أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    دراجي يهاجم "الكاف" بعد قراره الذي أنصف نهضة بركان    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    لا تيتي لا حب لملوك: اتحاد العاصمة دارو ريوسهم فالكابرانات وتقصاو حتى من كأس الجزائر    سانشيز: أفكر في إمكانية تقديم الاستقالة بعد الإعلان عن فتح تحقيق ضد زوجتي بتهمة استغلال النفوذ والفساد    مكافأة مليون سنتيم لمن يعثر عليه.. هذه معطيات جديدة عن حيوان غريب ظهر في غابة    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    هادي خبار زينة.. أسماء المدير مخرجة "كذب أبيض" فلجنة تحكيم مهرجان كان العالمي    قميصُ بركان    طقس الخميس.. أجواء حارة وقطرات مطرية بهذه المناطق    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    رئيس وزراء اسبانيا يفكر في الاستقالة بعد فتح تحقيق ضد زوجته في قضية فساد    اللجنة الجهوية للتنمية البشرية بالشمال تصادق على برنامج عمل يضم 394 مشروعا برسم سنة 2024    تسريب فيديوهات لتصفية حسابات بين بارونات بتطوان    النصب على حالمين بالهجرة يقود سيدتين الى سجن الحسيمة    الجزائر تتوصل رسميا بقرار خسارة مباراة بركان و"الكاف" يهدد بعقوبات إضافية    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    أخنوش مقدما الحصيلة المرحلية: إجراءات الحكومة هدفها مناعة الأسرة التي هي "النواة الصلبة لكل التدخلات"    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القُرآن بين "الفُصْحى" و"الفُسْحى"!
نشر في هسبريس يوم 02 - 12 - 2013

في معرض حواره مع "الأحداث المغربية"، تطرّق الأستاذ "عبد الله العروي" لما يُسمّى «العربيّة الفُصحى» فميّزها، في آن واحد، عن «لُغة القرآن» (بصفتها، في نظره، لُغة لا تُشبه أيّ لهجة عربيّة ولكونها مفهومة من الجميع من دون حاجة للمُعجَم) وعن «العربيّة المُعرَّبة» (التي تَركها، عَنْوةً، من دون تعيين ربما لأنه يقصد «العربية المبسطة الجارية على ألسنة العامّة»).
وفي السياق نفسه الذي جعل الأستاذ "إدريس الكنبوري" يكتب مقال «استدراك على الأستاذ العروي»، يأتي مقالي هذا ليُؤكد أنّ كلام "العروي" مردودٌ عليه. أجلْ، إنّ اعتراضه على «الدّارجة» يبدو موضوعيّا على الرّغم من أنّ المرء قد يجد صُعوبةً في مُوافَقته على الكيفيّة التي علّله بها من حيث إنّه كاد أن يَحصُر المُشكلة في الجانب التقنيّ والكُلْفة الزّمنيّة والانقطاع عن تُراث الأدب العربيّ. لكنّ ما يُثير الانتباه أكثر في حوار "العروي" إنّما هو الفقرات التي خصّصها للحديث عن «الفُصحى» مُقارِنا إيّاها ب«لُغة القُرآن».
يقول "العروي" (الأحداث المغربية، عدد 5134، الجزء الثالث من حواره، الجمعة 22 نونبر 2013): «[...]، أنا لا أتحدّث عن العربية الفصحى وإنما عن العربية المعربة. اللغة العربية الفصحى هي المكتوبة في كتاب واحد، لا يقرؤه الكثيرون ولا يستعمله أحد، وهذا الكتاب هو "مقامات الحريري". هذا الكتاب هو وحده يمثل اللغة الفصحى. القرآن ليس لغة فصحى لأن لغته في متناول الجميع، ولا يحتاج إلى القواميس والمعاجم لفهم لغته.».
وفي جواب عن سؤال: «قلتم إن القرآن نفسه ليس عربية فصحى، كيف؟!» يُضيف: «بدليل أن القرآن يتضمن كلمات كثيرة ليست عربية فصيحة. لن أدخل هنا في التفاصيل التي تحتاج إلى دراسة مستقلة عما نحن في غمار الخوض فيه، لكنني سأكتفي بالقول إن لغة القرآن تتضمن كلمات كثيرة ليست فصيحة، كلمات خاصة به. أريد في هذه النقطة بالذات الوقوف عند مسألة إعجاز القرآن، لأقول إن إعجازه يتحقق في كون لغته لا تشبه أي لغة عربية أخرى. هنا أشير بالمناسبة إلى كون ما أطلق عليه القدامى العربية الفصيحة، لا يعدو أن يكون لغة البدو التي لم تخالطها لغة الحضر أو المدينة، ولا أعتقد أن الفصيح له علاقة بالتمجيد، على العكس تماما، ففي القرن الثاني والثالث للهجرة صارت لغة البدو تعتبر لغة "الهمج". هذا الكلام ينافي كون رواة اللغة العربية وعلمائها كانوا [كذا: "علمائها" و"كون" و"كانوا"! أيْ «يُنافي أنّ رُواةَ اللغة العربية وعلماءَها كانوا...»] يقطعون الفيافي والأراضي القفار ليتصلوا بالبدو ويسمعوا [كذا: أيْ "يسمعون"] منهم مباشرة ودون وسائط، العربية الحقيقية والنقية من فساد عربية سكان المدن التي أصابها النحل [كذا: أيْ "اللَّحْن"] أو آفة التطور والاستعمال اليومي، وأظن أننا لم نبتعد عن موضوعنا لأن ذلك [اللّحْن] هو أصل العربية الأخرى التي صارت دارجة أو عامية مقارنة بالعربية الفصحى. [...]».
يستطيعُ قارئُ هذا الكلام أن يُدْرك أنّ الموضوع يَتعلّق ب«لُغة القُرآن» التي وُصفت بأنّها «لُغةٌ غير فُصحى» وبأنّها «لا تُشبه أيّ لُغة من لُغات العرب». ومُستنَد هذا القول، عند "العروي"، أنّ «لُغة القُرآن» فيها كثير من الكلمات غير الفصيحة التي تُعدّ – حسب ظنّه- «خاصّة بالقُرآن» وأنّها لُغة لا يَحتاج فهمُها – في ظنّه دائما- إلى المُعجَم.
وينبغي أن يكون بيِّنا أنّ كلام "العروي" هذا، إذَا أُخذ على ظاهره، يُمكن أن تترتّب عليه نتيجتان خطيرتان: أُولاهما أنّ اللّه تعالى أرسل رسوله بكتاب في غير لُغة قومه (وهو ما يُخالف قوله سبحانه: «وما أرسلنا من رسول إلّا بلسان قومه ليُبيِّن لهم!» [إبراهيم: 4]) ؛ وثانيهما أنّ نفي "الفصاحة" عن «لُغة القُرآن» يَجعلُها لُغةً مُبتذَلةً تستجيب فقط لفهم بادئ الرأي أو يجعل "الفصاحة" - بالأحرى- عَيْبًا يُؤدِّي حتما إلى إهمال الكلام المُتّصف بها (كما هو الحال في كتاب «مَقامات الحريري» الذي لا يَقرأُه أحدٌ كما زعم "العروي")!
وأشدّ من ذلك، فإنّ قولَه بأنّ فهم «لُغة القُرآن» لا يحتاج إلى مُعجَم يُعَدّ قولا بيِّنَ السُّخْف، إذْ من الثّابت أنّ في "القُرآن" من الألفاظ الغريبة والآيات المُتشابهة ما لا يخفى إلّا على دَعِيٍّ أو مُكابر.
وكونُه كذلك هو السبب في نشأة مَباحث «الغريب في القُرآن» («مجاز القُرآن» لأبي عبيدة، «تفسير غريب القُرآن» لابن قتيبة، «غريب القُرآن» أبي بكر السجستاني، «المُفردات في غريب القُرآن» للرّاغب الإصفهانيّ، «فوائد في مُشكل القُرآن» للعزّ ابن عبد السلام، «تُحفة الأَريب بما في القُرآن من الغريب» لأبي حيّان) ومَباحث «التّفسير والتّأويل» (هناك أكثر من مئة تفسير في العربيّة وحدها!). وإذَا كان قد غاب معنى «أبًّا» («[...] وفاكهة وأبًّا»[عَبَس: 31]) عن أمثال "عُمر بن الخطّاب"، فكيف لا تَغيب مَعاني ألفاظ ك«مُهْطِعين» و«قَسْورة» و«قُرُوء» و«جِبْتٌ» و«إلٌّ» و«باخِعٌ» و«تَبَّتْ» عن كثير من العامّة وحتّى عن بعض الخاصّة؟! أليست هُناك ألفاظ في "القُرآن» افترقت آراءُ اللُّغويِّين والمُفسِّرين في تعيين معناها حتّى قاربت العشرين (مثلا كلمة "حُور")؟!
كما أنّ قول "العروي" بأنّ «مَقامات الحريري» كتابٌ لا يَقرأُه أحدٌ قولٌ مُبْهَمٌ يَحتمل معاني شتّى: منها أنّه كتابٌ لم يَقرأْه أحدٌ قطّ، وهو معنى باطل لأنّ الكتاب قد قرأه وشرحه كثيرون (مثلا شرح "العُكْبري" وشرح "الشريشي" وشرح "الرّازي" وشرح "الواسطيّ" وشرح "المُطرّزيّ") ؛ ومنها أنّه كتابٌ لا يستطيع أحدٌ قراءته رغم كونه من "الفُصحى" كأن هذه تَتأبّى بطبيعتها على الاستعمال ؛ ومنها أنّه لم يَعُدْ يقرأه أحدٌ لأنّه بدون فائدة ؛ ومنها أنّه الكتاب الوحيد في "الفُصحى"، وهو ما يُفيد لا فقط تحكُّم صاحبنا، بل تجنّيه على مئات الكُتب الشّبيهة به أو القريبة منه على الأقل. وكل واحد من هذه المعاني يَتضمّن شناعةً، ممّا يجعل قول "العروي" لا يقبل الردّ إلّا إلى معنى أنّ صاحبَه هو وحده المَعْنيّ به كأنّه لم يَجرُؤْ على أن يقول صراحةً: «لا وُجود لشيء اسمه "فُصحى"، لأنّني لم أقرأْ أيَّ كتاب فيها»!
ولو أنّ المرءَ رامَ بيانَ بُطلان قول "العروي" بعدم مَقْروئيّة كتاب «مَقامات الحريري»، لَمَا وجد خَيْرًا من صدر الكتاب حيث يقول المُؤلِّف: «اللّهُمّ إنّا نحمدُك على ما علّمتَ من البيان وألْهمتَ من التِّبْيان، كما نحمدُك على ما أسبغتَ من العطاء وأسْبَلتَ من الغطاء. ونَعُوذ بك من شِرّةِ اللَّسَن وفُضول الهَذَر، كما نَعُوذ بك مَعَرّة اللَّكَن وفُضُوح الحَصَر. ونستكفي بك الافتتانَ بإطراء المادح وإغضاء المُسامح ؛ كما نستكفي بك الانتصابَ لإزراء القادح وهَتْك الفاضح.». فأيُّ شيء في هذا الكلام يَمنع من قراءته والاستفادة منه استئناسا وتمرُّنا؟!
ولعلّه يَكفي أن تَترتّب على كلام "العروي" مثل هذه الشّناعات لِتَجبَ مُراجعتُه تمحيصا ونقدا، وإلّا فإنّها هَنَاتٌ تُشير إلى تهافُته من الأساس ككلام أُرسل إرسالا بلا سند ودون قيْدٍ. وإجمالا، فمَناطُ الاعتراض على دعوى "العروي" حول "الفُصحى" يَهُمّ أَمريْن: أوّلُهما عدم تحديده لمعنى صفة "فُصحى"، وثانيهما إرسالُه القول بلا دليل. وبالتّالي، فإنّ من يقول بأن "القُرآن" ليس «لُغةً فُصحى» يُطالَب، ابتداءً، ببيان ما يَقصده بعبارة «لُغة فُصحى» وبتحديد مَعايير دقيقة تُمكِّن من تمييزها عن غيرها ؛ كما أنّ نفي أن يكون "القُرآن" كلاما ب«لُغة فُصحى» لا يَستقيم بدون دليل بيِّن، ليس هو – بالتأكيد- ٱدِّعاء وُجود كلمات غير فصيحة في "القُرآن" ولا القول بأنّ هذه اللُّغة موجودةٌ فقط في كتاب آخر («مَقامات الحريري»)!
إنّه من المُتعارَف بين النّاس أنّ "الفَصاحة" مَزيّةٌ في الكلام (كما في الآية: «وأخِي هارون هو أفصحُ منّي لسانا، [...]» [القَصص: 34] ؛ و"أَفْصحُ" هُنا صفةُ تفضيل للمُبالَغة مُؤنَّثُها "فُصحى"!). فكُلّ كلامٍ كان أشدّ بيانًا وأقوى إفادةً يُنعَتُ ب"الفصيح"، وإذَا زاد عن غيره يكون "أَفْصَح". لكنّ الخلاف قائمٌ منذ القدم حول مَكامن "الفَصاحة" وخواصّها ودَرجاتها: أهي في اللِّسان كطَبْع أمْ في الألفاظ المُفردة أمْ في نَظْم المَعاني بتأليف الكَلِم وَفْق مُقتضيات النّحو؟! والأرجح أنّها تدل على كفاءة الكلام كإجادةٍ للتّأْليف تبليغا وتدْليلا وتوجيها، بحيث إنّها تُنافي كل عُيوب الكلام وآفاته من عِيٍّ وتكلُّف وتقعُّر ولَحْن وحَشْو وإسهاب. وبهذا، ف"الفصاحة" تعني القُدرة على إتيان القول بما يُناسب حالَ المُخاطَب بلا زيادة ولا نُقصان. يقول "عبد القاهر الجُرجاني": «إنّ الفصاحة وصفٌ يجب للكلام من أجل مَزيّة تكون في معناه، وأنّها لا تكون وصفا له من حيث اللّفظ مجردا عن المعنى.»[1].
ومن ثَمّ، فمعنى "الفُصحى" هو أنّها صفةٌ للُّغة العربيّة في صيرورتها لُغةً مُشترَكةً بين القبائل العربيّة التي كانت تختلف - بهذا القدر أو ذاك- في مَناحي الكلام. وهذه الصيرورةُ تمّت بفعل الاشتراك في اللّغة من شدّة الاحتكاك في الأسواق والمَواسم الكبرى التي كان الحجّ على رأسها والتي أتى الإسلام فعزّزها بنصّ "القُرآن" الذي كان حافزا لتدْوين المُتون واستنباط قواعد النّحو وأُصول الفهم. ف«العربيّة المُشترَكة» صارت "فُصحى" بمعنى أنّها لُغةٌ تغلّبتْ وهَيْمنتْ على مُختلف اللّهجات القَبَليّة والجهويّة بالشكل الذي جعلها تَفْرض نفسَها على ألسنةِ المُتكلِّمين، خصوصا بعض عصر التّدْوين.
وبما أنّ كل لُغَةٍ لا تتحدّد في طبيعتها الخاصّة إلّا بناءً على الكيفيّة التي تُوصَّف بها بنياتُ اشتغالها صوتيّا/صرفيّا وتركيبيّا ودلاليّا/مُعجميّا، فإنّ ما يُسمى «العربيّة الفُصحى» يُمثِّل نسقا لُغويّا تَحكُمه جملةٌ من القواعد المُحدِّدة للكلام وَفْق النّحو الخاص بأُمّة العرب كأُمّة ذات لسان جامع ومُتميِّز. ونجد، بهذا الصّدَد، أنّ «اللِّسان العربيّ» يَتّسم بثلاث خصائص أساسيّة: أنّه لسانٌ "إعرابيٌّ" تَتْبَع فيه أواخرُ الكَلِم نوعَ "العامل" ورُتْبتَه ؛ وأنّه لسانٌ "اشتقاقيّ" تَرجع فيه الكلمات إلى أُصول معلومة (جُذور) ؛ وأنّه لسانٌ "معياريٌّ" يَغْلب فيه "القياس" على "السّماع" (يُقال «ما قِيس على كلام العرب، فهو من كلامهم»).
وإذَا كان ليس هُناك لسان "أصيل" في مجموع ألفاظه كأنّه خِلْوٌ تماما من كل "دَخيل"، فإنّ الحُكم بعدم أصالة ألفاظٍ مُعيَّنة في "العربيّة" لا يَأتّى بمجرد التوهُّم أو التّحكُّم كما هي عادة هُواة التّضْليل. ذلك بأنّ ثمّة أمرَيْن يَغيبان عن كثير من المُتقوِّلين في هذا المجال: أوّلُهما طبيعة بنية النَّظْم في «اللِّسان العربيّ» ؛ وتجذُّر هذا اللِّسان في المجموعة اللُّغويّة المُسمّاة ب«الألسن الساميّة» (أو، أحسن، «الألسن الآسيويّة-الأفريقيّة»). فأمّا بنية النَّظْم الصوتيّ/الصّرْفيّ في «اللِّسان العربيّ»، فقائمةٌ على ثلاثة أُسس: أوّلُها "التّقْليب" الثُّلاثيّ بين الأصوات/الحُروف (مثلا: [بحر/برح]، [حرب/حِبْر]، [ربْح/رحب])، وثانيها غَلَبة "الجِذْر" الثُّلاثيّ والثُّنائيّ على غيرهما (من الرُّباعيّ والخُماسيّ والسُّداسيّ)، وثالثها وُجود «أوزان/صِيَغ» اشتقاقيّة ([فِعْل]، [فَعْل]، [فُعْل]، [فَعِل]، [فَعْلة]، [فِعْلة]، [فُعْلة]، [فِعَلَة]، [فَعَلةٌ]، [فُعَلةٌ]، إلخ.). وأمّا تجذُّر «اللِّسان العربيّ» في مجموعةِ «الألْسُن الآسيويّة-الأفريقيّة»، فيَجعلُه مُشتركا معها في رصيدٍ لُغويّ يُثْبِت عَراقتَه وتميُّزَه (مثلا: ["لِشانُوم" الأكاديّة و"لسان" العربيّة]، ["كَلْبُوم" الأكادية و"كَلْب" العربيّة]).
ومن أجل ذلك، فإنّ الحُكم على لفظٍ ما بأنّه "دَخيلٌ" في العربيّة لا يكون كيفما ٱتّفق ولمجرد قُرْبه الصوتيّ/الصَّرْفيّ من أيِّ لفظٍ في لسان آخر، بل لا بُدّ من مُراعاة مُقتضيات النّظْم الصوتيّ/الصرفيّ في «اللِّسان العربيّ». لكنّ ما يَنبغي الانتباه إليه هو أنّ المَيْل الشّائع إلى تأكيد وُجود "الدّخيل" في العربيّة يَأْتي (ويُؤْتى)، بالأساس، في إطار فحص «لُغة القُرآن» بهدفِ إثباتِ أنّه ليس كتابا أُنْزل «بِلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ» وأنّه ليس كتابا مُحْكَمَ البيان بما يَفُوق قُدُرات أيِّ ناطق من البَشر. ومُستنَدُ هذا الِاعتراض ما يُزْعم من أنّ «لُغة القُرآن» إنّما هي لُغةٌ طبيعيّةٌ وعاديّةٌ فيها كلُّ آثار النّقْص التي تَعتري الفعل الإنسانيّ بما هو فعلٌ مشروطٌ 0جتماعيّا وتاريخيّا.
ويَحْرِص "الجاحدون"، من جرّاء ذلك، على تأكيد أنّ «لُغة القُرآن» ليست لُغةً عربيّةً أصيلةً وخالصةً، بل هي لُغةٌ فيها عشراتُ الألفاظ من «الدّخيل» (طبعا، هي بِضْع عشرات من بين آلاف الكلمات!) ؛ ثُمّ إنّهم ليَزْعُمون أنّ فيها جُملةً من الصِّيَغ والتّراكيب التي لا تَستقيم - في ظنِّهم- وَفْق سَنَن العرب في الكلام ولا يَقْبلها منطق «اللِّسان العربيّ» نفسه (كأنّ "اللُّغة"، في واقع البَشر، تُسَوّى بالوضع العقليّ من دون أدنى شُذوذ!).
وإنّنا لنجد في «القُرآن» أكثر من آيةٍ تُؤكِّد أنّ «القُرآن» في مجموعه قد أُنزل «بِلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ» («ولقد نَعْلمُ أنّهم يقولون: "إنّما يُعلِّمه بَشرٌ"، لسانُ الذين يُلْحدون إليه أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مُبينٌ!؟» [النّحْل: 103] ؛ «وإنّه لتنزيلُ ربِّ العالَمين. نَزل به الرُّوح الأمين ؛ على قلبك لتَكُون من المُنْذِرين ؛ بِلسان عربيٍّ مُبينٍ.» [الشعراء: 192-195] ؛ «وكذلك أوحينا إليك قُرآنًا عربيًّا لتُنْذر أُمَّ القُرى ومَن حولها [...].» [الشُّورى: 07] ؛ «قُرآنًا عربيًّا غيرَ ذِي عِوَجٍ، لعلّهم يَتّقون!» [الزُّمَر: 27] ؛ «إنّا أنزلناه قُرآنًا عربيًّا، لعلّكم تعقلون!» [يوسف: 02]) ؛ بل فيه آيَةٌ حاسمةٌ في 0ستنكارها لذلك الظّنّ السخيف («ولو جعلناه قُرآنًا أعجميًّا، لقالُوا: «لولا فُصِّلتْ آياتُه!"، أَأَعْجميٌّ وعربيٌّ؟! [...]» [فُصِّلَتْ: 44]). وعلى الرغم من كل هذا، فإنّ "الجاحدين" لا يَفتأون يَدَّعون أنّ ثَمّةَ ألفاظا أعْجميّةً في «القُرآن» (من اللَّافِت بَلاغيًّا أنّ آية سُورة «النَّحْل»، المذكورة في بداية هذه الفقرة، وَرد فيها تعبير «ولقد نَعْلم أنّهم يَقولُون»: فِعْلَانِ في الزّمن الحاضر مُؤكَّدان بأداة التّحقيق «لقد» لإفادة أنّ قول "الجاحدين"، بهذا الصدد، سيَظلّ مُستمرًّا!).
ويَتناول مَبْحثُ «الغريب في القُرآن» مَسألةَ تلك الألفاظ "المُشْكِلة". ومن المعلوم أنّ بعض الصحابة أنفسهم كانوا يجدون صعوبةً في تحديد معنى بعض الألفاظ. ولعلّ أشهر مثال هو ما يُروى عن «عُمر بن الخطاب» (رضي الله عنه) لمّا تساءل عن معنى «أبًّا» («وفاكهة وأبًّا.» [عبس: 31]، و"الأبُّ" هو "العُشْب"). ويُعَدّ «عبد الله بن عباس» (رضي الله عنه) أشهر من تكلّم على «الغريب في القُرآن»، وأُثر عنه قولُه بأنّ في "القُرآن" ألفاظا أُخذت من ألسن أُخرى (الحبشيّة، الرُوميّة، الفارسيّة، النّبَطيّة). لكنّ أكثر عُلماء المُسلمين (وعلى رأسهم الإمام "الشّافعيّ") يُؤكِّدون أنّ "القُرآن" ليس فيه من «الدّخيل» شيء[2]. ولا شكّ أنّ ترجيحات القائلين بوُجود "المُعرَّب" في "القُرآن" تَصبُّ في 0تِّجاه الاعتراض اللُّغويّ على الرّغم من ضُروب التّخريج التي أَتَوْا بها لتعليل ذلك.
ويُعَدّ البريطاني «ألفونس مِنْغانا» (1878-1937) من أوائل المُستشرقين الذين 0هتمُّوا بتناوُل تلك المسألة[3]. كما أنّ المُستعرِب الأُستراليّ «آرثر جفري» (1892-1959) تناول الموضوع في كتابه «المُفردات الدّخيلة في القرآن»[4] حيث سعى إلى بَيان أنّ هُناك ألفاظا في "القُرآن" من إحدى عشرة لُغة (الحبشيّة، الفارسيّة، الرُّوميّة، الهنديّة، السُّريانيّة، العبرانيّة، النّبطيّة، القبطيّة، التركيّة، الزّنجيّة، البربريّة). ويُمكن 0عتبار عمل «مارتين ر. زاميت» المُعنون ب«دراسة مُعجميّة مُقارنة في عربيّة القُرآن»[5] أحد أهمّ الأعمال في هذا المجال. ويُعَدّ المُسمّى «كريستوف لُوكسنبرغ» أحد آخر الذين ذهبوا بعيدا في بحث تلك المسألة في كتابه «التّأْويل السُّريانيّ-الآراميّ للقُرآن: مُساهَمة في حلِّ عَقْد لُغةِ القُرآن» (2000، 2007)[6].
ونجد «لُوكسنبرغ» هذا يَزعُم أنّ «الغريب» في "القُرآن" لا يُفَكّ لُغزُه إلا بإرجاعه إلى التّأْثير «السُّريانيّ-الآراميّ» في اللِّسان العربيّ، وبالتالي فإنّ معنى كثير من الألفاظ (والآيات) لا يُمكن - في ظنِّه- تأويلُها إلّا بالرجوع إلى مَعانيها في "السُّريانيّة" و"الآراميّة". لكنّ هذه المُحاولة مَردودةٌ لثلاثةٍ أسباب أساسيّة: أوّلُها أنّها تُغْفِل أنّ «اللِّسان العربيّ» لسانٌ قائمٌ بنفسه وأنّه تمّ به القول شِعْرًا حتّى قبل نُزول "القُرآن" ؛ وثانيها أنّ 0نتماء "العربيّة"، مع "السُّريانيّة" و"الآراميّة"، إلى نفس المجموعة اللُّغويّة لا يُجيز القول بأنّها هي الآخذة عنهما إلّا بدليل بيِّن وقاطع، وإلّا فإنّ كونَها جميعا لُغاتٍ تشترك في أصل واحد هو السّبب في وُجود ألفاظ مُتشابهة بينها ؛ وثالثها أنّ دلالة الألفاظ ليست ثابتةً حتّى تقبل أن تُؤوَّل بإرجاعها فقط إلى أُصولها البعيدة. وفضلا عن هذا، فإنّ التّأْويل «السُّريانيّ-الآراميّ»، كما ذهب إليه "لُوكسنبرغ"، يقود إلى مُفارَقة كُبرى يكون فيها أصحابُ «اللِّسان العربيّ» قد 0ستعملوا لُغةً وهُم عاجزون عن فَهْمها والتّفاهُم بها لجهلهم بكونها لا تُفهم إلّا في تبعيّتها للُّغتين "السُّرْيانيّة" و"الآراميّة"! ولهذا، فإنّ بعض الباحثين الأوروبيِّين لم يَتردّدوا عن تأكيد أنّ تلك المُحاوَلة تفتقد ما يَكفي من الأدلّة[7]، بل إنّها مجرد مُبالَغة[8]، وتبقى - رغم نتائجها الجُزْئيّة- مشكوكا فيها[9].
ولقد قام البحّاثة "علي فهمي خشيم" - رحمه الله- بتناوُل تلك المسألة في كتابه «هل في القُرآن أعجميّ: نظرة جديدة إلى موضوع قديم»[10]، حيث فَحص كل الألفاظ (أكثر من ثمانين) التي 0عْتِيد أن يُقال بأنّها "دخيلة" في «لسان العرب»، ثُمّ 0نتهى إلى تأكيد أنّها لا تَخرُج عن نسق «اللِّسان العربيّ» بصفته أحد ألسُن «المجموعة العُروبيّة» (التي تُسمّى، عادةً، ب"الساميّة"). ولهذا، فإنّ كل لفظ في "القُرآن" لا يَصحّ إطلاقا أن يُقال عنه إنّه "دخيل" ما دام عربيًّا في صيغته الصرفيّة وله أصلٌ بعيد، بالخصوص، في "الأكاديّة" و"المصرية القديمة" اللّتين تُعدّان من أقدم الألسن في «المجموعة العُروبيّة».
يَنبغي، إذًا، تأكيدُ أنّ الغرض من ذلك الاعتراض لا يَتمثّل فقط في التّشكيك في عُروبة «لُغة القُرآن»، بل يَرمي إلى إثبات أنّها لُغةٌ تَدين بالكثير للُّغات الأخرى: كأنّ العرب ليس من حقِّهم أن يَتفرَّدوا بشيء يَخُصّهم حتّى في لُغتهم! ولا يَصعُب أن يُتبيّن أنّ أصحاب هذا الاعتراض يشتركون مع الذين 0ستكثروا على الله تعالى أن يَبعث في "الأُميِّين" نبيّا رسولا منهم! وحتّى لو صدّقناهم في وُجود بعض الألفاظ "الدّخيلة" في لُغة "القُرآن"، فلن يَكون هذا مَطْعَنًا في أصالتها بما هي لُغة. ذلك بأنّ كل الألسن فيها عشرات أو مئات الألفاظ "الدّخيلة" (هل يَصِحّ، مثلا، التّشكيك في أصالة "الفارسيّة" أو "الإسبانيّة" لكونهما لسانَيْن يَتضمّنان مئات الألفاظ العربيّة؟!). وبالتالي، فإنّ ما يُثْبِت الإعجاز اللُّغويّ في "القُرآن" إنّما هو «النَّظْم الفريد» الذي لم يُستعمَل فيه من «لُغات العرب» كُلِّها سوى أقلّ نسبة (5٪ من «لسان العرب» لابن منظور[11]، و15٪ من «تاج العروس» للزَّبيديّ[12])، بل إنّ الإعجاز ثابتٌ أيضا في كون «لُغة القُرآن» هي التي فَرضت نفسها بعد ذلك بصفتها تُمثِّل «اللِّسان المُبين» (أو «العربيّة الفُصحى»)، حيث إنّ ثلاثة أرباع «لُغات العرب» ستُماتُ منذ أنْ صارت «لُغة القُرآن» - ألفاظا وتراكيب- مُهيمنةً على الاستعمال[13].
ولأنّ «لُغة القُرآن» قد أصبحت «المعيار الأمثل» للاستعمال القويم والمُبين للِّسان العربيّ، فإنّ من يَذهب به الظنّ إلى وُجود أخطاء في "القُرآن" لا يدل إلّا على جهله أو سُوء فهمه. ولعلّه يكفي، هُنا، أن يُشار إلى أنّ المُستعرب الفرنسي "جاك بيرك" لمّا تَفحّص ما بدا شُذوذا ل"تيودور نُولدكه" لم يجد بُدًّا من تأكيد أنّ الأمر إنّما يَتعلّق بضُروب من «التفرُّد النَّحْويّ» في "القُرآن"[14]. فأنّى، بعدُ، يَنْصرفْ "الجاحدون"؟!
لا غرو أنّ "الجاحدين" سيَنصرفون عن "الفُصْحى" – التي طالما وَصَمُوها ب"المُعقّدة" و"المَيِّتة"- نحو "الفُسْحى" التي يُسمُّونها «العربيّة المُبَسَّطة»، حيث تجدهم لا يَفهمون "التّبْسيط" إلّا بمعنى "الاختزال" و"التّفْكيك"، مِمّا يجعلنا أمام «عربيّة فُسْحى» كلُغةٍ ظاهرُها أنّها عربيّةٌ وباطنها أنّها تهريبٌ مُلْتوٍ لما لُقِّنَتْهُ ألسنتُهم من الألسن الأجنبيّة ولما يَحسبونه امتيازا فيها حُرِمت منه "العربيّة" بما يُوجب، في ظنِّهم، إكراهَها على حمله. ولهذا، فإنّ "الفُسْحى" ليست سوى «العربيّة الفُصحى» وقد "أُفْسحت" (بل "فُسِّحت") لتشمل كل أصناف "الإلْحان" و"الاعوجاج" التي تأتي نتيجةً لإعمال آليّات الإفساد في نسق «اللِّسان العربيّ» باسم "التّطْوير" و"التَّحْديث". والحالُ أنّ من كان مُتعثِّرا في إجادة «اللِّسان المُبين» كما سُوِّي في «الذِّكْر الحَكيم» لا خيار أمامه إلّا مثل تلك "الفُسْحى" في رَكاكتها وهُجنتها المفضوحتَيْن.
ومن هُنا، فإنّ مَنْ يَعترضْ على خُصوصيّة «اللِّسان العربيّ» بصفته اللِّسان الذي أُنزل به الوحيُ الخاتم تَرَاهُ يَهيم مُردِّدا تُهمةَ تقديس هذا اللِّسان بما هو كذلك. وإنّ مَثَل هذا المُعترض لكَمَثل مَنْ يَعترض على عناية المُؤمنين بالكعبة أو الحَرَم النّبويّ أو بيت المقدس فقط لأنّها مَبْنيّةٌ من أحجار وطين، بل كَمَنْ يَعترض على حُرمة الجسد البشريّ فقط لأنّ هناك عاهرات لا يُضيرُهنّ العبث بأجسادِهنّ! ومن كان ذاك حالَه، فهو ٱمْرُؤٌ يَغيب عنه أنّ «لُغة القُرآن» لا تمتاز عن غيرها بما هي أصواتٌ وحُروف، وإنّما تمتاز لأنّها تأليفٌ كلاميٌّ أُريد له أن يَحمل جماعَ «المُراد الإلاهيّ» بما لا يَستطيعه أيُّ ناطق أو كاتب من البَشر. فالعبرةُ، إذًا، بمُلابَسة إرادة اللّه للكلام المُؤلَّف باللِّسان العربيّ، وليست إطلاقا باللِّسان عينه الذي كان من مُستعمليه - ولا يزال بينهم- مَنْ لا يَستنكفُ عن تعهيره بما لا يَفترق في شيء عن تعهير البَغايا لأجسادهنّ!
وهكذا، فإذَا كان القولُ لا يَفرض نفسَه لمجرّد أنّه صدر عن فُلان أو عُلان من النّاس، وإنما يكون كذلك بقدر ما يَتوفّر له من صحيح الأدلّة والحُجج، فإنّ قول الأستاذ "عبد الله العروي" عن «لُغة القُرآن» بأنّها ليست من "الفُصحى" قد أتى مُتهافتا وخاليًا من أيِّ سَنَد معقول. وبالتّالي، فهو قولٌ لا يُعوَّل عليه بالمرّة. ويَبقى، فيما وراء ذلك، أنّ «لُغة القُرآن» هي الشّاهد الأمثل على «اللِّسان المُبين» الذي هو «العربيّة الفُصحى» نفسُها. وإنّ ثُبُوت صلة "القُرآن الكريم" ب«العربيّة الفُصحى» ليَجعلُها مَطْلبا لكل مُسلم على النّحو الذي كان ولا يزال يُحرِّك هِمَم المُسلمين من غير العرب لتعلُّم هذا اللِّسان وإجادة استعماله. «وإنْ تَتَولَّوْا، يَستبدلْ قَوْمًا غَيْرَكم، ثُمّ لا يَكُونوا أمثالَكم!» (مُحمّد: 38).
هوامش:
___________
[1] اُنظر: عبد القاهر الجرجاني، كتاب دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 5، 1424ه/2004م، ص. 442، فقرة 522.
[2] اُنظر: جلال الدين السيوطي، المُهذَّب فيما وقع في القرآن من المُعرَّب، تحقيق التهامي الراجي الهاشمي، مطبعة فضالة، المحمدية، ص. 57-65.
[3] اُنظر:
- Alphonse Mingana, «Syriac Influences On The Style Of The Kur'an», Bulletin Of The John Rylands Library Manchester, 1927, Volume II, pp. 77–98 ; Also see A. Mingana, «An Ancient Syriac Translation Of The Kur'an Exhibiting, New Verses And Variants», Bulletin Of The John Rylands Library Manchester, 1925, Volume IX, pp. 188-235.
[4] اُنظر:
- Arthur Jeffrey, The Foreign Vocabulary of The Qur'an, Oriental Institute, Baroda, 1938; reedition Brill, Leide, Boston, 2007.
[5] اُنظر:
- Martin R. Zammit, A Comparative Lexical Study in Qur'anic Arabic, Brill, Leiden Boston, 2002.
[6] اُنظر:
- Christoph Luxenberg, Die syro-aramäische Lesart des Koran, 2000; The Syro-Aramaic Reading of The Koran: A Contribution to decoding of the language of the Koran, Verlag Hans Schiler, 2007.
[7] اُنظر:
- R. Hoyland, «New Documentary Texts And The Early Islamic State», Bulletin Of The School Of Oriental And African Studies, 2006, Volume 69, No. 3, pp. 410-411. Quoted in: M. S. M. Saifullah, Mohammad Ghoniem & Shibli Zaman, From Alphonse Mingana To Christoph Luxenberg: Arabic Script & The Alleged Syriac Origins Of The Qur'an (http://www.islamic-awareness.org/Quran/Text/Mss/vowel.html).
[8] اُنظر:
- Jacqueline Chabbi, le Coran décrypté: figures bibliques an Arabie, éd. Fayard, 2008, p. 35.
[9] اُنظر:
- Alfred-Louis de Prémare, Aux origines du Coran, Questions d'hier, appoches d'aujourd'hui, éd. Cérès/Edif/Le Fennec, 2005, p. 40.
[10] اُنظر: علي فهمي خشيم، هل في القرآن أعجمي؟ نظرة جديدة إلى موضوع قديم، دار الشرق الأوسط، بيروت، ط 1، 1997.
[11] اُنظر:
- Jacques Berque, Le Coran : essai de traduction, éd. Albin Michel-Sindbad, Paris, 2ème éd, 1994, p. 736, note 1.
[12] اُنظر: عبد الصبور شاهين وعلي حلمي موسى، دراسة إحصائية لجذور مفردات تاج العروس باستخدام الكومبيوتر، مذكور في: عبد الصبور شاهين، في العربية والقرآن، مكتبة الشباب، ط 1، 1998، ص. 86.
[13] اُنظر: عبد الجليل الكور، ملحمة انتقاض اللِّسان العربيّ: لسانُ العرب القَلِق، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2013، ص. 41-46.
[14] اُنظر:
- Jacques Berque, Le Coran : essai de traduction, op. cit, p. 741.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.