مستشارو جلالة الملك يترأسون اجتماعا لتحيين مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية    بوريطة يعلن قرب عقد اللجنة العليا المغربية السنغالية تمهيدًا للقاء الملك محمد السادس والرئيس فاي    تنصيب عمر حنيش عميداً جديدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    الفريق الاشتراكي: الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على الصحراء ليس مجرد موقف شكلي بل تتويج لمسار دبلوماسي    أخنوش يستعرض أمام البرلمان الطفرة المهمة في البنية التحتية الجامعية في الصحراء المغربية    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    مئات المغاربة يجوبون شوارع باريس احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    أخنوش: "بفضل جلالة الملك قضية الصحراء خرجت من مرحلة الجمود إلى دينامية التدبير"    مصرع شخص جراء حادثة سير بين طنجة وتطوان    أمن طنجة يُحقق في قضية دفن رضيع قرب مجمع سكني    كرة أمم إفريقيا 2025.. لمسة مغربية خالصة    نادية فتاح العلوي وزيرة الاقتصاد والمالية تترأس تنصيب عامل إقليم الجديدة    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    "حماية المستهلك" تطالب بضمان حقوق المرضى وشفافية سوق الأدوية    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    الركراكي يستدعي أيت بودلال لتعزيز صفوف الأسود استعدادا لوديتي الموزمبيق وأوغندا..    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    كيوسك الإثنين | المغرب يجذب 42.5 مليار درهم استثمارا أجنبيا مباشرا في 9 أشهر    توقيف مروج للمخدرات بتارودانت    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لُورْكَا.. أيقونة الإبداع الإسبانيّ في ذكرىَ رحيله
نشر في هسبريس يوم 08 - 09 - 2019

في 18 من شهر غشت الفارط (2019)، حلّت الذكرى 83 لرحيل الشاعر الغرناطي ذائع الصّيت فيديريكو غارسّيا لوركا (5 يونيو 1898–18 غشت 1936)، ولقد تمّ مؤخراً تقديم كتاب جديد عنه للباحث البريطاني إيّان جيبسون بعنوان: "اغتيال غارسّيا لوركا"، وهو الكتاب الذي كان قد نشر جزءاً منه أواخر السبعينات من القرن الفارط في فرنسا، ثمّ أعاد نشره في إسبانيا عام 2005، إلاّ أنه قرّر إعادة طبعه من جديد في هندام جديد مزيد، ومنقح، ومضاف إليه العديد من العناصر المستجدة، والحقائق، والمعلومات التي تمّ الكشف عنها في السنوات الأخيرة عن عملية اغتيال لوركا.
ويعتبر إيّان جيبسُون لوركا رمزاً للتصالح في هذا الوقت العصيب الذي تعيشه إسبانيا، ويتضمّن كتابه دراسات عميقة عن لوركا في إسبانيا وخلال وجوده في أمريكا، وهو يرى أن "أعداء الحرية سلبوه منّا دون أن نرى صورته وهو عجوز، فقد اغتالوه في عمر الزهور (38 سنة)".
يقول لوركا في مسرحيته "منزل برناردا ألبا": "الموت ينبغي لنا أن ننظر إليه وجهاً لوجه". ويقول الشاعر الكندي ليوناردو كوهين: "أنا لا أفهم كيف لم تقم إسبانيا كلها لتحفر بأيديها جميع حقول غرناطة لتبحث عن رفات الشاعر لوركا". ويقول الناقد الإسباني ألفارو ماتياس: "غارسيا لوركا قد قيل عنه وفيه الكثير، ومع ذلك إنه ما زال يدعونا باستمرار لمزيد من الدراسة، والتأمّل، وإعمال النظر في شعره وإبداعاته وهو يقف عاماً بعد عام شامخاً أمامنا، وقد غدا رمزاً للإبداع سواء لدى الشعراء التقليديين أو الشباب، وأصبح أيقونة الإبداع في كلّ العصور، ولذا نجد أشعاره اليوم تنتشر في وسائل الاتصال الاجتماعي على أوسع نطاق ".
رسائله من نيويورك وكوبا
من بين وثائق الشّاعر التي تمّ إيداعها مؤخراً في "مركز لوركا" بغرناطة، كتاب عن لوركا خلال وجوده في نيويورك وكوبا (19291930) يضمّ 14 رسالة كلها تلقي الضوء على جانب مهمّ من حياته واهتماماته خلال هذه الفترة. ويقف القارئ على المفاجأة الكبرى في هذه الرسائل وهي عدم رغبة الشاعر في نشرها لأنه يعتبرها حميميّة، ونقرأ رغبته في هذا الصدد في الرسالة السادسة من المجموعة حيث يقول:
"رسائلي ينبغي أن تقرؤوها أنتم وحدكم، ولا يجب أن تقع في أيدي الغرباء، بمعنى هي مقصورة على العائلة فقط، إنها رسائل حميمية، هي لكم وليس لأحد، كما أنه ليس لها أيّ قيمة أدبية، بل لها قيمة عائلية، وإن قيامكم بغير ما أوصيتكم به سيكون تصرفاً مُسفّاً من طرفكم".
ويقول الناقد خوسّيه غارسيا نييتو عن هذه الرسائل: "كنا سنُحرَم من هذا المصدر الرفيع المتعلق بالشاعر في حالة استجابة عائلة لوركا لوصيته والعمل بها وتطبيقها، ذلك أن الفقرات الواردة في هذه الرسائل هي من البساطة ولا تنطوي على أيّ مشاغل أدبية ذات أهمية قصوى، إلاّ أنها تحمل معلومات تسهم في فهم حياة الشاعر ودراسة معنوياته في تلك الفترة، وما كان يعتمل في ذاته من مشاعر، ويساوره من قلق وإرهاصات إبداعية كبرى، خاصّة في مدينة مثل نيويورك".
وبالنسبة لكثير من الكتّاب والنقاد، فإنّ أجمل ما في هذه الرسائل، بغض النظر عن قيمتها، هي كونها تتعلق بقمّةٍ من قمم الشعر الإسباني في القرن العشرين.
إن التساؤلات ما زالت تطرح حول الدواعي التي دفعت بالشاعر إلى القيام بهذه الرحلة إلى نيويورك، ويجيب كريستوفر مور في تقديم هذه الرسائل المخطوطة، بأن "الأزمة العاطفية التي كان يجتازها الشاعر في ذلك الوقت حقيقة وليست من اختراع النقاد، ولا شكّ أن العمل الأدبي غير قابل للتفسير من اجتهادات الشاعر والاندفاعات الحيوية للمبدع. وإنّ تطلعاته في تلك الفترة كان يبترها سيف مأساوي عزاءً، ومرارةً، إنه يقول لأصدقائه في تلك الرسائل: إنه يجتاز أقسى وأهمّ مرحلة من المراحل التي مرّت به في عمره".
كان لوركا بالفعل في ذلك الوقت يمرّ بمرحلة مخاض إبداعي حول موضوعات تتعلق بعدّة مجالات، انعكس ذلك في غير قليل من قصائده، حيث تفتّحت قريحته عن أعمال عاطفية دفينة، وكذا عن اكتشاف عوالم جديدة لشعره، فضلاً عن عادات، وتقاليد، وأناس، كلّ ذلك عمل بطبيعة الحال بشكل إيجابي على تغذية تجربة الشاعر وإثرائها. والذي يفاجئنا في هذه الرسائل هو جانبها الإنساني، ذلك أنّه يكتب فيها لأبويْه ولإخوته، ويقدّم فيها دروساً لأسلوب العذوبة والرقة كما يمكن أن نلمس حماسه نحو هؤلاء الذين يحبّهم والذين يخشون عليه هم بدورهم مغبّة مغامراته.
حنينُه إلى المنزلِ الأوّلِ!
كانت حقبة وجود الشاعر في نيويورك فترة ذهبية في حياته، كان لوركا يصف العالم الجديد بأنه عذب ومريح، كما يصف أصدقاءه الجدد ونجاحاته الأولى فيقول: "هذه الأيام أجدني منسجماً مع وسط نيويورك وهو وسَط مبتهج ويوحي بالترحاب". كانت حياته في جامعة كولومبيا في نيويورك تسحره، وعنها يقول في إحدى رسائله: "أنا الآن محاط بالعديد من الأصدقاء، بأناس يهتمّون بي، الذين حاولت قدر استطاعتي أن أكون لطيفاً معهم، ولست في حاجة إلى القول إن رضاهم يحيك هالة حولي".
كان لوركا يشعر بحنين مفرط إلى بلده إسبانيا، وبشكل أكثر إلحاحاً إلى مسقط رأسه في "الأندلس" التي يحملها دائماً معه حيثما كان، يدفع به ذلك إلى إجراء مقارنات شعرية رائعة في هذا القبيل، "يا لها من روعة تلك الأغاني"، يقصد أغاني السّود التي يقارنها بالغناء الإسباني الأصيل. ولا تحيد ذكرى الأندلس عن ذاكرته: "تلك الأندلس، أندلس البحر يا لرقتها، يا لروعتها هنا يعرف المرء أهمية جمال إسبانيا". ونجد في هذه الرسائل لوركا الشاعر المُعبّر، المتواصل، المتحمس كما نجد طريقة حياته المرنة، وعمقه وانشغاله الإنساني الكبير. كلّ ذلك كان يمهد لإقلاع سفينة إبداعاته بظهور إحدى أعظم قصائده التي عرفها شعره فيما بعد، وهي "شاعر في نيويورك".
شاعر في أمريكا خير من أمير في أوروبّا!
الرّسالة رقم 4 من هذه الرسائل كتبت من العاصمة الكوبية لا هافانا في 5 أبريل 1930، وفيها يقول لوركا: "في حالة ضياعي لا تبحثوا عنّي سوى في الأندلس أو في كوبا" التي كانت إقامته بها طيبة ومريحة، كما يصف في رسالته لقاءاته مع غير قليل من الشخصيات المهمّة التي كانت موجودة في كوبا في ذلك الوقت، مثل المشتغل بالدراسات الإسبانية خوسّيه ماريا شاكون، الذي يُعدّ من أبرز الشخصيات التي كان لها تأثير على لوركا وقد جمعته به صداقة متينة. وهكذا يُفصح الشاعر عن بعض الجزئيات التي لا تلبث أن تصبح اتجاهاً مُميّزاً في شعره، كما ستغدو معالم واضحة في شخصيته: "لا تنسوا أن يكون المرء شاعراً في أمريكا خير من أن يكون أميراً في أوروبّا"!.
واتضح لنا الوجه الآخر لهذه الرسائل عندما ألقى الشاعر محاضرة عن "شاعر في نيويورك" إذ يقول: "لا يمكن لأحد أن يكوّن لنفسه فكرة عن العزلة التي يشعر بها الإسباني هناك وهذه الغربة تزداد وتتضاعف حدّتها إذا كان الإنسان من الجنوب (من الأندلس)، ففي حالة وقوعك فإنك تُداس، وفي حالة انزلاقك في الماء فإنهم يرمونك بالأوراق المُستعملة"، هل يناقض الشّاعر نفسَه أم تعيش في داخله شخصيتان متناقضتان لشخصية واحدة؟
إنّ لوركا يعيش "دائما ما يعيش" وتتجلّى أحاسيسه العميقة في آلامه، ومعاناته، وازدواجيته. وتعتبر هذه الوثائق والمراسلات من الأهميّة بمكان بالنسبة للشاعر ولعمله وإبداعاته، خاصّة وأنها تُنشر خلافاً لرغبته، وهي تفصح بجلاء عن المراحل التي تدرّجَ فيها في تحصيل معارفه، وصقل مواهبه وتجاربه في هذه الحقبة من حياته.
مركبة الشِّعر الخالص
عندما ظهرت هذه المجموعة من وثائق ورسائل الشاعر لوركا، اعتبر ذلك حدثاً أدبياً كبيراً، ولقد تمّ العثور عليها في منزل المحامي "فسنتي لوبيث غارسيا" الذي كان متزوّجاً من ابنة عمّ لوركا "كارمن غارسيا لوركا"، وهي تتألف من 78 رسالة وُجِّهت من طرفه إلى أبويْه، وتلقي الضوء بشكل جليّ على ظروف مهمّة في حياة الشاعر تتعلق بفترة المراهقة والشباب عنده.
يشير الناقد الإسباني ميغيل بوسادا إلى أن مراسلات لوركا تُعدّ من أغنى المراسلات في الأدب الإسباني الحديث؛ إذ يحرّكه دوماً فيها همّه الدائم في البحث عن الحقيقة بواسطة التعبير الأدبي. هذه الرسائل تسمو فوق بؤس الحياة اليومية لتحلق في الفضاء اللاّنهائي المفتوح للخلق والإبداع، وهذا ما يفسّر وجود العديد من الأشعار والرسومات في بعضها، فضلاً عن إشارات الشاعر الدائمة إلى مغامراته الإبداعية. إن المتحدّث دائما فيها هو الشاعر الذي جعل من الشّعر مادة أساسية لحياته، لذا فإنه عندما يتوجّه بالكتابة إلى أقرب الناس إليه أو إلى الذين يحبّونه، فإنّ كتاباته على الرّغم من ذلك لا تخلو من الإشارة إلى الشعر ومعاناته.
تؤكّد هذه الرسائل لنا ما كنّا نعرفه عن لوركا، ففيها يمكننا أن نتأمّله شاباً مراهقاً وهو يلامس المأساة الإنسانية للوجود، والذي ينشر ويشعر بالزّهو والفخار من مقالاته الأولى التي يدافع فيها عن توجّهاته الأدبية إزاء الاختيارات التي كان يريدها له والده، كان لوركا يكافح وينافح ويصارع من أجل امتطاء مركبة "الشاعر الخالص النقي" الذي كان يفعل كلّ ما في وسعه من أجل إيصال شعره إلى الجمهور.
يا أبتي لا يُمكنك تغييري بعد اليوم!
يقول لوركا في رسالة مخطوطة وجّهها إلى والده من دار إقامة الطلبة بمدريد في ربيع 1920:
والدي العزيز
لقد وصلتني رسالة منك ذات لهجة رصينة وجادّة، وباللهجة نفسها أجبتك الآن كذلك أن بي شوقاً كبيراً إليكم، أنا أكثر منكم، لأنكم هناك مجتمعون، وأنا هنا بمفردي، ولكن عندما تفرض الظروف نفسها على المرء فلا مردّ لها، إنني لن أتحمّل مشقّة هذا الذهاب والإياب لأنّ ذلك يضرّ بي كثيراً، وينبغي لي أن أختار موقفاً قوياً للعمل، فهذه اللحظات مهمّة جدّاً بالنسبة لي، إنني أعرف جيّداً فيم تفكر (مع الأسف) إلاّ أنني أقول لك وأعدك بكل وقار- وأنا الذي أحبك كثيراً، إنه عندما ينطلق رجل في طريقه فلا الذئاب ولا الكلاب بمقدورها أن تثنيه أو تحيده عنه، ولحسن الحظ أن لي سهماً يشبه سهم "دون كيشوت"، إنني في طريقي يا والدي، وأرجو أن لا تجعلني أرجع بنظري إلى الوراء، إنني أعرف أنكم تحبونني كثيراً، وأنتم لا تريدون لي سوى نفس العُملة إذ أنا أحبكم كذلك أكثر، أعلم أنكم تتمنّون أن أكون إلى جانبكم إلاّ أن ذلك أمراً تفرضه الظروف، ماذا سأفعل أنا الآن في غرناطة؟ أن أستمع إلى الخزعبلات، والترهات، والأحقاد، والدناءات (هذا بطبيعة الحال لا يحدث سوى للرّجال الذين يتوفرون على موهبة)، وهذا أمر لا يهمّني في شيء لأنني أعلى من هذا كله، إلاّ أنه في آخر المطاف شيء مزعج، مزعج حقاً، إذ الحمقى لا تناقشهم في شيء، في مدريد هنا أناس محترمون، وأنا أخرج للتنزه وسوف أعلمكم بالخبر الكبير عندما أخرج على الناس بأشياء جديدة، وهكذا حتى يصبح لي اسم أدبي كبير، النجاح السّريع في كل شيء على آخر الخط قد يكون مضرّاً بالنسبة للفنان، هذا شيء.
ومن جهة أخرى، فأنا بصدد إعداد بعض كتبي، فأنا أمشي على أرجل من رصاص حتى أمخض كتاباً رائعاً، هنا أكتب، وأعمل وأقرأ، وأدرس، وهنا جوّ أدبيّ ممتاز، إنني أكاد لا أبرح المنزل إلاّ لماماً، والأصدقاء وهم كثيرون يأتون لزيارتي، إنني لا أغادر المنزل سوى للذهاب إلى "غريغوريو مارتين سيرّا" أو قسم تحرير جريدة "إسبانيا" مع جماعة من المثقفين المميّزين الشبان، إلاّ أن أهمّ شيء يمنعني من السّفر ليست كتبي بل لأنني أوجد في منزل للطلبة وهو ليس فندقاً، والالتحاق بهذه الإقامة ليس أمراً هيّناً، بل يعود السبب إلى مميّزاتي وخصالي الشخصية وصداقاتي، إذ أمكنني الالتحاق بها سريعاً، وظفرت بالمكان قبل عشرة كانوا ينتظرون قبلي، لأنني وصلت بيدين نقيتين، إنه شيء صعب أن أقول لهم في وسط العام الدراسي إنني سأغادر، لهذا السبب أرجو أكثر من أي شيء آخر أن تتركني هنا، إنني يا والدي العزيز رجل مُستقيم وجِدّي، هل أزعجتك يوماً؟ ألم أكن مطيعاً لك باستمرار؟ إنني أتصرّف هنا كما ينبغي لي التصرّف، أحسن ممّا كنت أتصرّف في منزلي، ذلك إنني هنا يجب أن أتّبع نظاماً جدياً، لقد سبّبتْ لي رسالتك الأخيرة انزعاجا وقلقاً، أشعر بشوق كبير لرؤيتكم، تقول لي إذا شئت أن أعود لفعلت ذلك، إلاّ أنني أؤكد لك أنك سوف تندم من ناحيتي، إنني أطيعك لأن ذلك واجبي، إلاّ أنك تكون بذلك قد سددت لي ضربة موتٍ قاضية، لأنك عندئذ سوف تملأني بالحزن، والكدر، والجزع، إنك سوف تسلبني الحماسة التي تغمرني الآن.
أرجوك والدي أن تتركني هنا حتى نهاية العام الدراسي وعندئذٍ سوف أعود إليكم صحبة كتبي منشورة، وبضمير مرتاح أكون قد كسّرتُ سيوفاً من جراء صراعي ضدّ المارقين دفاعاً وحماية وصوناً للفنّ الخالص، الفنّ الحقيقي.
إنه ليس بمقدوركم تغييري الآن، فقد خُلقتُ شاعراً وفناناً مثل الذي يُولد أعرج، أو أعمى، أو وسيماً، اتركوا جناحيَّ في مكانهما، وأنا أضمن لكم أنني سأطير جيّداً هكذا، هذه هي الحقيقة يا والدي فلا داعي لإلحاحك على عودتي، لأن ذلك يملأني بالمرارة والألم.
لقد أعطيتك تبريراتي، ولئن كنت ثقيلاً فقل لي ذلك، فأنا أعرف عندئذٍ الإجابة كرجل أنه إذا كان للرجل ذكاء وفطنة فلا يصعب عليه كسب النقود، إنني أفكر هكذا، وأعتقد أنه معي الحقّ أن الحياة والعالم ينبغي أن يُنظر إليهما بعيون صافية ملأى بالتفاؤل، وأنا يا والدي متفائل وأشعر بسعادة غامرة.
أرجو أن تجيبني كما أجبتك أنا، ولآخر مرّة أتوسّل إليك من قلبي أن تقرأ جيّداً هذه الرسالة وأن تراجع معانيها جيّداً، فكّر أنني لست مجرّد "شيء" أو "بضاعة" هي ملك لك وعزيزة عليك. فكّر أن لي حياة خاصّة بي وأنّ الذهاب والإياب يضرّان بي، إنه ينبغي لنا أن نكون جَسُورين جريئين كما ينبغي لنا أن لا نرضى بالوسط أو القليل فهذا شيء ممقوت، لا تسأل عن مثل هذه الأمور أصدقاءك المحامين والأطباء والبياطرة، هؤلاء الرّجال قليلو الهمّة الثقلاء، بل اسأل والدتي والأطفال، أظنّ أنه معي الحقّ وأنت تعلم أنني أحبك من كلّ قلبي.
ابنك فيدريكو"**
* عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم-بوغوطا-كولومبيا.
** جميع نصوص لوركا المُدرجة أعلاه من ترجمة صاحب المقال من الإسبانية .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.