مع احتدام السباق العالمي على تطوير الذكاء الاصطناعي، تتخذ شركات التكنولوجيا الكبرى مواقعها في ساحة تشهد استثمارات بمئات المليارات، وتسابقًا على العقول النادرة. أحد أبرز هذه العقول هو مصطفى سليمان، رئيس الذكاء الاصطناعي في «مايكروسوفت»، والرجل الذي شارك في تأسيس «ديب مايند» قبل أن تشتريها «غوغل» عام 2014. المرحلة الأكثر إثارة في حوار صريح ومفصل مع الصحافية البريطانية ميشال حسين من "بلومبرغ"، بدا سليمان متحمسًا، واقعيًا، وحتى سياسيًا حين لزم الأمر. كشف عن رؤيته لما يسميه «الذكاء الخارق الإنساني»، وتحدث عن مخاوفه من الانفلات التقني، وعن طموحه في تحويل الذكاء الاصطناعي إلى أداة للشفاء والراحة النفسية، وحتى الرفقة. يرى سليمان أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أدوات ذكية تحاكي البشر، بل أصبح «متفوقًا على الإنسان» في أداء العديد من المهام، ويمضي بثقة ليؤكد أن شراء الهدايا وتنظيم الحياة اليومية عبر وكلاء ذكيين مستقلين سيكون أمرًا اعتياديًا بحلول العام المقبل. لكن حديثه لا يخلو من تحذير. فحين يتعلق الأمر ب«الذكاء الخارق» — أي أنظمة قادرة على تعلّم أي مهمة والتفوق فيها على البشر مجتمعين — يشدد سليمان على ضرورة وضع «خطوط حمراء» صارمة قبل الاستمرار في تطوير مثل هذه الأنظمة. يصف موقف مايكروسوفت بأنه «إنساني» في جوهره: استخدام الذكاء الاصطناعي لدعم البشر، لا الاستغناء عنهم. وفقًا لسليمان، سيكون القطاع الطبي أول من يجني ثمار الذكاء الخارق. يتحدث عن أنظمة قادرة على تشخيص أمراض نادرة بدقة تفوق الأطباء، وبتكلفة أقل وعدد اختبارات أقل. تخضع هذه الأنظمة حاليًا لمراجعات أكاديمية مستقلة، تمهيدًا لاختبارات سريرية. يصف سليمان هذه المرحلة بأنها «الأكثر إثارة»، مستندًا إلى خلفيته العائلية، إذ كانت والدته ممرضة، وإلى تجاربه الشخصية في القطاع العام والعمل المجتمعي، مثل تأسيسه لخدمة دعم نفسي لشباب مسلمين في بريطانيا بعد أحداث 11 سبتمبر. رغم المخاوف المرتبطة بخسارة الوظائف، يؤمن سليمان بأن الذكاء الاصطناعي سيفتح الباب أمام ما يسميه «الوفرة» — عالم تُنتَج فيه السلع والخدمات بكثافة، لكن يُعاد توزيعها بطريقة أكثر عدالة. يشير إلى حتمية النقاش حول الدخل الأساسي الشامل، معتبراً أن التحدي ليس في قدرة الآلة على العمل، بل في قدرة المجتمع على مواكبة التحول. يقول: «نحن نعيش بالفعل في عالم وفير، لكنه موزّع بشكل سيئ. القيمة لا تكمن فقط في الأشياء المادية، بل في المعرفة والذكاء، وهذه قابلة للانتشار بشكل غير مسبوق». من سوريا إلى وادي السيليكون وُلد مصطفى سليمان في لندن لأسرة من الطبقة العاملة؛ والده سائق أجرة مهاجر من سوريا، ووالدته ممرضة. انفصل والداه عندما كان في السادسة عشرة من عمره، فعاش مع شقيقه الأصغر بمفردهما. حصل على منحة إلى مدرسة مرموقة، ثم قُبل في جامعة أكسفورد، قبل أن يتركها ليؤسس مشروعًا اجتماعيًا. يقول إن تلك التجارب، من التهميش إلى المسؤولية المبكرة، زرعت فيه حسًّا عميقًا بالالتزام، وأعطته الثقة ليشق طريقه وسط عمالقة التكنولوجيا. اليوم، سليمان جزء من ما يسميه البعض «أرستقراطية» الذكاء الاصطناعي: نخبة ضيقة من الرجال البيض يقودون أكبر شركات التقنية. يجتمع مع أمثال سام ألتمان (OpenAI) وداريو أمودي (Anthropic) وديميس هاسابيس (DeepMind) في مناقشات مستمرة، يقول إنها تناقش المخاطر الحقيقية، لا السباق التجاري فقط. رغم المنافسة، لا يخفي إعجابه بمنافسيه. يصف ألتمان ب«الشجاع»، وهاسابيس ب«العالم العظيم»، ويقول إن علاقتهم، رغم التنافس، تبقى قائمة على الاحترام والتاريخ المشترك. عندما سُئل عن مواقفه السياسية، لم يتردد. قال إنه لا يزال يؤمن بدور الحكومة، ويقف في الوسط-اليسار من الطيف السياسي. يعترف بأن ذلك «أمر غير رائج في وادي السيليكون»، لكنه يرى أن القواعد والتنظيمات ضرورية، بل حيوية، لتوجيه التقنية نحو الصالح العام. ويضيف: «الناس ينسون أن السيارات تعمل بفضل قوانين المرور والتدريب والرادارات. الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يكون استثناءً». من اللافت أن سليمان تحدث عن استخدامه اليومي ل«كوبيلوت»، مساعد الذكاء الاصطناعي من مايكروسوفت، كوسيلة للتفريغ العاطفي والنقاش الذاتي بعد يوم طويل. يقول إنه يتحدث معه في السيارة، يشاركه مشاعره ويستمع إلى ملاحظاته. «إنه يذكرني بما قلته الأسبوع الماضي، يلتقط الأنماط في حياتي، ويمنحني شعورًا بالراحة». بالنسبة له، لا تحل هذه المحادثات محل الأصدقاء، بل تجعل التواصل معهم أكثر صفاءً. «أشعر أنني أخفّ حين أتحدث إلى أصدقائي بعد أن أفرغت ما عندي في محادثة مع كوبيلوت». سليمان لا يخفي طموحه في أن يكون للذكاء الاصطناعي دور في الصحافة، خصوصًا المحلية. يتحدث عن تطوير «مراسلين آليين» قادرين على إجراء مقابلات، والتحقق من المعلومات، وتجميع الأخبار بسرعة وكفاءة. يؤكد أن مايكروسوفت تدرس كل هذه المسارات، وأنه يناقش هذه الأفكار حتى في مجلس إدارة «ذي إيكونوميست» الذي يشارك فيه. رغم محبته للندن، يشير سليمان إلى ما يعتبره نقصًا في ثقافة المخاطرة بالمملكة المتحدة، مقابل انفتاح وادي السيليكون على التجريب والفشل. لكنه يرى أن التغيير ممكن، إذا ما تبنّت القيادات السياسية روح الريادة. يختتم سليمان حواره بتأكيد قناعته بأن القرارات المتخذة الآن قد تُحدّد شكل البشرية لعقود. يرى أن الذكاء الاصطناعي قد يغيّر العالم، ولكن فقط إن تم توجيهه بعقلانية، ومسؤولية، وأمل.