المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    تعديلاتٌ للأغلبية تستهدف رفع رسوم استيراد غسّالات الملابس وزجاج السيارات    قضاء فرنسا يأمر بالإفراج عن ساركوزي    وياه يقود حملة ضد العنصرية بالملاعب    "الكاف" يكشف عن الكرة الرسمية لبطولة كأس أمم إفريقيا بالمغرب    ابتداء من اليوم.. طرح تذاكر المباراة الودية بين المغرب وأوغندا إلكترونيا    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    الوداد ينفرد بصدارة البطولة بعد انتهاء الجولة الثامنة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    متجر "شي إن" بباريس يستقبل عددا قياسيا من الزبائن رغم فضيحة الدمى الجنسية    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    احتقان في الكلية متعددة التخصصات بالعرائش بسبب اختلالات مالية وإدارية    مصرع أربعيني في حادثة سير ضواحي تطوان    المغرب يتطلع إلى توقيع 645 اتفاقية وبروتوكولا ومعاهدة خلال سنة 2026.. نحو 42% منها اقتصادية    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    عمر هلال: نأمل في أن يقوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزيارة إلى الصحراء المغربية    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    حقوقيون بتيفلت يندّدون بجريمة اغتصاب واختطاف طفلة ويطالبون بتحقيق قضائي عاجل    اتهامات بالتزوير وخيانة الأمانة في مشروع طبي معروض لترخيص وزارة الصحة    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    كيوسك الإثنين | المغرب يجذب 42.5 مليار درهم استثمارا أجنبيا مباشرا في 9 أشهر    توقيف مروج للمخدرات بتارودانت    البرلمان يستدعي رئيس الحكومة لمساءلته حول حصيلة التنمية في الصحراء المغربية    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    الركراكي يستدعي أيت بودلال لتعزيز صفوف الأسود استعدادا لوديتي الموزمبيق وأوغندا..    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    زايو على درب التنمية: لقاء تشاوري يضع أسس نموذج مندمج يستجيب لتطلعات الساكنة    العيون.. سفراء أفارقة معتمدون بالمغرب يشيدون بالرؤية الملكية في مجال التكوين المهني    احتجاجات حركة "جيل زد " والدور السياسي لفئة الشباب بالمغرب    حسناء أبوزيد تكتب: قضية الصحراء وفكرة بناء بيئة الحل من الداخل    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لِماذا عَجَز المغرب عن الحَدّ من استفْحال آفة الرشوة؟
نشر في هسبريس يوم 21 - 02 - 2014

قبل ثلاث سنوات، وتحديدا يوم 20 فبراير من سنة 2011، وإبَّان الحَرَاك الشعبيّ الذي عرفتْه المنطقة العربيّة وشمالُ إفريقيا، كان شعارُ محاربة الفساد، إلى جانب محاربة الاستبداد، وشعارات أخرى، يتصدّر واجهة اللافتات الاحتجاجية التي رفعها شباب "حركة 20 فبراير"، الذين خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير.
الفسادُ، الذي دعا المشاركون في المسيرات الاحتجاجية التي انطلقت يوم 20 فبراير، إلى محاربته، يتجلّى في مظاهرَ عِدّة، من بينها الرشوة، التي يعتبرها المُتتبّعون عَصَبَ الفساد، والتي تفيد تقارير المنظمات الوطنية والدوليّة، العاملة على رصْد مستوى انتشارها، أنّ المغربَ يُعتبر من البلدان التي تستشري فيها الرشوة بشكل كبير.
بعدَ مرور ثلاث سنوات على الحَراك الشعبيّ الذي عرفه المغرب، وفيما كانت الانتظارات كبيرةً، والآمال عريضةً، للاستجابة للمطالب، فيما يخصّ محاربة الفساد، الذي جعل منه حزب العدالة والتنمية الذي يقود حكومة ما بعد "الربيع الديمقراطي"، إحدى الركائز الأساسية التي بَنى عليها برنامجه الانتخابي، جاءت تقارير المنظّمات الراصدة لمستوى تفشّي الرشوة لتؤكّد، أنّ هذه الآفة لم تتقلّصْ، بل استفْحَلتْ أكثر!
فلماذا عجزَ المغرب عن محاربة آفة الرشوة، أوِ الحدّ من استشرائها على الأقلّ، رغم تعزيز الترسانة التشريعية والتنظيمية، وإنشاء هيأةٍ، تحمل اسم "الهيأة المركزية للوقاية من الرشوة؟ وما هي التكلفة التي يؤدّيها المغرب، اقتصاديّا، وتنمويّا، جرّاء تفشّي الرشوة؟ وما العمل للحدّ منها؟
خيْبَةُ أمَلٍ
خلال إحدى جلسات مساءلة رئيس الحكومة في مجلس المستشارين، سنة 2012، قال عبد الإله بنكيران، إنّ محاربة الفساد ترتكز على ثلاثة أسُسٍ، وَضَع على رأسها تقويم الإطار القانوني، ومواصلة تأهيل الترسانة القانونية، وملاءمتها مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحماية المال العامّ، ومحاربة الإثراء غير المشروع ومحاربة الرشوة.
يومها، قال بنكيران مُخاطبا أعضاء الغرفة الثانية للبرلمان، ولم يكن قدْ مضى على تولّي حزبه قيادة الحكومة سوى سبعة شهور، وكانت أمواج ثورات "الربيع العربي" ما تزال هائجة، "أوّلُ خطوة لمحاربة الرشوة تبتدئ بتقويم سلوك الإنسان، وعلى رأس هذه المسؤولية هناك الحكومة، التي يجب على وزرائها أن يكونوا قانعين بما هو قانوني، من الأجور والامتيازات".
ثمّ عادَ إلى التذكير بالحَراك الشعبيّ الذي تعرفه المنطقة، ويعرفه المغرب، وقتذاك، قائلا "لا أقول هذا الكلام لأنّ وزرائي متديّنين أو غير ذلك، بل أقول هذا لأنّ الزمان قد تغيّر، والخوف قد انتهى، والناس لن يظلوا ملتزمين الصمت حول الفساد"؛ يومها، كان المغرب يحتلّ الرتبة ال 88 على سُلّم مؤشّر الرشوة، من بين 177 دولة، وبعد مضيّ سنة ونصف على هذا الخطاب، الذي كان من المفروض أن تواكبه إجراءات لتقليص حجم انتشار الرشوة، جاءت أرقام مؤشّر إدراك الفساد العالمي المتعلقة بسنة 2013، لتؤكّد أنّ المغرب انتقل من المركز ال88، الذي كان يحتلّه سنة 2012، إلى المركز الواحدِ والتّسعين!
أيّاما قليلة بعد صدور هذا التقرير، سيعودُ رئيس الحكومة إلى الحديث عن موضوع الرشوة، في المكان نفسه، الذي تحدّث فيه "عن ضرورة تقويم الإطار القانوني وتأهيل الترسانة القانونية ومُلاءمتها مع الاتفاقيات الدولية..."، أيْ تحتَ قُبّة البرلمان، ليقول، فيما يُشبه اعترافاً ضمنيّا، بعجز الحكومة عن الحدّ من الرشوة: "لا يمكن القضاء على الرشوة بصفة نهائية، لأنّها منتشرة في جميع دول العالم".
"ما جاء على لسان رئيس الحكومة، كلام مردود عليه، لأنّ هناك تجاربَ دولية عديدة، أبانت على أنّ الحدَّ من الرشوة أمْرٌ ممكن، إذا توفّرت الإرادة السياسية لذلك، وهناك دول عِدّة كانت الرشوة مُتجذّرة فيها بشكل كبير، وعندما توفّرت لديها الإرادة السياسية نجحتْ في الحدِّ منها"، يقول الخبير الاقتصادي عز الدّين أقصبي، أمّا الكاتب العامُّ للجمعية المغربيّة لمحاربة الرشوة (ترانسبارانسي المغرب)، عبد الصمد صدوق، فيلخّص ردّه على ما قاله بنكيران في جُملة واحدة: "هذا خطابٌ مخيّبٌ للآمال".
الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة كانت قد عبّرت، خلال تقريرها الأدبي لسنة 2013، عن خيْبة أملها من تعاطي الدولة مع محاربة الرشوة؛ "ففي غمرة التحوّلات التي شهدتها المنطقة، والحَراك الاجتماعي المطالِب بمحاربة الفساد، كانت سنة 2011 سنةَ أمَلٍ، غير أنّه، وبعد مرور سنتين، أصبحت خيبة الأمل أقوى بكثير من الانتظارات التي غذّاها ورعاها خطاب سياسي تبنّته الدولة والأحزاب السياسية المتنافسة"؛ يقول التقرير السنوي ل"ترانسبارانسي المغرب".
الخطابُ السياسيّ الذي تحدث عنه التقرير، يُضْفي مفارقة كبيرة على طريقة تعاطي الدّولة مع محاربة الرشوة، حسبَ عزّ الدين أقصبي، "ففي الوقت الذي نسمع خطاباَ رسميّا يتحدّث عن السعي إلى محاربة الرشوة، نجدُ أنّ هذا الخطاب لا أثرَ له على أرض الواقع"، يقول أقصبي، مضيفا أنّ الخطابَ الرسميّ ما هو إلا إشاراتٌ للاستهلاك الخارجيّ والداخليّ.
أمّا عبد السلام أبودرار، رئيس الهيأة المركزية للوقاية من الرشوة فيرى أنّ المغرب يتوفر على المقوّمات المؤسساتية والقانونية الضرورية لمكافحة الفساد؛ "ما ينقصه هو إدماج كل ذلك، بالإضافة إلى مساهمة المجتمع المدني، في إطار إستراتيجية وطنية تضع الأهداف والعمليات وترصد لها الوسائل المالية والبشرية اللازمة وتحدد آجال تنفيذها ومسؤوليات كل طرف من الأطراف".
وبخصوص تصنيف المغرب في مؤشر إدراك الفساد العالمي، قال أبودرار، إنّه من الصعب الحديث عن تقدم أو تراجع، في ظل غياب إستراتيجية وطنيّة، موضحا "صحيح أن هناك عددا من المؤشرات مثل مؤشر إدراك الفساد الذي يُنشر كل سنة وغيره، إلا أنها تستند إلى استطلاعات للرأي ولا تعكس الواقع الفعلي، أكان أقلّ أو أكثر، وذلك في غياب الإستراتيجية؛ هذا الغياب يجعل قياس الظاهرة صعبا".
اعترافٌ بالفشل
السؤال الذي يَطرح نفسه، في ظل المفارقة التي يتّسم بها الخطاب السياسي المعتمد من طرف الدولة، وما يلمسه المواطن المغربي على أرض الواقع، هو: هلْ هناك فعلا إرادة سياسية حقيقية للحدّ من آفة الرشوة؟ ومن سيتكلّف بهذه المهمة؟ هل الحكومة؟ أم الدّولة؟ يقول الفاعل الاقتصادي فوزي الشعبي، إنّ محاربة الرشوة تقتضي، أولا وقبل كل شيء، وضع قانون واضح وصارم، "أمّا إحداث هيئات المراقبةِ والوقاية، فهذا ليس سوى مضيعة للوقت والمال، طالما لا يتوفّر المغرب على قانون واضح".
القانون الذي تحدّث عنه الشعبي كان قد تقدّم بمقترح بشأنه، بصفته نائبا برلمانيا، إلى لجنة العدل والتشريع في الغرفة الأولى للبرلمان (مجلس النواب)، "مُقترح القانون الذي تقدّمتُ به حظي بإعجاب النواب البرلمانيين، ويومها نادى وزير العدل والحريّات الحالي، مصطفى الرميد، وكان حينذاك رئيسا للجنة العدل والتشريع، على الوزير المنتدب لدى الوزير الأول المكلف بالقطاعات العامّة، محمد سعد العلمي، ووعد بالردّ على المقترح بعد أسبوعين"، يقول الشعبي، غير أنّ مقترح القانون الذي تقدّم به الشعبي، منذ وعْدِ الوزير المكلف بالقطاعات العامّة، ظلّ نِسْياً مَنسيّاً.
عز الدين أقصبي، يشرح وجود خطاب رسميّ يدعو إلى محاربة الرشوة، في مقابل عدم تفعيل إجراءات كفيلة بالحدّ منها على أرض الواقع، بكون الرشوة تعتبر مشكلا مُؤسّساتيا وسياسيا بالدرجة الأولى، وبالتالي فإن محاربتها تقتضي، أوّلا، توفّر إرادة سياسية حقيقية من طرف الدولة، "وهذه الإرادة غير متوفّر الآن"، يقول أقصبي، مضيفا أنّ تصريحات رئيس الحكومة في مجلس المستشارين، والتي قال فيها إنّ القضاء على الرشوة أمر مستحيل، "هي مغالطة كبرى، واعتراف بالفشل".
"الاعتراف" الصادر عن رئيس الحكومة، بعدم القدرة على القضاء على الرشوة، يطرح سؤالَ مدى امتلاك الحكومة لسلطة تنفيذية تخوّل لها اتّخاذ إجراءات فعّالة للقضاء على هذه الآفة؛ عثمان كاير، أستاذ الاقتصاد بجامعة الحسن الثاني يقول إنّه بغضّ النظر عمّا إذا كان المغرب قد فشل، أو لم يفشل، في محاربة الرشوة، فإنّه وضع، منذ سنوات، ترسانة قانونية لتخليق الحياة العامّة؛ معتبرا أنّ محاربة الفساد، الذي تعتبر الرشوة عَصَبَه الرئيسي، على حدّ تعبيره، تبقى صيرورة يمكن أن تمتدّ لسنوات، لأنها تهمّ الترسانة القانونية، ثم سلوك الفاعلين، والمواطنين.
ويضيف أنّ الترسانة القانونية، كيفما كانت أهمّيتها، والمؤسسات التي تمّ إحداثها، لمحاربة الفساد، تحتاج إلى مدّة معيّنة لإنضاج عملها، "فالدول المتقدمة لم تقم بإحداث مثل هذه المؤسسات وقضتْ على الفساد في الحين"، يوضح كاير، ويُردف أنّ هناك حاجة إلى تجويد عمل هذه المؤسسات، وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات، في ظلّ وجود نقص لدى قضاة المجلس، في مجال التخصّص، وضعف الموارد البشرية التي تشتغل على إعداد التقارير.
في السياق ذاته، يقول رئيس الهيأة المركزية للوقاية من الرشوة، عبد السلام أبودرار، إنّ المغرب يتوفر عل ترسانة قانونية ومؤسساتية مُهمة ومتقدمة جاءت المقتضيات الدستورية لتعززها أكثر، "إلا أننا لم نحقق بعد تقدما كبيرا في هذا المجال، علما أن هذا الحكم نفسه يبقى نسبيا في غياب إستراتيجية وطنية مرجعية يمكن على ضوئها المقارنة بين ما كان وما هو كائن".
الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي لديه وجهة نظر أخرى، وهي أنّ محاربة الرشوة تقتضي، أوّلا، إصلاحا سياسيا عميقا وشاملا، لكونها، أي الرشوة، لا يمكن فهمها على أنّها ظاهرة مجتمعية فقط، بل هي من صُلب توازن النظام السياسي القائم، وأسلوبُ حُكْمٍ، أو ما يُسمّى بالفرنسية (Méthode de gouvernement)، لوجود علاقة جَدليّة بين السلطة السياسية والمصالح الاقتصادية.
هذا الترابط، بين المصالح السياسية والاقتصادية في المغرب، يشرح أقصبي، يَجعل مهمّة محاربة الرشوة غير مرتبطة بذهاب حكومة ومجيء أخرى، "فَمَهْما عبّرت الحكومات عن رغبتها في محاربة الرشوة، فلا يجب أن نتوقع أنها ستنجح، ما لم يحصل إصلاح سياسي عميق وشامل، ولن تنجح في ظلّ هذا الوضع الذي صارت فيه الرشوة "أسطورة"، يقول أقصبي.
هل معنى هذا أنّ الحكومات المتعاقبة، ومن بينها الحكومة الحالية، التي رفعت شعار محاربة الفساد، والتي جاءت بعد الحراك الشعبيّ الذي شهده المغرب، سنة 2011، غير مسؤولة عن محاربة الرشوة؟
"على العكس، فعندما نقول إنّ الحكومة لا تملك سلطة تنفيذية حقيقية، فهذا لا يعني أنّها مُعْفاة من المسؤولية"، يُجيب نجيب أقصبي، ويوضّح قائلا "الحزب الذي يقود الائتلاف الحكوميّ كان قادته يعرفون مسبقا أنهم لن يتمتّعوا بسلطة تنفيذية حقيقية، لكنّهم قبلوا الدخول في لعبة مغشوشة، لذلك لا يمكن أن يتبرّؤوا من المسؤولية، لأنّ لا أحدَ فرض عليهم أن يكونوا في حكومة عاجزة".
كُلْفة باهظة
حسبَ بعض التقديرات، يخسر المغرب حوالي 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب الفساد؛ وإنْ كان من الصّعب تحديد الحجم الحقيقي للخسائر التي يتكبّدها الاقتصاد الوطني، جرّاء استشراء الفساد، فإنّ حجم الخسائر، بغضّ النظر عن الأرقام المتوفّرة، "ضخم جدّا"، حسب رجل الأعمال فوزي الشعبي.
في السياق نفسه، يقول الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي، إنّ تقييمَ حجم الخسائر يظلّ متباينا، في ظلّ غياب الشفافية ومعطيات واضحة يمكن، على ضوئها، تقييم الأرقام، "لكنّ المؤكّد هو أنّ الكلفة الاقتصادية للرشوة باهظة جدّا، على عدّة مستويات".
ويوضح أقصبي أنّ أولى تجلّيات الخسائر التي يتكبّدها المغرب جرّاء تفشّي الرشوة، من الناحية الاقتصادية، تتجلّى على صعيد الاستثمار، "فالرشوة تخلق مناخا سيّئا لا يساعد المستثمرين على استثمار أموالهم في المغرب، ومن ثمّ يلجؤون إلى بلدان أخرى، وهذا يؤدّي إلى تضاؤل فرص الشغل، ومن ثمّ تفشّى البطالة".
إذا كان المغرب يتكبّد خسائر فادحةً، اقتصاديا وتنمويا، جرّاء تفشّي الرشوة، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الحلّ للقضاء على هذه الآفة؟ وهل هذا مُمكن؟ حسب عبد الصمد صدوق، الكاتب العامّ للجمعية المغربية لمحاربة الرشوة (ترانسبارانسي المغرب) فإنّ المشكل الذي يعاني منه المغرب "هو أنّ الدولة تكتفي فقط بالوعود، أمّا من ناحية الممارسة فليست هناك سياسة وطنيّة ولا إستراتيجية ولا حتى إجراءات واضحة لمحاربة الرشوة".
ويضيف صدوق أنّ الدولة حتّى عندما تتخذ مبادرة، فإنّها تظل ناقصة، وضَرَب مثلا على ذلك بإحداث الهيأة المركزية للوقاية من الرشوة، التي كانت من بين مضامين الاتفاقية الدولية لمحاربة الرشوة التي صادق عليها المغرب، قائلا "كان متوقّعا أن تعجز الهيأة عن القيام بمهمّة محاربة الرشوة، طالما أنّ المهمّة الموكولة إليها كانت منحصرة في الوقاية، كما أنّها لا تتمتّع بالاستقلالية عن الحكومة، وليس لها اختصاص القيام بالتحرّيات.
ما ذهب إليه عبد الصمد صدوق يُزكّيه رئيس الهيأة المركزية للوقاية من الرشوة بقوله "إن الإطار القانوني للهيئة في حاجة للتعديل من أجل الملاءمة مع مقتضيات الدستور والمرور من الصبغة الاستشارية الحالية إلى صلاحيات أوسع، وهذا ما وضعناه في المشروع الموجود بين أيدي الحكومة"، ويستدرك أبودرار "ولكن من التعسف القول إن ما قامت به الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة لم تكن له أي نتائج".
نجيب أقصبي يعود إلى تصريح رئيس الحكومة في مجلس المستشارين، والذي قال فيه إنّ القضاء على الرشوة أمر غير ممكن، لكونها منتشرة في كافة بلدان العالم، ويقول "صحيح أنّ الرشوة توجد في كل البلدان، فحتى في السويد هناك رشوة، لكن هناك فرق بين أن تكون الرشوة في إطار محدود جدّا، وبين أن تنتشر على النحو الذي هي عليه في المغرب؛ هذا تمويه للحقيقة".
ويضيف أقصبي أنّ الرشوة في المغرب أصبحت معضلة سياسية واقتصادية كبيرة، ولا يمكن أن ننظر إليها على النحو الذي هي عليه في البلدان المتقدمة، التي تُعتبر فيها الرشوة ظاهرة هامشية؛ وَخَلُص إلى أنّ الحلّ، للقضاء على الرشوة، يبدأ وينتهي في إصلاح النظام السياسي.
من جهته قال عزّ الدين أقصبي، إنّ الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع يوم 20 فبراير من سنة 2011، كانوا دقيقين جدّا وصائبين، عندما ربطوا بين الفساد والاستبداد، "ففي ظلّ غياب أيّ إرادةٍ سياسية لمحاربة الاستبداد، لا يمكن محاربة الفساد، فالفساد لا يستشري لوحده، بل هو منظومة، ولديه جذور تاريخية"، يشرح أقصبي، ويضيف أنّ النظام السياسي القائم يخلق مناخا يشجّع على تفشّي الفساد.
وتعليقا على الحملات التحسيسية التي تقوم بها الدولة، ومن بينها تحذير المواطنين من تقديم الرشوة، قال أقصبي "هذه حملة مغرضة، لأنّ محاربة الرشوة، والفساد، لا تقتصر على توعية المواطنين بعدم دفع الرشوة، بل يجب أن تنطلق أولا بمحاربة الرشوة المؤّسساتية المؤسَّسَة".
أمّا الناشط الحقوقي فؤاد عبد المومني، فيرى أنّ محاربة الرشوة تستدعي إعمال القانون، وتطبيقه على الجميع بالتساوي، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وأن يكون نموذج تطبيق القانون من أعلى الهرم، والقطع مع سياسة "أكباش الفداء"، وأضاف المومني أنّ هناك قاعدة في علم التدبير تقول إنّ نسبة 10 في المائة من الناس يمتثلون للقانون، ولو لم تكن هناك رقابة، و 10 في المائة يحاولون دائما خرْق القانون، مهما كانت الضوابط، والباقي، أي 80 في المائة، تعمل وفْق ما توجد عليه الأنظمة السياسية، وما تطبّقه، وليس ما هو مدوّن في النصوص، أو ما يتردّد في الخطاب الرسمي.
عبد السلام أبودرار يذهب في اتجاه أنّ ما ينبغي الانتباه إليه هو أن ظاهرة الرشوة موجودة، وأنه ينبغي العمل من أجل مواجهتها بكل الوسائل الزجرية والوقائية والتحسيسية، مُضيفا أنّ تفشّيها أو انتشارها لا يجب أن يكون عامل إحباط للفاعلين المناضلين في هذا المجال، سواء كانوا في الإدارة العمومية أو القطاع الخاص أو المجتمع المدني أو مواطنين عاديين، ويعتبر أبودرار أنّ هذا العمل يجب أن يُترجم في إستراتيجية متكاملة ومندمجة، تكون بمثابة البوصلة التي ترشد الأطراف المعنية بالموضوع إلى تحقيق النجاح في التقليص من حدة الفساد ومحاصرته لمنعه من الانتشار أكثر.
غيْرَ أنّ ثمّة سؤالا يتعلق بمن هي الجهة التي ستنفّذ ما تنصّ عليه الإجراءات الزجرية والردعية للحدّ من الرشوة؟ الخبير الاقتصادي، وعضو الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، عز الدّين أقصبي، يجيب عن هذا السؤال بالقول إنّ الحلول التقنية الكفيلة بمحاربة الرشوة يُمكن إعمالها، "غيرَ أنّ المشكل ليس مشكلَ حلول، بل مشكل غياب الإرادة السياسية لمحاربة هذه الآفة"، مضيفا "الحلول التقنية موجودة، لكنّ السؤال الذي يحتاج إلى جواب هو: من سيُفَعِّلُ هذه الحلول ومن سيطبّقها؟".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.