جملة ما أردت أن أبينه في هذا المقال أن المثقف المغربي المعاصر قد تجرّأ على "الفكر" بالفعل ولكنه استسلم في لحظة من لحظات نموه الطبيعي لمرض معرفي حضاري سأسميه بكل بساطة ب"الفساد". وسأستعمل مثال محمد عابد الجابري رحمه الله لتوضيح "هيئة" الجرأة التي أنوي توصيفها و"صورة" الفساد الذي نال من هذه الجرأة بل قتلها. ليسمح لي القارئ أولا أن أشرح ماذا أقصد ب"الفكر" و"فساد الفكر". لاحظ أوڭست كونت في مقدمة "رسالته حول علم التجمع البشري" أن الفكر الإيجابي (الذي يترجم خطأ ب"الوضعي") يتضمن دائما آليتين عقليتين تعملان في نفس الوقت: آلية "الترتيب" (وهي ميل العقل إلى التنظيم وما في معناه من البحث عن العلاقات الناظمة بين الأشياء) وآلية "الإمتداد" (وهي ميل العقل إلى الإتجاه نحو الأشياء واستمرار هذا الإتجاه). "الترتيب" يُقدر العقل على تنظيم مواضيعه بشكل يجعلها قابلة للفهم ويجعل الحديث عنها عملا يسيرا هيِّنا. "الإمتداد" يدفع المفكر إلى التفاعل مع مواضيعه بشكل مباشر، بالملاحظة والفحص والتجريب والمراجعة وغير ذلك من أساليب تقليب أوجه مواضيع الفكر. "الترتيب" فاعلية عقلية داخلية يمارسها العقل ليمتلك موضوعه. و"الإمتداد" فاعلية عقلية خارجية يمتد بها العقل إلى سواه. "الترتيب" مظهر من مظاهر "تمسك" العقل بنفسه، أي بآلياته الداخلية. أما "الإمتداد" فهو مظهر من مظاهر "انفتاح" العقل على العالم المحيط به. "الترتيب" هوية العقل، و"الإمتداد" نموّه وحياته. فلا يكمل عمل الفكر إلا إذا أجاد المفكر ممارسة هذين الآليتين، فأمعن النظر في ما يلاقيه (في هذا الحوض الوجودي الذي ندعوه عالما) من مواضيع خفية أو ظاهرة، وحول ما تمثله بامتداده إلى مفاهيم وعلاقات يرتب بها هذه المفاهيم. هذا هو "الفكر" ... فما هوا "الفساد" (أي "فساد الفكر")؟ تميز الأمازيغية بين صفتين بمعنى "الفاسد"، أولهما "أَمْڭّافسو" وثانيهما "أَمكرو" ... تفيد الأولى "الفساد" بمعناه الأخلاقي (الإرتشاء، عدم المحاسبة، إلخ). وتفيد الثانية "الفساد" بمعناه البيولوجي (فساد الخضر والفواكه مثلا). فعندما كان نيتشه، مثلا، يستعمل لفظة "الفساد" (التي تقابل decay في ترجمات أعمال هذا الفيلسوف إلى اللغة الإنجليزية) فهو كان يقصد وصول القيم إلى منتهى الهبوط الذي لا هبوط بعده وإلى مستقرها الأخير الذي لا "دونَ" له. "الفساد" الذي نقصده إذن هو فساد "أمكرو"، تحلل الجسم البيولوجي بعد أن يفقد قدرته على تبادل الطاقة مع محيطه بشكل متوازن وصحي. و"فساد الفكر" هو أن يفقد العقل قدرته على ممارسة آليتي "الترتيب" و"الإمتداد" اللذين وصفناهما بشكل مختصر أعلاه، أو أن يغلِّب ممارسة إحداهما على الأخرى بشكل يفقده القدرة على النمو بشكل طبيعي مما يدفعه إلى الإنسحاب التدريجي من "ممارسة الفكر" إلى "التظاهر بممارسة الفكر". هل تعرض الفكر المغربي لفساد فكري؟ وللأسف، نعم! سأحاول أن أعطي صورة شاملة عن الشكل الذي دخل به هذا الفساد على الفكر المغربي وذلك بتقديم مثال" الأعمال الفكرية" محمد عابد للجابري تغمده الله برحمته. في ماذا كان "يفكر" الجابري بالضبط (وبدون إلهاء الحواس بالتفاصيل)؟ قد نتلمس الجواب على هذا السؤال في أقدم نصوص الجابري الكبيرة المعروفة وهي رسالة الدوكتوراه التي نشرها سنة 1971 تحت عنوان: "العصبية والدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي". كان الجابري واعيا بأن موضوع "ابن خلدون و"مقدمته" كان قد صارا مستهلكين، ولكن كان أيضا واعيا بأن هناك أمرا ما كان لا زال من الممكن بل من الضروري الإستفادة منه عندما نقرأ ابن خلدون. لقد كان ابن خلدون بالنسبة للجابري مؤرخا وفيلسوف تاريخ اكتشف علما جديدا اسمه "علم العمران البشري" حاول أن يفهم به دورة الحياة الطبيعية للحضارة البشرية (رغم أن تركيز ابن خلدون كان مقتصرا على بلدان تامازغا وحدها). واستنتج الجابري من ذلك أن قراءة ابن خلدون قراءة معاصرة قد تعطينا "معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي" (وهذا هو العنوان الفرعي لأطروحة الجابري) (ص385386). لقد كان الجابري يحلم ببناء نظرية أصيلة في التاريخ الإسلامي يقرأ بها واقع العالم الإسلامي المعاصر، لذلك فقد كان آخر سؤال طرحه على قارئه (وعلى نفسه أيضا) هو: "ألا نجد في تحليلات ابن خلدون ما يلقي بعض الأضواء على جوانب من تاريخنا الحديث وواقعنا الراهن؟" (ص431). بغض النظر عن مصداقية الأهداف العلمية للجابري، فإن هناك مشكلة معرفية اعترضت "تذوق" الجابري للأسلوب الخلدوني في التفسير جعلته يلقي بعض الشك النقدي حول فهم ابن خلدون لممارسة العلم بمعناه الحديث. وقد عبر الجابري نفسه عن هذا الشك بالطريقة التالية: "لعله من الواضح الآن أن ابن خلدون لا يهدف إلى دراسة الظواهر الإجتماعية بغية التعرف على القوانين التي تتحكم فيها، كما يقول بذلك معظم الباحثين، بل إنه يهدف إلى بيان ما يحدث في العمران بمقتضى طبعه. وفرق شاسع بين فكرة القانون كما نفهمها اليوم، وفكرة الطبع كما كان يفهمها القدماء. إن فكرة القانون باعتبارها علاقة ضرورية بين حادثتين، أو مجموعة من الحوادث، لم تكن قد تبلورت بعد، ولم تكن العلاقات تستأثر باهتمام العلماء، وإنما كانت أنظارهم منصرفة إلى خصائص الأشياء، والخصائص الثابتة الملازمة لها دوما، والتي تشكل "طبيعتها" " (ص.158). موضوع الجابري إذن وهمه الأساسي هو: هل هناك منطق ما يتحكم في التاريخ الإسلامي؟ قد يساعدنا ابن خلدون في فهم هذا "المنطق"؟ ولكن ينبغي أن نكون حذرين من الخلفيات الإبستيمولوجية للتناول الخلدوني! لا عجب أن الكتابين المهمين اللذين نشرهما الجابري بعد رسالة الدكتوراه (غير كتاب "أضواء على مشكلة التعليم بالمغرب الذي نشره عام 1973 بحكم ممارسته للتعليم) هما نحن والتراث : قراأت معاصرة في تراثنا الفلسفي (1980) والمنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي" (1982). الجامع بين الكتابين هو أنهما يتضمنان محاولة للإجابة عن سؤال العقلانية. يدافع الأول عن عقلانية الغرب الإسلامي (بلاد تامازغا والأندلس) ويحاول الثاني أن يبين من خلال النقد الإبستيمولوجي ماذا تعني العقلانية العلمية أصلا. الكتابان المواليان سيذهبان أبعد من ذلك لمحاولة البحث في الكيفية التي تشكل بها العقل الإسلامي وأخذ شكله النهائي (في عصر التدوين) حتى يتمكن المنخرط في هذا العقل أن ينتظم في تراثه "البرهاني" دون أن يُشدّ إلى العناصر غير العقلانية في هذا التراث (العقلان البياني والعرفاني). أقصد هنا كتابي "تكوين العقل العربي" (نقد العقل العربي 1)(1982) وبنية العقل العربي (نقد العقل العربي 2) (1986) الكتابان الأساسيان المواليان للجابري هما محاولتان لإضفاء طابع الشمولية على مشروعه بعد ان انتُقد لكونه يختزل كل مظاهر الأزمة في العقل فقط، لذلك فقد رد الجابري بأن حلل "العقل السياسي" (العقل السياسي العربي (نقد العقل العربي 3) (1990) و"العقل الأخلاقي" ) العقل الأخلاقي العربي (نقد العقل العربي 4) ليضع "النقط على الحروف" وليوضح أنه نقده ليس اختزاليا بل هو واع بضرورة نقد مستويات في القول مختلفة لفهم "منطق الممارسة" في العالم الإسلامي بشكل شامل وصريح. هل حقق الجابري هدفه الأصلي إذن؟ هل حقق أخيرا علم "العمران الإسلامي" الذي كان ابن خلدون يسعى إلى تأسيسه؟ هل أكمل الجابري مهمة ابن خلدون بإعادة موقعتها في "عصر العلم" و"النقد الإبستيمولوجي المعاصر"؟ هناك فرق أساسي بين ابن خلدون والجابري ينبغي توضيحه ... لقد كان ابن خلدون بالفعل ينوي التأسيس لعلم جديد "علم طبائع العمران" .. ومن دعائم هذا "العلم" أنه كان يقاوم انكفاء العقل على نفسه ويمتد أمام موضوعه (راجع مفهوم "الإمتداد" أعلاه). فقد كان ابن خلدون عازما على بناء علم جديد يخالف حكمة أهل يونان في كونه يلاحظ كيف تصير أمور العمران بشكل "عياني" في الغرب الإسلامي (لا في شرقه) معتمدا في ذلك على استقصاء الروايات من أوثق الناس بشكل شفاهي حتى يتمكن أخيرا من فهم واقع الإندحار الذي كان قد دخلت فيه تامازغا الإسلامية قرنا كاملا قبل زمن ابن خلدون. أما الجابري، بعكس ابن خلدون، فلم يكن يبحث عن "منطق التاريخ الإسلامي" بالإمتداد نحو موضوعه بل بالنظر في الكيفية التي "رتّب" بهاغيره (راجع مفهوم "الترتيب" أعلاه) هذا المنطق. لذلك جاز أن نقول بأن نزوع ابن خلدون هو إلى "الإمتداد" أكثر منه إلى "الترتيب"، بينما نزوع الجابري هو إلى "الترتيب" أكثر منه إلى "الإمتداد" ... ابن خلدون عقل سائر إلى موضوعه، والجابري عقل "منشغل بنفسه". ومن الشواهد على فساد ممارسة المعرفة في كلا النمطين من التفكير أن فلسفة ابن خلدون التاريخية توقفت عند لحظة ابن خلدون وأضاعها من تلقاها في تفاصيل الأخبار لقرون عديدة قبل أن تستعاد في القرن العشرين، وأن الجابري، بعد أن لاحظ عدم فعالية النقد الصوري للعقل انتهى به العمر إلى تشتيت اهتمامه بين مواضيع شتي ك"حقوق الإنسان" و"الدولة المدنية" و"الهوية" وغير ذلك مما يسترعي نظر أصحاب الجدل من السياسيين وعوام الناس. ومن ذلك أن الباحث يجد صعوبة كبيرة في فهم العلاقة بين "جابري السبعينات إلى منتصف التسعينات" و"جابري ما بعد ذلك". الجابري هو العقل المغربي وقد اكتشف هويته بصفته عقلا .. ولكنه فضل أن يبقى هناك في هذه الهوية "الداخلية" فصار لا يرى واقعه إلا نصوصا ينبغي أن "تفكك" وتمثلات" ينبغي أن "تخلخل" وعقولا ينبغي أن "يحلل شكل اشتغالها" وترجمات ينبغي أن "تفضح" وأيديولوجيات ينبغي أن "تنتقد"... ففقد اتصاله بواقعه الحضاري واستسلم لأسطورة ”الإطار“ (كما سماها كارل بوبر) مما شلّ قدرته على التفكير المثمر. بهذا المعنى فسد الفكر المغربي مع بداية التسعينيات ووصل إلى باب مسدود ...بعد أن انطلاقته الطموحة في بداية السبعينيات. إن الفكر الحي هو الفكر الذي يتجه رأسا وبشجاعة إلى مواضيعه فيحللها بدون وسائط النصوص والتمثلات والأيديولوجيات .. ينظر في الخوف والأمل والفقر والعهارة والموت والتقدم والشجاعة والتعليم والهوية واللغة ... وغيرها من المواضيع ينظر فيها بأن يمتد نحوها بدون وسائط ليعيد ترتيبها بحسب مقتضيات الهوية الداخلية للعقل ... حياة الفكر هي أن لا نخاف مما نفكر فيه.