مسلسل الدول الإفريقية الأطلسية: وزراء خارجية يشيدون بريادة المغرب للتجسيد الفعلي لهذه المبادرة    بيان ختامي: الاجتماع الوزاري المقبل لمسلسل الدول الإفريقية الأطلسية سينعقد في شتنبر المقبل بنيويورك    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الدرهم اليوم الجمعة    كيم جونغ يشرف على تدريبات نووية    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    السلطات المحلية بفاس: مصرع 9 أشخاص جراء انهيار بناية سكنية من عدة طوابق    الأمم المتحدة-أهداف التنمية المستدامة.. هلال يشارك بنيويورك في رئاسة منتدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للعلوم والتكنولوجيا والابتكار    في ظل استمرار حرب الإبادة في غزة وتصاعب المطالب بوقف التطبيع.. إسرائيل تصادق على اتفاقية النقل البحري مع المغرب    موجة فرح تعم الولايات المتحدة عقب انتخاب أول بابا من أصل أمريكي    8 قتلى و7 جرحى في حادث انهيار منزل من 4 طوابق بفاس    فاجعة..انهيار منزل بفاس من عدة طوابق يخلف ضحايا والبحث جاري عن الناجين تحت الأنقاض    "مؤثِّرات بلا حدود".. من نشر الخصومات الأسرية إلى الترويج للوهم تحت غطاء الشهرة!    سلطات الملحقة الإدارية الثالثة بالجديدة تواصل التضييق على مستغلي الملك العمومي بفضاء الشاطئ    ساكنة دوار المخاطر بجماعة شتوكة تستنكر إقصاءها من مشروع تعبيد الطرق وتطالب بتدخل عامل الإقليم    بالياريا تُطلق رسميًا خط طنجة – طريفة وتكشف موعد تشغيل باخرتين كهربائيتين    عملة "البيتكوين" المشفرة تنتعش وسط العواصف الاقتصادية العالمية    فاس.. انهيار مبنى من ستة طوابق يخلف قتلى وجرحى واستنفاراً واسعاً للسلطات    الزلزولي يهدي بيتيس أول نهائي قاري    عامل إقليم الدريوش يترأس حفل توديع حجاج وحاجات الإقليم الميامين    أوروبا تكشف بضائع أمريكا المعاقبة    المغرب يقود إفريقيا الأطلسية نحو نيويورك    مواجهة حاسمة بين المغرب التطواني وشباب السوالم لتحديد النازل الثاني للقسم الوطني الثاني    اتحاد طنجة يضمن بقاءه في القسم الأول من البطولة الاحترافية    صدام إنجليزي في نهائي الدوري الأوروبي    فتح تحقيق في ممارسات منافية للمنافسة في سوق توريد السردين الصناعي    أسبوع القفطان بمراكش يكرم الحرفيين ويستعرض تنوع الصحراء المغربية    أكاديمية المملكة تتأمل آلة القانون بين الجذور المشرقية والامتدادات المغربية    سعر الذهب يتأثر باتفاق تجاري جديد    لقاح ثوري للأنفلونزا من علماء الصين: حماية شاملة بدون إبر    الشعر الحساني النسائي حاضر في فعاليات الدورة ال18 لموسم طانطان 2025    في عيد ميلاده الثاني والعشرين: تهانينا الحارة للأمير مولاي الحسن    وزير الأوقاف المغربي يقيم مأدبة غداء تكريما لوزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بالمملكة    انتخاب الكاردينال الأمريكي بريفوست بابا جديدًا للفاتيكان    المستشارون يدعون إلى تعديل خريطة الاختصاصات بين المركز والجهات    وزير التشغيل والكفاءات يكشف إجراءات تفعيل العمل عن بعد بالمغرب    مكتب السياحة يسعى للحصول على تصنيف "China Ready" لاستقطاب السياح الصينيين    كرة القدم داخل القاعة لأقل من 19 سنة.. المنتخب المغربي يتعادل مع نظيره الإسباني (6-6)    "الأحمر" ينهي تداولات بورصة البيضاء        أتاي مهاجر".. سفير الشاي المغربي يواصل تألقه في "معرض ميلانو" ويعتلي عرش الضيافة الأصيلة    الأميرة للا حسناء تقيم بباكو حفل شاي على شرف شخصيات نسائية أذربيجانية من عالم الثقافة والفنون    «أول مرة»… مصطفى عليوة يطلق عرضه الكوميدي الأول ويعد الجمهور بليلة استثنائية من الضحك    البرلمان يناقش رئيس الحكومة حول إصلاح وتطوير المنظومة التعليمية    أشرف حكيمي يدوّن اسمه في التاريخ ويصبح المدافع الأكثر تأثيرًا هجوميًا بدوري الأبطال    أبريل 2025 ثاني أكثر الشهور حرارة عالميا    وداديون يحتفون بحلول الذكرى ال88 لتأسيس النادي    منصات المخزون والاحتياطات الأولية.. بنيات جهوية موجهة للنشر السريع للإغاثة في حال وقوع كوارث    الصين توقف استيراد الدواجن من المغرب بعد رصد تفشي مرض نيوكاسل    السيد ماهر مقابلة نموذج رياضي مشرف للناشطين في المجال الإنساني    الغربة والذياب الجائعة: بين المتوسط والشراسة    فنانون مغاربة يباركون للأمير مولاي الحسن عيد ميلاده ال22    لهذا السبب .. الأقراص الفوّارة غير مناسبة لمرضى ارتفاع ضغط الدم    دراسة علمية تكشف قدرة التين المغربي على الوقاية من السرطان وأمراض القلب    تشتت الانتباه لدى الأطفال…يستوجب وعيا وتشخيصا مبكرا    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البعثة النبوية تعليم وتزكية
نشر في هوية بريس يوم 17 - 12 - 2016

جاء الإسلام ليخرج الناس من ظلمات الجهل والظلال إلى نور العلم والهداية، وبُعث رسولنا الخاتم -صلوات ربي وسلامه عليه- على فترة من الرسل برسالة التعليم والتزكية والحكمة، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]، والناس وقتذاك باطلة تصوراتهم العقدية عن الخالق والمخلوقات، وعن الغاية الأسمى من وجودهم، مضطربة مفاهيمهم للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تربطهم فيما بينهم، والقيم الأخلاقية التي ينبغي أن تحكم تلك العلاقات.
وقد كان ولا زال للشريعة الإسلامية -قرآنا وسنة- خصوصية في الاستعمالات اللغوية للألفاظ والمفاهيم والتصورات، حيث نقلت عددا من الألفاظ من معانيها اللغوية المتداولة إلى معاني وحقائق شرعية، كالآذان والصلاة والصوم والإيمان والكفر والنفاق والفسق وغيرها من الألفاظ، وغيرت كثيرا من المفاهيم والتصورات عن الإله والكون والحياة التي كانت منطبعة في أذهان الناس، مقصدها في ذلك تغيير السلوكيات السائدة عن طريق إعادة تشكيل العقل في مفاهيمه وتصوراته، وتوجيهه نحو الوجهة الصحيحة ألا وهي توحيد الله عز وجل وعبادته.
ولقد استطاع كلام الله المعجز (القرآن الكريم)، وكلام نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم (السنة النبوية) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3،4]، أن يحدثا تحولات كبرى في فترة زمنية قياسية، وأن يشكلا معا عقلا إيمانيا وأخلاقيا، "فاعلا، متألقا، متوهجا، قديرا على الفعل والتحقق والإبداع… لقد تم -بإعجاز مذهل- تجاوز صيغ المعادلات القديمة، وكُسِرت الأرقام القياسية، وبُعِث عقل جديد عرف كيف يعيد صياغة العالم…"[1].
كان القرآن الكريم يتنزل منجما، ومع كل نجم منه سبب خاص لواقعة أو حادثة، يتقصد بذلك تعليم الصحابة – ومن يجيء بعدهم باعتبار أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب- وتزكيتهم، وإعادة تشكيل تفكيرهم بخلق التوازن بين المادة والروح، والحياة الدنيا والآخرة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] مع إعطاء الخيرية والأفضلية للحياة الآخرة، {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:4].
فكان أول خطاب قرآني للمؤمنين تأديبهم وتوجيه منطقهم في اختيارهم أحسن الألفاظ، ونهي عن التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] و(راعنا) "هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم"[2].
فكان التوجيه القرآني الداعي إلى نبذ استعمال المصطلحات التي تفيد عند الآخر معنى قدحيا، فكلمة راعنا أمر من راعى الشيء إذا حفظه وترقبه. أو انظر إليه، والنهي عن مخاطبة النبي "براعنا" واستخدام "انظرنا" تجنبا لمعنى قبيح كان يقصده اليهود بكلمة "راعنا" فراعنا في العبرية تفيد معنى "شريرنا"[3].
قال ابن العربي رحمه الله: "وهذا دليل على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعرض للتنقيص والغض"[4].
وإلى جانب توجيه المنطق، كان أيضا التوجيه إلى المعنى الصحيح للألفاظ، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فأبان عز وجل في هذه الآية المعنى الحقيقي للبر، ردا وتعريضا "على أهل الكتاب في تهويلهم على المسلمين إبطال القبلة التي كانوا يصلون إليها… والمراد به [أي البر] هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره"[5].
وهذه الآية في سياقاها "بيان عن حقيقة البر يتضمن قواعد الإيمان والعمل الصالح، يصحح به التصور الإيماني فليس هو شكليات ظاهرية، وتقليباً للوجوه قبل المشرق والمغرب، ولكنه شعور وعمل وارتباط بالله في الشعور والعمل.."[6].
وعلى هذا الارتباط بالله في الشعور والعمل كانت "التربية التي أخذ الله بها الصف المسلم ليعده ذلك الإعداد العجيب، وهذا هو المنهج الإلهي في التربية لمن يريد استخلاصهم لنفسه ودعوته ودينه من بين البشر أجمعين"[7].
ورسولنا الخاتم صلى الله عليه وسلم، المبعوث من ربه بهذه الرسالة العظيمة، والذي قال فيه رب العزة: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النِّسَاءِ:113] وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، وقالت عنه عائشة رضي الله عنها لما سألت عن خلقه (كان خلقه القرآن)، كان يمشي بنوره بين الناس يعلمهم إياه ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الحكمة، والمتتبع لسيرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام يلمس هذا بدون عناء.
وعلى نهج القرآن في توجيه المنطق، والتوجيه إلى المعاني الأخروية للألفاظ المرادة لله عز وجل سار المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأول ما بدأ به تغيير أسماء أصحابه رضوان الله عليهم، ثم تغيير مفاهيمهم للألفاظ من المعاني العرفية المتداولة إلى المعاني الشرعية الأخروية.
يقول ابن القيم الجوزية رحمه الله في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ المنطق واختيار الألفاظ: "كان يتخير في خطابه ويختار لأمته أحسن الألفاظ وأجملها، وألطفها، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش، فلم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا ولا فظا. وكان يكره أن يستعمل اللفظ الشريف المصون في حق من ليس كذلك، وأن يستعمل اللفظ المهين المكروه في حق من ليس من أهله"[8]. وقد فصل في ذلك رحمه الله بما يغني عن تكراره فلينظر في موضعه.
مع ما أوتي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم الشاهدة على بلاغته وفصاحته وأنه أفصح من نطق بالضاد، فقد كانت لغته صلى الله عليه وسلم "لغة الواضع بالفطرة القوية المستحكمة، والمنصرف معها بالإحاطة والاستيعاب، وأما البيان فبيان أفصح الناس نشأة، وأقواهم مذهباً، وأبلغهم من الذكاء والإلهام، وأما الحكمة فتلك حكمة النبوة، وتبصير الوحي وتأديب الله، وأمر في الإنسان من فوق الإنسانية"[9].
لا يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه في يومه وليله، في حربه وسلمه، في منشطه ومكرهه، أن يوجهه أفكارهم وتصوراتهم نحو البعد الأخروي الذي هو خير وأبقى {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، يأخذ من ألفاظهم ولغتهم المتداولة فيضفي عليها بعدا شرعيا يكون له ارتباط بالبعد الأخروي..
من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون الرقوب فيكم؟ قالوا: من لم يولد له، قال: الرقوب من لم يقدم من ولده شيئا»[10].
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «فما تعدون الصرعة فيكم؟" قلنا: الذي لا تصرعه الرجال. قال: ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب»[11].
قال ابن الجوزي رحمه الله: "دلهم بهذا الحديث على النظر إلى المعاني دون الصور، لأنهم ألفوا في كلامهم أن الرقوب الذي يفقد أولاده، فأخبرهم أنه الذي يفقد ثواب أولاده في الآخرة. ولما عرفوا أن الصرعة الذي لا يصرعه الرجال أخبرهم أن الشدة في ملكة النفس"[12].
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يتفطن له. فيتصدق عليه»"[13].
يقول ابن تيمية رحمه الله: "فهم كانوا يعرفون المسكين وأنه المحتاج، وكان ذلك مشهوراً عندهم فيمن يظهر حاجته بالسؤال، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يظهر حاجته بالسؤال والناس يعطونه، تزول مسكنته بإعطاء الناس له، والسؤال له بمنزلة الحرفة، وهو وإن كان مسكيناً يستحق من الزكاة إذا لم يعط من غيرها كفايته، فهو إذا وجد من يعطيه كفايته لم يبق مسكيناً، وإنما المسكين المحتاج الذي لا يسأل ولا يعرف فيعطى. فهذا هو الذي يجب أن يقدم في العطاء، فإنه مسكين قطعاً، وذاك مسكنته تندفع بعطاء من يسأله"[14].
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم «ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد لطم هذا، وضرب هذا وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار»[15].
يقول أبو الحسن الهروي القاري رحمه الله: "والحاصل أنهم أجابوا بما عندهم من العلم بحسب عرف أهل الدنيا كما يدل عليه قولهم فينا وغفلوا عن أمر الآخرة… قال النووي: يعني حقيقة المفلس هذا الذي ذكرت، وأما من ليس له مال ومن قل ماله، فالناس يسمونه مفلسا، وليس هذا حقيقة المفلس، لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته وربما انقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته بخلاف ذلك المفلس، فإنه يهلك من الهلاك التام"[16].
يقول الأمير الصنعاني رحمه الله: "ونظائر لهذه الأحاديث كثيرة، يراد بها إيقاظ السامعين وتنبيههم على أن هذه الأسماء وغيرها قد وضعت لمسميات باعتبار معانيها، وهي بهذه المعاني أجدر وأحق وأكثر مناسبة، لأن المعاني هذه بها أحق وأوفق وأليق وليس هذا قادحًا في حكمة الواضع؛ لأنه قد وضعها لمعان هي فيها صحيحه ما خلت عن الحكمة، هذا ويحتمل أن هذه حقائق شرعية نقلها إليها الشارع في عرفه، مع بقائها باعتبار معناها اللغوي غير مهجورة أيضاً، ويحتمل أن المراد أن عنده تعالى هذه الألفاظ لهذه المعاني أي أنكم تسمون مثلاً المفلس من وجد فيه تلك الصفة، والمفلس عنده تعالى من ذكر"[17].
هكذا ربى النبي صلى الله عليه أصحابه بنور القرآن وبسنته العطرة فاستطاع بذلك أن يرتقي بأفكارهم وتصوراتهم ومنطقهم من الارتباطات الدنيوية المادية إلى العالم الروحي الأخروي، وعلى هذا النهج ينبغي أن تسير تربيتنا وتعليمنا للأجيال، أن نقتفي القرآن الكريم في مفاهيمه وتصوراته ومصطلحاته، والسنة النبوية في كشفها عن مرادات الله عز وجل إذ فيها" من التوجيهات المشرقة، والحجج الدامغة، والحكم البالغة، والكلم الجامعة، والمواعظ المؤثرة، والأمثال المعبرة، والقصص الهادفة، وألوان الأمر والنهي، الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، ما يلين القلوب الجامدة، ويحرك العزائم الهامدة، وينبه العقول الغافلة، فهي تسير في خط القرآن في مخاطبة كيان الإنسان كله: عقله وقلبه، وهي تعمل على تكوين الشخصية المسلمة المتكاملة، ذات العقل الذكي، والقلب النقي، والجسم القوي"[18].
الهوامش:
1. حول إعادة تشكيل العقل المسلم، للدكتور عماد الدين خليل، سلسلة كتاب الأمة (4)، ص:24 الطبعة الأولى، رمضان 1403ه، تصدر عن رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية في دولة قطر
2. جامع البيان في تأويل القرآن، لمحمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310ه)، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420ه – 2000 م (2/460)
3. معجم ألفاظ القرآن الكريم ،جمهورية مصر العربية مجمع اللغة العربية. الإدارة العامة للمعجمات وإحياء التراث 1409ه – 1988م، (1/506).
4. أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (1/49)
5. التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، لمحمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى:1393ه)، الدار التونسية للنشر – تونس (2/128).
6. في ظلال القرآن، سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (المتوفى: 1385ه)، دار الشروق – بيروت- القاهرة، الطبعة: السابعة عشر – 1412 ه، (1/146).
7. في ظلال القرآن، (1/146).
8. زاد المعاد في هدي خير العباد، لمحمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751ه، مؤسسة الرسالة، بيروت – مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة: السابعة والعشرون , 1415ه /1994م (2/321).
9. إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، لمصطفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي (المتوفى: 1356ه)، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الثامنة – 1425 ه – 2005 م (ص:221).
10. مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، برقم 2608.
11. مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب، برقم 2608
12. كشف المشكل من حديث الصحيحين، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597ه) المحقق: علي حسين البواب الناشر: دار الوطن – الرياض (1/332-333).
13. صحيح البخاري 3/109، 2/258، سنن أبي داود 1/379، سنن النسائي 6/85-86. وانظر : زاد المعاد في هدي خير العباد (1/383).
14. الإيمان، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى:728ه) تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، عمان، الأردن، الطبعة: الخامسة، 1416ه/1996م (ص:236).
15. رواه مسلم (2581)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، والترمذي (2418)، كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص.
16. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، علي بن (سلطان) محمد، أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى: 1014ه)، دار الفكر، بيروتلبنان الطبعة: الأولى، 1422ه – 2002م (8/3202).
17. التنوير شرح الجامع الصغير، لمحمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير (المتوفى: 1182ه)، تحقيق: د. محمَّد إسحاق محمَّد إبراهيم، مكتبة دار السلام، الرياض، الطبعة: الأولى، 1432 ه – 2011م، (1/ 287).
18. كيف نتعامل مع السنة النبوية، معالم وضوابط، الدكتور يوسف القرضاوي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي سلسلة قضايا الفكر الإسلامي (4) الطبعة الخامسة، 1413ه – 1992م، ص:61.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.