لم تكن موريتانيا في عيني أرضًا جديدة تُضاف إلى خرائط السفر، بل كانت فكرةً قديمة تبحث عن تجسُّدها في الزمان والمكان. هناك، عند تخوم الصحراء، تنفتح الأسئلة الأولى للوجود: من نحن حين ننزع عنا زيف الحضارة؟ من نحن حين يختبرنا الصمت؟ كان الدخول إلى موريتانيا أشبه بالدخول إلى قصيدة مُعلَّقة على جدار الذاكرة الإنسانية، قصيدة لم تكتمل، لكنها تحفظ سرَّ البدايات الأولى؛ حيث الكلمة لم تكن بعدُ سوى نَفَسٍ من الرمل والريح، وحيث الإنسان ما زال نقيًّا كظلِّه في ضوء الغروب. ........... لا يستطيع المرء أن يقترب من معنى المكان، دون أن يلامس روح الإنسان الموريتاني. في ملامحه شيء من سكينة العارفين، وفي صمته إشراق من صبر الصحراء. هو إنسان يختصر المسافة بين الأصالة والكرامة، بين الحكمة والصفاء. تراه يجلس أمامك، يسكب الشاي ببطءٍ متأمِّل، كأنه يقيم صلاةً على مهل. تدرك عندها أن الضيافة ليست عادة، بل طقسٌ روحي، وأن الكرم ليس سلوكًا، بل هوية. في وجهه تلمع ذاكرة الأجداد الذين علموا أن الصحراء لا تُروَّض إلا بالتسامح، وأن قسوتها لا تُقاوَم إلا بالعقل والحكمة. من هذا الامتزاج بين الصلابة والرقة، بين الصمت والكلمة، تولدت روح موريتانيا.. روح البدوي الفيلسوف، الذي يرى في كل عابر صديقًا مؤجَّلاً، وفي كل غريب مرآةً لذاته. ............ في مقاهي نواكشوط، حيث تختلط نكهة النعناع بصوت المذياع القديم، يكتشف الغريب أن الزمن هنا لا يُقاس بالدقائق، بل بعمق التأمل. كل كأس شاي تُعدَّ على ثلاث جولات.. الأولى مُرَّة كالحياة، والثانية معتدلة كالمحبة، والثالثة حلوة كالموت الجميل. وفي كل رشفة معنى من معاني الوجود؛ كأن الموريتانيين ابتكروا فلسفتهم الخاصة في الشاي، لتذكير الإنسان بأن الحياة تحتاج إلى تمهُّل، إلى طقوس تمنحها طهرًا من الازدحام. فالشاي عندهم ليس مشروبًا، بل نصٌّ يُروى، وهدنة بين جملة وجملة من كتاب الرحلة الكبرى. ................ وحين يأتي الليل، ينسحب اليوم إلى ركن التأمل، وتبدأ القصيدة حياتها. في مجالس الشعراء، تتعانق القوافي مع أزيز الريح، وتستعيد الصحراء لغتها الأولى. كل نجمٍ في السماء بيتٌ شعري، وكل ظلٍّ على الرمل قافية. هناك، في حضرة الشعر، تتجرَّد الكلمات من الغرض، وتتحول إلى وعيٍ كونيٍّ بالجمال. قد يصدح شاعر بشطرٍ من معلقة، أو يهمس آخر ببيت من قصيدة حديثة، لكنهما يلتقيان في جوهرٍ واحد.. أن الشعر في موريتانيا ليس فنًّا، بل طريقة في التفكير. إنه مرآة للوعي الجمعي، وشاهدٌ على أن هذا الشعب لا يكتب القصيدة، بل يعيشها. .................. في النهار، حين يمتد القيظ كوحشٍ من نور، تشعر أن الصحراء تختبرك. تدفعك إلى أقصى حدود الاحتمال، لتكتشف مدى هشاشتك، ومدى قوتك. ومع كل نسمةٍ تمرُّ، تدرك أن المكان هنا لا يعترف بالمسافات، بل بالعلاقة الخفية بين الإنسان والطبيعة. إنه مكان يتكلَّم بالسكوت، ويقيس الوجود بنبض القلب، لا بخطوط الجغرافيا. ومع حلول الليل، تنقلب الصورة: نفس الصحراء التي كانت امتحانًا، تصير حضنًا. تتوهج السماء بألف نجم، وتستيقظ الأرواح القديمة، كأنها تدعوك لتجلس قربها، وتنصت لما لم يُقَل بعد. في ذلك السكون المهيب، يلمح المسافر حقيقته، ويهمس لنفسه: "هنا، لا شيء يضيع. كل ما يغيب، يعود في هيئة معنى." ................. أسبوع واحد في موريتانيا، يكفي لتتغير داخلك مقاييس الدهشة. تغادرها، لكنك لا تنجو من أثرها. فكل رملٍ تراه بعد ذلك، يذكِّرك بأن ثمة أماكن لا تُزار، بل تُسكن القلب سكنًا أبديًّا. تغادر موريتانيا، لكنها تبقى فيك. كحلمٍ صعب التأويل، كصوت شاعرٍ لا يهدأ، وكفكرةٍ عن الإنسان حين يتصالح مع صمته، ومع السماء التي تشبهه. نواكشوط في: 30 أكتوبر 2025