أشرت في مقال " أنظمة الحكم العربية تبنت طيلة نصف قرن الحكمة الصينية: "إذا أردت مشروعاً تحصده بعد عام فأزرع قمحاً"، إلى أن ما ينقص البلدان العربية ليس ضعف أو نذره الوسائل و الموارد المالية ، بل غياب الهدف الحضاري الواضح للمجتمع ككل، فحجم الإنفاق العمومي على المهرجانات الفنية و الإعلام العمومي التافه يؤكد على أن المشكل ليس نذرة الموارد المالية . فهذا المنحى في الإنفاق العمومي و الخطاب الإعلامي و التثقيفي، يؤكد على رغبة أنظمة الحكم في ترسيخ سياسات تعليمية و تربوية تؤمن لهم استمرار إنتاج أجيال مستهلكة لا أجيال ..و أكدت على أنه لا حرج على أي شخص أو أمة أن تحاكي و تقتبس أساليب نجحت عند غيرها، فلقد قامت ماليزيا بنقل أساليب من اليابان و كوريا الجنوبية عند حاجتها لتلك الأساليب و كذلك فعلت الصين و خاصة عندما إختارت السير على نفس نهج ثورة الميجي في اليابان " التقنية الغربية و الروح "اليابانية" و في حالة الصين "الروح الصينية"... و في سياق حرصي على تقريب تجارب النهوض الأسيوية و خاصة الصينية من القارئ العربي، حاولت البحث في "عوامل تفسير "المعجزة الأسيوية " و قد أشرت في أكثر من مناسبة إلى أن نجاح البلدان الأسيوية المشمولة بالدراسة، كان نتيجة لتوافر العديد من العوامل و قد حللنا هذه العوامل و حددناها في سبع عوامل مساعدة و داعمة للنمو و التوسع الاقتصادي، و يمكن للقارئ الكريم العودة لمقالات الكاتب او كتبه ذات الصلة بالموضوع، و ما دمنا تناولنا في المقال السابق قضية إصلاح و تجويد التعليم ، فسأحاول في هذا المقال إتمام ذات التحليل لكن بالتركيز على أهمية رأس المال البشري و نجاح السياسات العمومية في تحويل الوفرة في الكادر البشري إلى ميزة نسبية يتم استغلالها بإيجابية في تحقيق التنمية و النمو .. فعندما نحلل المسار العام لتطور و صعود البلدان الأسيوية المشمولة بالدراسة نلاحظ قاسمين مشتركين بين أغلب هذه البلدان : الأول وفرة نسبية في اليد العاملة و الثاني نذرة نسبية في الموارد الطبيعة، و معظم هذه البلدان صاغة سياساتها الاقتصادية و التنموية على هذا الأساس، لكن و نحن نحلل تجربة هذه البلدان علينا ألا نهمل أهمية العوامل الخارجية و التي كان لها تأثير بالغ الأهمية في تحقيق "المعجزة الاسيوية" أولا- وفرة نسبية في عنصر العمل و نذرة نسبية في الموارد: عندما بدأت هذه الدول تجربتها الإنمائية في الخمسينات كانت تعاني من البطالة، حيث كانت أسواق العمل تعج بأعداد هائلة من القادرين على العمل، ومما فاقم معدلات البطالة حالة الركود الذي خيم على هذه الدول آنذاك وارتفاع معدل نموها السكاني، فلجأت الحكومات في هذه الدول إلى استثمار هذه الميزة النسبية في الصناعات التصديرية كثيفة العمالة وذات الأجر الرخيص…و لضمان نجاح هذا التوجه سعت حكومات هذه البلدان إلى تبني حزمة من الإجراءات و التدابير -المجحفة أحيانا- لضمان استثمار هذه الميزة النسبية لفترة طويلة: 1. توفير الغذاء الضروري بأسعار . 2. حرمان العمال من تنظيماتهم النقابية والسياسية التي تدافع عن حقوقهم. 3. تطبيق سياسات مالية ونقدية صارمة لتحاشِ الوقوع في التضخم، من أجل المحافظة على معدل الأجر الحقيقي. 3. عدم وجود قوانين للحد الأدنى للأجور مع عدم التشدد في مراعاة ساعات العمل. وكان من نتيجة هذه السياسات أن أصبح متوسط الأجور في مستوى منخفض جداً مقارنةً مع مستوى الأجور في باقي بلدان، وتبعا لذلك، فإن تكلفة المنتجات التحويلية كثيفة العمالة كانت منخفضة جداً. و في مقابل الوفرة النسبية في عنصر العمل، كانت هذه الدول تتسم بندرة واضحة في الموارد الطبيعية، وبالتالي كان اعتمادها على الخارج يكاد يكون كاملاً في تأمين المواد الغذائية والمواد الخام والطاقة. وفي ضوء هذه الندرة الشديدة اعتمدت على إستراتيجية إنمائية محددة، فحواها الاعتماد على مجموعة معينة من الصناعات التصديرية التي تقوم على استيراد المواد الأولية من الخارج وتصنيعها في الداخل معتمدة على الوفرة النسبية لعنصر العمل. هذا الأمر أدى إلى ظهور العجز في ميزان مدفوعات هذه الدول في المراحل الأولى من النمو (الخمسينات والستينات )، لكن حكومات هذه الدول أدركت بأنها إذا لم تستطع استدراك هذا الأمر فإنها ستحاصر بأزمات النقد الأجنبي والديون الخارجية وبالتالي تهديد التجربة بكاملها، لذلك وضعت نصب أعينها أن تصل إلى مرحلة تسبق فيها معدلات نمو الصادرات معدلات نمو الوردات، وهي المرحلة التي وصلت إليها جميع هذه الدول في الربع الأخير من القرن العشرين. النجاح في إيجاد مواءمة بين وفرة عنصر العمل و نذرة الموارد، لم يكن الإنجاز الوحيد لهذه البلدان بل إنها نجحت في تبني سياسات اقتصادية كلية فعالة، و كان لها بالغ الأهمية في خلق البيئة الاقتصادية المحلية المناسبة لدفع قوى النمو والتقدم، و يمكن إجمال هذه السياسات في:1- الاستثمار الكثيف في بناء شبكة بنية تحتية على درجة عالية من التقدم والكفاءة. 2- الاستثمار الكثيف في البشر، إذ عملت هذه البلدان على زيادة في مخصصات الإنفاق العام على التعليم والصحة والإسكان والبحث العلمي والتقدم التكنولوجي، وبالتالي فإن ذلك انعكس في نمو إنتاجية العمل من ناحية، وفي استيعاب التكنولوجيا المستوردة والدخول في مرحلة التطوير التكنولوجي من ناحية ثانية. 3- تبني سياسات نقدية ومالية متزنة بغرض التحكم في مستوى التضخم ، و هو الأمر الذي كان له أثر ايجابي في النمو الاقتصادي ونمو الصادرات والسيطرة على الأجور…كما حرصت هذه الدول تجنب الاستدانة الخارجية و الوقوع في فخ المديونية الخارجية، و لذلك يم تبني تدابير فعالة للحد من الفجوة بين معدل الاستثمار المنفذ والادخار المحلي ، وذلك من خلال تشجيع المدخرات المحلية، عبر تبني حزمة تدابير أهمها : سعر فائدة مرتفع + تطوير سوق الأوراق المالية + تنويع أجهزة تعبئة المدخرات .. ونتيجة لهذه السياسات استطاعت هذه الدول أن تحقق أعلى معدلات ادخار في العالم، الأمر الذي جعلها تتحول إلى بلدان مصدرة للاستثمارات الخاصة اعتباراً من الثمانينات. ثانيا- دور العوامل الخارجية في تحقيق "المعجزة الاسيوية": على الرغم من أهمية السياسات الكلية التي تم تبنيها من قبل الدول الأسيوية المشمولة بالدراسة ، إلا أننا لا ينبغي أن نهمل دور العوامل الخارجية، في تسريع و تشجيع عملية التنمية، و من ذلك: فقد سبق لنا أن أشرنا في أكثر من مقال و محاضرة إلى عدوى التنمية التي عمت البلدان الأسيوية فالدور الفعال الذي لعبته اليابان في الخمسينات و الستينات كان له بالغ الأهمية في تشجيع التنمية على مستوى الإقليم فتحول الهيكل الصناعي لليابان مثلا، أدى نتيجة لارتفاع مستوى الأجور في اليابان على نقل العديد من الصناعات الكثيفة العمالة إلى البلدان المجاورة التي كانت تتوفر على ميزة نسبية في جانب عنصر العمل.. النجاح في الاستفادة من الفرص التي ولدها التنافس بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، فنتيجةً لتبعية أنظمة الحكم لأغلب هذه البلدان للغرب الرأسمالي، فإن المعسكر الغربي حرص على مساعدة هذه الدول بسخاء لتسريع نموها الاقتصادي وتحديثها كنموذج رأسمالي بديل للنموذج الاشتراكي المجاور لها..و الصين بدورها حاولت مع نهاية الحقبة "الماوية" تطبيع علاقاتها مع أمريكا و اليابان و الغرب الرأسمالي عموما، و قد تم إحتضانها من قبل الغرب بغرض حصار الاتحاد السوفياتي.. نظام النقد الدولي الذي كان يعمل حتى بداية السبعينات، هذا النظام حقق استقراراً عالمياً في أسعار صرف عملات مختلف بلدان العالم، وبالتالي فإن هذا النظام وفر لها الدخول في صفقات تصدير واستيراد طويلة الأجل وهي مطمئنة لعدم وجود تقلبات فجائية وحادة في أسعار الصرف، كما أن هذا النظام وفر لها موارد السيولة عند الحاجة بأسعار فائدة معقولة. و علينا، أن نقر أن البيئة الدولية الحالية أصبحت مغايرة تماما عن حقبة الحرب الباردة، لكن ذلك لا يقلل من أهمية النموذج التنموي المتبع في البلدان الأسيوية، ففيه بعض الثوابت التي يمكن إقتباسها ، فقد حاولت الصين و غيرها من البلدان الأسيوية الاستفادة من التجربة اليابانية، و أهم عنصر تم اقتباسه من اليابان هو مبدأ "التقنية الغربية و الروح اليابانية ".. فمن المؤكد، أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال استنساخ تجربة نمو من دولة إلى أخرى، فلكل دولة ميزات وطبائع مختلفة تتعايش معها، ولكل دولة معدلات نمو سكانية وثروات طبيعية مختلفة، ومخاطر أمنية مختلفة ، ولكن هناك ثوابت مشتركة يمكن الأخذ بها.. فمن دون شك، هناك فرصة لقيام تجارب تنموية ناجحة على غرار ما حدث في شرق أسيا ، عبر إتباع نموذج اقتصادي محدد يحقق نهضة حقيقية تعم البلد، وقد رأينا في العقدين الأخيرين صعود دول جديدة إلى مصاف الاقتصاديات القوية مثل: الهندوالصين والمكسيك والبرازيل وتركيا… ولعل أبرز ما يجب التركيز عليه لتحقيق الصعود و الخروج من دائرة التخلف و الفقر و الحرمان، هو الاهتمام بالعنصر البشري والاستثمار فيه ما أمكن، عبر زيادة الإنفاق في التعليم وتوفير الخدمات العامة بأسعار مناسبة و في استطاعت الجميع، و توسيع خيارات الناس عبر توسيع دائرة الحقوق المدنية و السياسية و احترام كرامة الانسان… وبدون تعليم يضاهي المعايير العالمية لا يمكن الانخراط في الاقتصاد المعرفي.. لكن تعليم ينسجم مع البيئة الثقافية و الحضارية المحلية، تعليم بلغة البلد لا بلغة الغير، فإهمال التدريس باللغة العربية في أغلب البلدان العربية جريمة تنموية و ثقافية و حضارية بكل المعايير، فاليابان تدرس باليابانية و الصين تدرس بالصينية، و لعل المبدأ الياباني القائم على قاعدة "التقنية الغربية و الروح اليابانية " هو الوصفة السرية و القاسم المشترك بين أغلب التجارب التنموية الناجحة في أسيا و غيرها ، و للأسف تخلف البلدان العربية نابع من إهمال البعد الحضاري و الخصوصية الثقافية للشعوب العربية التي تدين غالبيتها العظمى بالإسلام، و السعي الحثيث لاستنساخ الصالح و الطالح من الغرب.. و لذلك، أرى أن البلدان العربية لن تخرج من دورة التخلف و التبعية إلا بتبني مبدأ "التقنية الكونية و الروح الإسلامية "و هو ما سنحاول التوسع فيه أكثر في المقال القادم إن شاء الله تعالى …و الله غالب على أمره و لكن أكثر لناس لا يعلمون.. إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..