في المغرب، جاءت محنة فيروس كورونا هبة ريح كاشفة لقيم كامنة في العمق الإنساني، ولمواهب خلاقة، ولروح جماعية تنبثق في الملمات. لقد أطلقت عنان سمات ثاوية في الإنسية المغربية تطفو على السطح كلما جرت المقادير بما يعكر صفو الأيام. في العمالات والأقاليم المصنفة ضمن "المنطقة 2" في مخطط تخفيف الحجر الصحي، كانت الدعابة والسخرية ملاذا لابتلاع الوصفة المرة وإن كانت ضرورية، التي لم تنفع في تسويغها لدى البعض حجج السلطات الصحية وخطاب رئيس الحكومة أمام البرلمان؛ ذلك لأن ثلاثة أشهر من العزل خلفت بلا شك ندوبا في النفس المعتادة على هواء الحرية. لحسن الحظ وجدت السخرية. ألا يقال بحق إنها فن وجود، حماية، منفذ هواء لامتصاص الضغط؟ أمام احتفاليات الساكنة السعيدة ب"المنطقة 1" التي عبرت عن بهجتها بقدر الضغط النفسي الذي تحملته أسابيع طويلة من الحجر المفروض إثر الأزمة الصحية العالمية، جاء الرد "العاصف" من "نزلاء المنطقة 2". التأمت الصفوف سريعا ثأرا للمزات نظرائهم المبتهجين: سخرية مباشرة أو ملفوفة في إيحاءات ذكية، سوداء أحيانا بطعم المرارة. هب لاعبو الفرق التي تنشط "بالدرجة الثانية" من الدوري "الكوروني" دفاعا عن نخوتهم أمام شماتة غيرهم. لم يقبلوا وصما بالفشل نتيجة تهاون منهم أو انتهاك لمقتضيات السلامة الصحية في الحجر الصحي. "الترتيب يظل مؤقتا. قد يتغير من أسبوع لآخر مع ظهور بؤرة جديدة في منطقة "المجتهدين"-لا قدر الله-. ثم إن عجلة الدنيا تدور والمصعد لا يتوقف صعودا ونزولا"، يقول المنزعجون في "المنطقة 2" من تندر المحظوظين في "المنطقة 1". يتواصل هذا التنابز الودي المحمود على الشبكات الاجتماعية وتطبيقات التراسل الفوري على مدار اليوم. فيديوهات ساخرة معدة خصيصا للموقف، مقاطع موضبة بحس فني لاذع. الإبداع ذهب بعيدا على ضفتي التقسيم الصحي الذي اعتمدته السلطات بين العمالات والأقاليم، ومن الواضح أن السجل الجماعي للسخرية المغربية قد اغتنى بشكل غير مسبوق تعبيرا عن هذا التقاطب الاضطراري بين القسم الأول والقسم الثاني من بطولة غير كروية. تجري الظاهرة أمام عيون المراقبين الذين يحترفون التأمل في سكنات المجتمع وحركاته، يحبذون طابعها التلقائي والحاذق. يرى أخصائي علم النفس الإدراكي اسماعيل العلوي أن السخرية تفرض نفسها بشكل اعتباطي لأنها تشكل آلية دفاع وخلاص في أوضاع الأزمة. ويقول ضمن تصريح صحافي إن "الدعابة في استخداماتها السليمة عامل إيجابي لتحسين الصحة النفسية والتكيف مع العالم الذي يحيط بنا". دراسات معمقة في علم النفس أبانت، حسب الأخصائي ذاته، أن إلقاء نظرة ساخرة على الحياة قد يمكن الفرد من مواجهة التوتر بشكل فعال من خلال أخذ مسافة صحية من الأوضاع الخانقة، ويمنحه شعورا بالتحكم في الأشياء. وأشار رئيس شعبة علم النفس في كلية الآداب ظهر المهراز بفاس إلى أن السخرية مصنفة لدى الجمعية الأمريكية لعلم النفس كواحدة من 31 آلية دفاعية. وتابع اسماعيل العلوي أن هذا السلوك الذي يعتبر مسلسلا سيكولوجيا تلقائيا يحمي الفرد من القلق وتمثل المخاطر وعوامل التوتر الداخلي أو الخارجي، وهو ينتمي الى مجموعة الآليات الدفاعية التي تشمل الاستباق والقدرة على اللجوء إلى الآخر والإيثار والتعبير عن الذات والتأمل الذاتي وغيرها. إنها إذن أمر جدي. في كتابه "كرونا والخطاب"، الصادر حديثا عن مؤسسة "مقاربات" بفاس، خصص الباحث في علم الاجتماع أحمد شراك فصلا كاملا للسخرية. يلاحظ شراك أنه "بعد دخول المغرب إلى فترة الحجر، تبدلت ملامح السخرية إلى تفكه إيجابي في أغلب الأحيان مع انفلاتات قليلة أو نشاز، تخرج عن المناخ العام لهذا الحجر أو هذه الإقامة الجبرية غير المنتظرة... لقد تناغم وتصادى هذا التفكه مع المناخ العام الإيجابي الذي تحالف فيه الشعب مع الدولة في إجراءاتها وترتيباتها في تدبير هذه الإقامة". وعلى كل حال، بغض النظر عن الاعتبارات السوسيولوجية، فإن ساكنة "المنطقة 2" قد اتخذت قرارها، وما عليها إلا أن تواصل تحمل الضربات "الرمزية" في انتظار أيام أفضل. عليها أساسا أن تواصل التمسك بروح السخرية والدعابة استشرافا لأفق أرحب.