عندما تخرج القمة العربية الإسلامية الطارئة في الدوحة من دائرة الإنشاء السياسي والمجاملات والتقاط الصور التذكارية، وتتجاوز بيانات الشجب التقليدية، لتبنّى رسميًا وبصوت جماعي لغة الحزم والمساءلة؛ فتدعو إلى منع إسرائيل من مواصلة جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، ومحاسبتها، وفرض العقوبات عليها، وتعليق تزويدها بالسلاح، ومراجعة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية معها، حينها يبدأ الغطاء العربي والإسلامي بالانكشاف عن إسرائيل. وربما للمرة الأولى منذ عقود، تتراجع قناعة دولة الاحتلال بأنها محصّنة من أي مساءلة جماعية حقيقية. لقد صدر البيان الختامي للقمة، لا مجرد مشروع بيان. وقالت القمة بوضوح نادر ما سُمع منذ سنوات طويلة: إسرائيل لم تعد شريكًا محتملًا للسلام، بل خطرًا مباشرًا على الأمن العربي والإسلامي، وعدوًا لجهود الوساطة والتهدئة. ما جرى في الدوحة ليس تكرارًا لمشهد التضامن العربي المعتاد، ولا مجرد تعبير عن غضب سياسي عابر، بل هو إعادة تعريف جذرية للعلاقة مع إسرائيل، التي لطالما تمتعت بحصانة مزدوجة: غربية لا تُسائل، وعربية تتواطأ بالصمت أو تُحسن الظن باسم "السلام الممكن". واليوم، وبعد أن قُصفت عاصمة عربية تستضيف الوفود التفاوضية وتحمل عبء الوساطة، فإن الاكتفاء بالتنديد لا يعني سوى التورط في منح الاحتلال غطاءً سياسيًا جديدًا. لم يكتفِ البيان الختامي بإدانة القصف، بل تجاوز لغة البيانات النمطية إلى دعوات مباشرة لتعليق التسليح، وفرض العقوبات، ومراجعة العلاقات، وتنفيذ أوامر المحكمة الجنائية الدولية، والمطالبة بتعليق عضوية إسرائيل في الأممالمتحدة، فضلًا عن تحميلها المسؤولية الكاملة عن إفشال الوساطات وإشعال المنطقة. وهذه ليست مجرد بنود دبلوماسية، بل انعطافة حقيقية في الخطاب السياسي العربي والإسلامي. إسرائيل، في غطرستها، لم تكن تتوقع ردًا بهذا المستوى من الحزم. فقد اعتادت على "الأسف العميق" و"القلق البالغ"، لكنها وجدت نفسها هذه المرة أمام قمة موحدة تتحدث بلغة القانون والعقاب، لا بلغة المجاملة والمراوغة. وما يضفي على هذه اللحظة زخمًا إضافيًا، هو تزامنُها مع تحولات دولية متسارعة نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتنامي الدعوات لمحاسبة الاحتلال على جرائمه في غزة والضفة الغربية. استهداف قطر – الدولة التي تتصدر جهود الوساطة، وتحتضن قواعد عسكرية دولية، وتضطلع بدور دبلوماسي محترم – لم يكن مجرد تعدٍّ على السيادة، بل محاولة متعمدة لإهانة الوسيط وتقويض فكرة الحل السياسي من جذورها. كان العدوان رسالة إسرائيلية واضحة: "لا وساطة إلا بشروط القوة"، فجاء الرد العربي والإسلامي موحدًا: "لا حصانة بعد الآن". وقد وضع البيان المجتمع الدولي أمام أسئلة ملحة لا تحتمل التأجيل: أي نظام دولي هذا الذي يطالب بالتهدئة، ثم يغض الطرف عن قصف عاصمة للوساطة؟ وأي سلام يمكن أن يولد بينما تُستهدف الأدوات السياسية، وتُنسف الجهود الدبلوماسية بالصواريخ؟ وفي حين سيختار البعض في المنطقة الوقوف في المنطقة الرمادية، فإن مجرد صدور البيان بهذا الوضوح، وعلى أرض قطر، وبإجماع عربي إسلامي، كافٍ لإحداث شرخ حقيقي في جدار التطبيع، ويضع العواصم التي قدّمت العلاقة مع إسرائيل على أنها "خيار استراتيجي" في زاوية محرجة أخلاقيًا وسياسيًا. الرسائل الرمزية في البيان لم تكن أقل أهمية. فقد شدد على دعم دور لجنة القدس بقيادة الملك محمد السادس، والتأكيد على الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، وإدانة الإسلاموفوبيا، وتأكيد مركزية مبادرة السلام العربية، والمطالبة بإعادة إعمار غزة فورًا، إضافة إلى التذكير بأن السلام لا يأتي عبر القصف، بل باحترام السيادة، ورفع الحصار، ووقف الاستيطان، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. لقد وصلت الرسالة، والعالم يراقب. لكن الاختبار الحقيقي ليس فيما كُتب على الورق، بل فيما سيُترجم منه على أرض الواقع. فإن لم يكن قصف الدوحة كافيًا لإعادة تعريف العلاقة مع إسرائيل... فماذا يمكن أن يكون كافيًا؟