهم في حضرة الله تعالى ولو كانوا ملائكة، كما تقدم على جبريل عليه السلام ليلة الإسراء والمعراج وأدى التحية في حضرة الله تعالى حيث لا زمان ولا مكان، لأنه كان فوق الزمان والمكان والأفلاك، ولأنه يؤمن بالله وكلماته بأمية وخام خلقته واستعداد قلبه لتلقي المعرفة المباشرة من الله تعالى، ومن ثم فالكل محتاج إلى ما لديه من معرفة وعلم ومأمور باتباعه "لعلكم تهتدون" يدخل في حكم الأتباع الأنبياء والرسل أنفسهم، لأنه لو بعث في زمانهم ما وسعهم إلا اتباعه صلى الله عليه وسلم كما نصت عليه الآية والحديث.
فالخطاب بالشمولية النبوية لجميع الناس إذن ليس محصورا على الفترة التي كان فيها أو ما سيأتي بعدها فقط، وإنما هو شامل لكل العصور قبل أو حين وبعد كما سبق وقلنا، لأن الدين الذي أرسل به متضمن لكل الرسالات التي سبقت، فهو ناسخ ومتمم، ومجمل ومفصل، ومطلق ومقيد، ومعمم ومخصص....إلخ وهكذا.
إن القرآن كلام الله أزلي، أي فوق الوجود الزماني والمكاني، وهو مرتبط بأحكامه وأخباره ظهورا ونزولا بالبعثة المحمدية كحضور تاريخي، وهكذا تحققت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بوصل ما هو فوق التاريخ بالتاريخي، فطوت في أحضانها نبوة كل الأنبياء ووجود قومهم وأتباعهم الذين امتد حضورهم إلى عهد النبوة المحمدية في التاريخ، ومن ثم نسخت جميع ما كانوا عليه قبل من دين وأحكام، لأنه كما تقول القاعدة الفقهية "إذا حضر الماء ارتفع التيمم". والحاضر أولى من الغائب والشامل ألزم من المشمول "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" صدق الله العظيم.
وحيث أن التأصل الديني واحد عند جميع البشر وبما أن الخطاب الإلهي أزلي، وإذ أن النص يدل على الإرسال لجميع الناس، وهذا جنس يعم، فإن الجمع بين هذه العاني يؤدي بالضرورة إلى أن الدين واحد، وأنه قد قسم إلى مراحل وفترات لا بد وأن تكتمل عند دورتها النهائية التي ما بعدها من دورة وما وراءها من كمال، فكانت بهذا نبوة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة النبوات باعتبارها النهائي وباعتبارها الخاتم (بفتح التاء) ذات الطبيعة الدورية المحورية، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كما في قول الله تعالى: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما" .
البرهان التوحيدي في كمال الخلقة والخلق المحمدي
وهذه الرسالة والنبوة المحمدية جاءت لتعيد الدين إلى أصله في أبهى حلته وكماله، وبالمواكبة كانت استدارة الزمان قد اكتملت موازاة مع الوجود المحمدي صاحب الكمال البشري، إذ كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله".
وعند هذا الحديث يفسر ابن عربي ذوقا فيقول: "كذلك استدار الزمان فأظهر محمدا صلى الله عليه وسلم، كما ذكرناه جسما وروحا بالاسم الظاهر حسا فنسخ من شرعه المتقدم ما أراد الله أن ينسخ منه وأبقى ما أراد الله منه، وذلك من الأحكام خاصة لا من الأصول، ولما كان ظهوره بالميزان وهو العدل في الكون وهو معتدل لأن طبعه الحرارة والرطوبة كان من حكم الآخرة، فإن حركة الميزان متصلة بالآخرة إلى دخول الجنة والنار، ولهذا كان العلم في هذه الأمة أكثر مما كان في الأوائل،وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم علم الأولين والآخرين لأن حقيقة الميزان تعطي ذلك، وكان الكشف أسرع في هذه الأمة مما كان في غيرها...." .
ويضيف رابطا الكمال المحمدي بالدورة الزمنية قائلا: "وانتهت الدورة الزمنية إلى الميزان لتكرار الدور فظهر محمد صلى الله عليه وسلم وكان له في كل جزء من أجزاء الزمان حكم اجتمع فيه بظهوره صلى الله عليه وسلم ..فكانت روحانية محمد صلى الله عليه وسلم تكتسب عند كل حركة من الزمان أخلاقا بحسب ما أودع الله في تلك الحركات من الأمور الإلهية، إلى أن ظهرت صورة جسمه في عالم الدنيا، بما جبله الله عليه من الأخلاق المحمودة فقيل فيه: "وإنك لعلى خلق عظيم".
فكان ذا خلق لم يكن ذا تخلق، ولما كانت الأخلاق تختلف أحكامها باختلاف المحل الذي ينبغي أن يقابل بها احتاج صاحب الخلق إلى علم يكون عليه حتى يصرف في ذلك المحل الخلق الذي يليق به عن أمر الله فيكون قربة إلى الله، فلذلك تنزلت الشرائع لتبين للناس محال أحكام الأخلاق التي جبل الإنسان عليها" .
ومن هذا الكمال الخلقي عند النبي صلى الله عليه وسلم وشموليته في الزمان والمكان والأقوام والجبلات كان أول برهان قطعي لإثبات نبوته صلى الله عليه وسلم هو البرهان الأخلاقي، والذي كان المحور الرئيسي الذي بعث من أجل كماله وإتمامه كما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
إذ كما يروي ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت "وأنذر عشيرتك الأقربين" ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه! فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟. قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" .
وفي رواية: "قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا".
وهذا البرهان له معاني جد دقيقة وأبعاد روحية قد ترتبط بالميثاق الأول في عالم الذر لأنه مبني على الإقرار وهو سيد الأدلة كما يصطلح عليه في الفقه والقضاء، ومن ثم فإن النبي صلى الله عليه وسلم بحكم قوته الروحية ومظاهرها الخلقية قد انتزع هذا الإقرار من قريش انتزاعا، وسلموا بصدقه طواعية واعترافا بالحقيقة التي كانت ظاهرة، ومن ثم أصبحوا ملزمين بالاعتراف ضرورة بالحقيقة الباطنية للنبي صلى الله عليه وسلم وهي حقيقة النبوة والرسالة الشاملة.
ومن هنا فعناصر هذا البرهان المحمدي الأخلاقي يمكن تلخيصها في التالي:
1)لابد من اعتماد ثقة المدعو بالداعية عند الدعوة، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان موصوفا عند قومه بالأمين والصادق، قبل بعثته، وهذه الصفة لازمته في كل أطوار حياته ومعاملاته، ومن ثم أصبحت صفاته الخلقية مسايرة للتجربة والعادة، وهذان العنصران أساسيان في التحصيل العلمي والتدقيق البرهاني.
2)أن العادة أو التجربة إذا اثبت صدقها وتكررت نتيجتها أعطت العلم الضروري الذي تستحيل معه المناقضة أو المخالفة والمعارضة، لأنها أصبحت راسخة وواقعية، خاصة وأن الزمان له أثر في العادة بالتكرار، ومن ثم كان بلوغ سن الرشد ومرحلة الأشد والاستواء في حدود الأربعين له دلالات الكمال والمناسبة في انتهاء الاستدارة الزمنية والكونية، لأن الإنسان يكون في هذه الحالة قد استنفذ كل قواه ومر بكل المراحل النفسية والجسدية والاجتماعية التي تجعل منه شخصا مؤهلا للحضور في وعي الآخر المعاصر له، وللاحتفاظ بمكتسباته عبر الزمن، وبالتالي للحفاظ على استقراره وما تعود عليه وخاصة في شكله الإيجابي، وإلى هذه المرحلة من السن نستشف الإشارة بالإستقرار من خلال قول الله تعالى: "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه. وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين" صدق الله العظيم.
ومن هنا فإن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في حدود الأربعين له بعد شمولي ورمزية لاحتواء الزمن بكل هيآته وكمالاته حتى يصبح حاله ومقاله ملزما وحجة على كل من يعارضه.
كما أن بعثته بصفة الأمية لها نفس هذا البعد الشمولي لكل الألسن التي تتطور صناعة مع الزمن، إذ الأمية تعني عدم الخضوع للصناعة والتكلف في القواعد والتعابير، وهي بهذا تتماشى مع الأخلاق المحمدية الفطرية في عالميتها وإلزاميتها البرهانية والبديهية لكل الألسن بفهمها ذوقا وشعورا قلبيا رغم أن لسانه عربي عبارة والقرآن على نمطه نزل.
3)أن الشيء الراسخ يستحيل معه التغير المفاجئ من الضد إلى مثله، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالتكوين الشخصي للإنسان على الصدق والأمانة، وأصبح يعتبر من أخلاق الطبع لأنه صار متجوهرا بها.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان أعظم نموذج للرسوخ الخلقي، يصوره لنا ما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة سنين فما قال لي أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، ولا مسست خزا ولا حريرا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى عليه وسلم".
4)أن الإقرار يفيد العلم القطعي وتترتب عنه النتائج الضرورية، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ألزم قريشا بإقرار جماعي انتزعه منهم بأخلاقه انتزاعا، فما كان منهم لو كانوا موضوعيين وصادقين إلا أن يسلموا بالنتيجة، لكنهم رفضوا استكبارا، فيبقى رفض الدعوة ليس رفضا عقليا أ و علميا، وإنما هو رفض سببه مرض خلقي.
وهذا الإنكار بالاستنكار عند قريش يقابل الحسد عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى، لأنهم يدركون كما بينا أن نبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صادقة بكل المعاني، وأن من الصفات الدالة أساسا على الأنبياء والرسل حضور الفضيلة الخلقية لديهم وخاصة الصدق والأمانة، ومن ثم فصاحب الخلق الملازم له في أطوار حياته قبل أن يبعث من المستحيل أن يصدر منه ادعاء كاذب في حق المخلوق فكيف به في حق خالقه؟.
إذن فأهل الكتاب ملزمون بالتصديق بنبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه وترسخ في سلوكه من الفضيلة الخلقية، كما صدق به ورقة بن نوفل قبل أن يؤمر بتبليغ دعوته وذلك للخاصية الخلقية السابقة إلى تصديقه من خلال سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم وبرهانه الخلقي.
ومن هنا فأهل الكتاب أكثر مطالبة بالتصديق به من مشركي قريش لأن الكتب التي بين أيديهم ويدعون الالتزام بها تؤكد صفات الأنبياء الخلقية المميزة لهم، وأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد بلغ الذروة ومنتهى الهرم في بنائها وتشخيصها. فكان كما وصفه الله تعالى حقا يقينا: "وإنك لعلى خلق عظيم" صدق الله العظيم.
* كلية أصول الدين - جامعة القرويين - المغرب
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.