في هذا المكتوب، الذي ينشر على حلقات طيلة شهر رمضان، دعوة صادقة إلى الإقبال على الحياة. إنه يقول، من خلال سرد أحداث واقعية من حياة إعلامي مغربي قهر المستحيل بقدم واحدة، إن الحياة جهد وعرق وتضحية.. وإنها – قبل ذلك وبعده – جميلة حقا، وتستحق أن تعاش. هذه أوراق تحكي تفاصيل آتية من سيرتي. نشرت بعضها، ولم تنشر أخرى بعدُ: أكتب على السجية. وقد تشغلني الشواغل عن الكتابة، فأفرد جناحي وأحلق بعيدا.. ثم لا أقع إلا في شباكها. قل إنها قدري الجميل، شأن الكثير من الأقدار الجميلة في حياتي. أو سمّها ضرورتي الحيوية التي لا غنى عنها. أحدثكم، اليوم، عن (الإذاعة). حديث القلب قبل أي شيء. وأحسب أن تجربتي الإذاعية تؤهلني لأطرق هذا الموضوع. تجربتي التي عشتها باللحم والدم والأعصاب. ولا تقاس التجارب الوجدانية بالسنوات لمن يسألني ذاك السؤال البارد الشارد عن سنوات خبرتي في العمل الإذاعي. عمري كله، أجيب دون أن ألتفت. كان هاجسي أن أنتج برامج إذاعية بخلفية تنموية.. وكانت برامجي الإذاعية من أكثر البرامج نجاحا من حيث التصور والتفاعل والامتداد الجماهيري (وكل ذلك كان محكوما بالشرط الجغرافي، إذ لم تكن تغطي الإذاعة إلا حيزا جغرافيا محدودا). وجمعتُ في برامجي بين الشكل الجذاب وبين المضمون الرصين وبين الرسالية المواطنة الهادفة دون أن يطغى أي منها على الآخر. وأحسب أنني حققت تلك المعادلة الصعبة التي تساوي فيها الجودةُ الامتدادَ الجماهيري. ولعمري إنها المعادلة التي تُخْرِس الأصوات التي تزعم، في صلف، أن ضرورات "التسويق" تبرر شيئا من الإسفاف والابتذال على المقاس الإذاعي. حين دخلت عالم الإذاعة كانت تشغلني تساؤلات أدرك، اليوم، كم كانت سابقة لزمانها. كنت كالذي اكتشف عالما واسعا فسيحا يعيش الناس في أرجائه في ضيق شديد! ولأني إيجابي، بالطبع والسجية لا بالتطبع والاختلاق، فقد فكرت طويلا في "نحت" برامج تنزل إلى المتلقي لترتقي به ولا تهوي به إلى الحضيض لتمرغه فيه. وها هنا، خيط رفيع لا يبصره عشاق "الثرثرة عبر الأثير". الإذاعة، قبل أي شيء، تصنع الخيال وتثريه وتمضي به صعودا نحو تشكيل الوعي الحافز على الإبداع. ولا يمكن، بأي حال، أن تُختزَل في صندوق ناطق يصدر أصواتا ويذيع أغان. كيف أمكن، إذن، أن تُجْتثّ أجنحة هذا الكائن الساحر فلا يحلق في فضاءات الحلم والخيال والجمال؟ في إحدى المرات، ألح ضيفي أن أطلعه على الأسئلة كاملة وأن يعرف محاور الحلقة من الألف إلى الياء.. وقال وقد قرأ تعبي من أسئلته التي لا تنتهي: "هاد الشي راه ماشي لعب". ولكي أبدد مخاوفه، أجبته: "ومن قال لك إن ما سنقوم به ليس لعبا.. نحن سنلعب.. لكنه لعب عفوي ومنظم في آن". كنت معنيا، من خلال كل برامجي، بأن أجيب عن سؤال كبير أٌقدر بأنه يجدر بسياستنا الثقافية أن تضعه نصب العين والقلب وأن تبدع، عبر كل الأجناس الفنية والإبداعية والتربوية، في الإجابة عنه. سؤال كشاف يلقي الضوء على الحاضر ويستشرف المستقبل ويعد العدة لكل التحديات الراهنة والمستقبلية. السؤال الذي ضمنته كل برامجي الإذاعية، عند إعداد التصور وأثناء التنفيذ والتقييم، هو ببساطة: كيف أَصنع نجاحي الشخصي وأسهم، من موقعي وبإمكاناتي وإن تكن بسيطة، في صناعة نجاحنا الجماعي؟ الفكرة بسيطة وعميقة في آن: كيف السبيل إلى تقديم التجسيد العملي للنجاح من خلال نماذجنا الناجحة؟ كيف نصنع الأمل والنجاح والحياة؟ وكيف نقول للناس، بعيدا عن المباشرة ولغة الوعظ والإرشاد، بأن الحياة جهد وعرق وتضحية؟ [email protected]