يعمد فقهاء التقليد ودعاة التشدد في العديد من المناطق وعبر تحريك "المجالس العلمية" المحلية، إلى محاصرة مؤلف كتاب "صحيح البخاري نهاية أسطورة"، وذلك بالاتصال بالسلطات المحلية لمنع اللقاءات التي يحضرها الكاتب، بغرض توقيع كتابه للقراء الكثيرين الذين يطلبونه ويهتمون به، كما اتصلوا بالسلطات المحلية من أجل جمع الكتاب من المكتبات التي يباع فيها، وبهذا صرنا أمام مشهد من القرون الوسطى حيث كان رجال الدين يستعينون بالسلطة الزمنية لقمع مخالفيهم في الرأي واضطهادهم وإحراق كتبهم، عندما يعجزون عن المناظرة والمواجهة الفكرية، ففقهاء التقليد الذين لا طاقة لهم بالنقاش والحجاج في قضية يعلمون أنها خاسرة مسبقا، لا يجدون أيسر من كيل الاتهامات وتحريك السلطة والأجهزة الأمنية وتأليبهم ضد من لا يفكر كما يفكرون. حضرتني على هامش هذه الوقائع واقعة شبيهة حدثت خلال سنوات السبعينيات بالرباط، عندما أصدر احد فقهاء السوس كتابا بعنوان "العمل السوسي"، ليس من حق السلطات النمحلية من ولاة وعمال وباشوات أن يتدخلوا في نقاش فكري دائر في المجتمع، وعليهم غذا أرادوا ان يكونا في مستوى مهامهم الا ينبعوا لفقهاء التشدد والتقليبد. أصبح العامة من الناس بفضل مواقع التواصل الاجتماعي يدركون أكثر من أي وقت مضى بأن "صحيح البخاري" ليس صحيحا، وأن الكثير من الأخبار الواردة فيه لا يقبلها عقل ولا واقع، وأنها تتعارض مع العلم ومع إنسانية الإنسان، لكنهم لم يقرروا الخروج من الدين الإسلامي ومغادرته إلى غيره من الأديان، ولم يبادروا بالتحول من الإيمان إلى الإلحاد، بل فقط اعتبروا البخاري بشرا يصيب ويخطئ. وبهذا انهدّ ركن من أركان التقليد والاجترار الباعث على التخلف الفكري والاجتماعي. كان الناس يقدسون "صحيح البخاري" دون أن يعرفوا ما فيه من أخبار، كانوا يضعون ثقتهم في الفقهاء العارفين بالمتون والحواشي، وكان الفقهاء على علم بما في البخاري من مضامين غريبة يتسترون عليها ولا يطلعون الناس على مكنونها، وكانوا يصورون للناس كتاب البخاري كما لو أنه "العلم" كله، فقد عملت أدبيات الفقهاء عبر القرون، على جعل شخص النبي يحل بالتدريج محل الذات الإلهية نفسها، كما عملوا على جعل الحديث ناسخا للقرآن نفسه في أمور كثيرة، ونتج عن ذلك تراكم التقليد وتقليد التقليد، وانتهى الأمر بالمسلمين إلى الانغلاق في قلعة مظلمة إسمها الفقه الإسلامي، صار لها حراس وكهنةّ، سكت كثير من الفقهاء وذوي الاختصاص في الدين أمام الحوار الذي يدور في المجتمع حول كتاب الحديث المنسوب للبخاري والذي يتضمن أحاديث منسوبة إلى النبي محمد، سكوت الفقهاء ليس علامة على الرضى بالتأكيد، لكنه أقرب إلى انحناءة أمام العاصفة، والذين تململوا لكي ينبسوا ببنت شفة لم يفعلوا أكثر من توريط أنفسهم في مواقف محرجة، حيث لم يستطيعوا أن ينكروا وجود أخبار غير صحيحة في كناب "الصحيح" لكنهم في نفس الوقت لم يستطيعوا الاعتراف بأي فضل للكاتب الذي أثار الموضوع، لأن مشكلتهم مع منهج النظر لا مع مضمون الكلام، إنهم يرفضون النظر النقدي العقلاني، ولا يقبلون بغير الاتباع والتقليد، ولو أدى ذلك إلى تكريس الأخطاء وتعميق التخلف الذي صار بنيويا بالغ التعقيد. الدكتور مصطفى بنحمزة مثلا اكتفى بالقول إن الرجل "جاهل"، وهو يتحدث عن مؤلف كتاب "صحيح البخاري نهاية أسطورة"، لكنه لم يقل لنا إن كانت النسخة الأصلية للبخاري متوفرة لديه في مكتبته، حتى نستطيع تفنيد كلام المؤلف المذكور، ولم يقنعنا بأن الأحاديث الواردة في الكتاب المنسوب للبخاري كلها صحيحة حتى تطمئن قلوبنا ونخرج من الحيرة إلى اليقين، بل قام بجانب ذلك بإعلان تخصيص جائزة لمن يفند ما ورد في كتاب السيد رشيد أيلال، والسؤال المطروح هو التالي: إذا كان السيد بنحمزة دكتورا في علوم الشريعة ورئيس مجلس علمي فلماذا لا يقوم هو نفسه بتفنيد ما ورد في الكتاب المذكور والاحتفاظ بالجائزة لنفسه، فالمعروف في المقربين أولى، وليس هناك أقرب إليه من نفسه.