حلت يوم أمس الخميس ذكرى رحيل محمد العربي المساري، نقيب الصحافيين المغاربة وأحد رواد الحركة الثقافية والسياسية، والذي ظل إلى حين وفاته رحمه الله في ال25 من يوليوز 2015 مؤمنا ومتشبثا بأنه بدون إصلاح قطاع الإعلام وتوسيع هوامش حرية الصحافة لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة بأوجهها المتعددة. لقد كان الراحل المساري، نقيب الصحافيين المغاربة ما بين 1993 و1998، في حقيقة الأمر المفرد بصيغة الجمع، فبصماته قيد حياته كانت ماثلة في مختلف محطات تنظيم مهنة الصحافة وتشريعات الإعلام، منذ أن كان مندوبا لجريدة "العلم" داخل برلمان 1963، أول مؤسسة تشريعية في مسار المغرب الحديث، مرورا بمحطة المناظرة الوطنية الأولى والأخيرة حول الإعلام والاتصال سنة 1993، ووقوفا عند إشرافه المباشر على تحيين توصيات هذه المناظرة، التي كان قد أعلن أنها تشكل دفتر التحملات مباشرة بعد تنصيبه وزيرا للاتصال سنة 1998، خلال زمن التناوب الذي لم يحدث كما جاء في مذكرات "المغرب الذي عشته" لعبد الواحد الراضي. لقد قدم العربي المساري، المشهود له باستقلالية الإعلامية رغم التزامه السياسي، خلال تحمله حقيبة وزارة الاتصال في مرحلة «التناوب المجهض»، مشروعا متكاملا لإصلاح قطاع الصحافة والإعلام الذي ظل ويظل عصيا على التغيير والاختراق لإحداث النقلة النوعية والمطلوبة. فالتغيير في الإعلام - حسب المسارى - يتعين أن ينطلق أولا من مصالحة المواطنات والمواطنين مع إعلامهم، خاصة منه السمعي البصري، وفي مقدمته التلفزيون؛ وهي معركة مهنية لازالت مفتوحة في هذه المرحلة الحاسمة والمفصلية من تاريخ المغرب، التي يزيد من أهميتها ما يعتمل من تحولات في ميدان الإعلام والاتصال وطنيا ودوليا وتحديات الثورة الرقمية. ولم يفتر جهد المساري طوال حياته من أجل أن تتوفر بلادنا على مقاولات إعلامية عصرية قوية، قادرة على إشباع حاجيات المتلقي بمعطيات تمكنه من التفاعل مع بيئته ومحيطه؛ إلا أنه كثيرا ما كان ينبه إلى أن عدم الأخذ بذلك يؤدى حتما إلى إهداء جمهورنا للإعلام الوافد عبر الأقمار الصناعية، حيث لن نجد من يستهلك المادة المحلية..ومن أجل تحقيق ذلك يتطلب الأمر التأسيس لإعلام متحرر ديناميكى معانقا للواقع. إن إعلاما من هذا القبيل -كما كان يردد على مسامعنا وباستمرار نحن صحفيو بداية التسعينيات - هو الكفيل بتجنيب بلادنا الكوارث التي نراها صباح مساء هنا وهناك، لأن تحاور المغاربة في الندوات التلفزيونية المفتوحة والمباشرة حول مشاكلهم خير من أن يتحاوروا بالسكاكين والكلاشينكوف كما كان يرى قيد حياته. لقد كان المساري حاضرا بفكره وفاعلا في السجالات الصحافية والإعلامية، خاصة في فترة الثمانينيات والتسعينيات، التي شهدت تحولات عميقة على الصعيد السياسي والاجتماعي، انعكست بوضوح كبير على المشهد الإعلامي الذي عرف بدوره حركية وتطورا ملموسين. وساهمت هذه التحولات في بروز جيل جديد من الصحافيين من ذوى المؤهلات العلمية والثقافية العالية، وهي التغيرات التي تزامنت مع الثورة التكنولوجية التي اجتاحت ميدان الإعلام. وتجسيدا لهذا التحول كان المساري يعتبر أن تطوير صناعة إعلامية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تم استيعاب كل حلقات إنتاج المنبر الإعلامي، ابتداء بالعنصر البشرى الذي يتطلب تكوينا مستمرا، وضمان الحد الأدنى من الكرامة المادية، والتوجه إلى القارئ والمستمع والمشاهد كمستهلك لمادة ثقافية؛ فالإعلامي المسلح بالكفاءة المهنية والنزاهة الفكرية يمكن أن تكون له مساهمة رئيسية في بلورة ثقافة جديدة في مغرب جديد ناهض ومؤهل لربح رهان المستقبل، لكن هذا يتطلب - حسب المسارى- أن يأتي الشباب إلى مهنة الصحافة وهم واثقون من أنها تضمن لهم عيشا كريما ومستقبل مضمونا. كما أن المسارى، الذي كان عضوا في لجنة تحكيم جائزة اليونيسكو لحرية الصحافة "غيير كانو"، ما بين سنوات 2002 و2004، راهن على عنصر الثقافة في تأهيل الصحافة والإعلام، مع العمل على الانفتاح على التجارب الدولية الرائدة، خاصة على المستوى المتوسطي؛ وهذا ما جعله يتولى مهام تنسيق فريق المثقفين المغاربة والإسبان ما بين 1978 و1996، والعضوية في لجنة ابن رشد للحوار المغربي الإسباني، وبالمجلس الإداري لمؤسسة الثقافات الثلاث التي يوجد مقرها بإشبيلية بجهة الأندلس. لقد أصدر المساري عدة مؤلفات قارب فيها قضايا ومواضيع متنوعة، شكلت مرجعا هاما في التاريخ السياسي والإعلامي، خاصة منها المسار التاريخي للحركة الوطنية وقضية الصحراء والتعددية الفكرية والثقافية؛ كما ساهم بالعديد من الكتابات الصحلفية في جرائد وطنية وعربية ودولية، خاصة منها "البايس" الإسبانية و"الشرق الأوسط" و"الأهرام" المصرية. لقد أثبتت التحولات في الإعلام المغربي على ضوء الثورة التكنولوجية أن الحاجة لازالت قائمة لاستعادة أفكار العربي المساري والقيم التي ناضل من أجلها، فتصوراته لازالت تسائل مكونات المشهد الإعلامي والصحافي، وتطرح أيضا على المسؤولين وأصحاب القرار، من سلطات عمومية وهيئات سياسية ونقابية ومدنية وأكاديمية، اعتبارا لأن النهوض بالإعلام رهين بعصرنة وسائل الإعلام وضمان استقلاليتها المهنية والتحريرية، حتى تتمكن من صناعة رأي عام وطني قادر على مواجهات مختلف التحديات . *كاتب صحافي