في تعليق على مقال أمس بجريدة رأي اليوم اللندنية "النموذج التنموي الصيني" نتاج لعملية مزج بين الماضي والحاضر، وبين الخصوصية الصينية والحداثة الغربية …" كتب أحد القراء و إختار إسم "تنوير" قال في تعليقه القيم : " الصين حالة خاصة و الدروس المستقاة منها و القابلة للنسخ و النقل محدودة ، إذ أن الظروف و العوامل الحرجة الأخرى المؤثرة في الأداء ليست ثابتة"، و اتفق معه في جزء من التعليق لكن أختلف في جزء أخر، و سأحاول توضيح ذلك في هذا المقال من خلال شرح و تفسير العوامل الداعمة للصعود الصيني ، لكن هذا الصعود تعتريه مجموعة من النواقص و الاختلالات ، التي ينبغي التنبه إليها و تفاديها في حالة تبني ذات الاستراتيجية الصينية في الإصلاح و الإقلاع الاقتصادي… المحور الأول – العوامل الداعمة للصعود الصيني: التحول السريع الذي شهدته الصين بعد انطلاق إصلاحات 1978 لم يكن ليتحقق لو لم تتوفر شروط موضوعية ساعدت على تحققه، ومن ذلك: أولا- الوحدة والتماسك والحجم : حالة النكوص والتدهور التي شهدتها الصين خلال القرن 19 وطيلة النصف الثاني من القرن 20، لا يمكن أن تخفي حقيقة أن الصين حضارة عريقة، تملك من مقومات مادية ومعنوية تؤهلها لاحتلال مكانة سامقة بين الأمم العظمى. وأن حالة التخلف والانحطاط لم تكن إلا "طفرة ظرفية" في مسار تطور الحضارة الصينية، فالوزن الجيوسياسية للصين في مرحلة ماقبل إصلاحات 1978، سنجد بان الصين كان لها حضور قوي على خريطة العالم. لذلك، فان إصلاحات 1978لم تنطلق من "أرض محروقة"، بل على العكس وجدت أمامها مجموعة من المعطيات والعوامل الايجابية، التي أهلت الصين لاسترجاع حضورها في المسرح الدولي. ومن ضمن هذه العوامل ما كان نتيجة للإنجازات التي راكمتها الحقبة الماوية. وعوامل وهبتها السماء ل"مملكة الوسط"، فالصين بلد متنوع جغرافيا ومناخيا، كما يتوفر على أكبر ساكنة في العالم، إذ يوجد في العالم صيني بين كل خمسة أشخاص في العالم. ومع ذلك، فان الشعب الصيني تجمعه أواصر قومية وثقافية جعلته من أكثر شعوب العالم انسجاما ووحدة.. كما أن الصين أدركت مفهوم الدولة منذ أزيد من ألفي سنة، فالحدود الحالية هي حدود تاريخية للإمبراطورية الصينية. كما أن التقسيم الإداري وعلاقة المركز بالأطراف لا تختلف كثيرا عن ما كان سائدا في الحقبة الإمبراطورية. ثانيا – مرونة وفعالية القيادة السياسية: الانتقال إلى اقتصاد السوق تم بتخطيط وتوجيه من الحزب الشيوعي الصيني. بل إن هذا التحول قوى من موقع الحزب، وأكسبه شرعية جديدة تمثلت في "شرعية النمو الاقتصادي ". فهذا الحزب الذي كان من أشد الأحزاب الشيوعية تمسكا بالأيديولوجية الماركسية اللينينة، أصبح مع مطلع الثمانينات من أكثر الأحزاب انفتاحا على تجربة الليبرالية الاقتصادية. فقد تمكن هذا الأخير من صياغة مراجعات مذهبية، وإدخال تعديلات على الفكر الماركسي اللينيني و الفكر الليبرالي ، كمحاولة منه لرسم طريق ثالث يمزج بين محاسن كلا الفكرين. ثالثا -تفادي العلاج بالصدمات : إن ما يميز التجربة الصينية بعد 1978 هو انتقال فلسفة النظام السياسي من فكرة " البناء بالهدم " والتي مثلت عنوان الحقبة الماوية، إلى فكرة "الهدم بالبناء" في مرحلة ما بعد 1978. فكلا الفلسفتين تتفقان على ضرورة بناء اقتصاد ومجتمع جديد، وهدم معالم النظام القديم .. إلا أن الاختلاف الأساسي هو أن الأسلوب الأول يبدأ بهدم القديم قبل بناء الجديد، بينما الأسلوب الثاني يعتمد مبدأ التدرج، فهو ينطلق من فرضية مفادها أن البناء التدريجي للنظام الجديد يعد في ذاته مدخلا لهدم النظام القديم. وهو الأسلوب الذي تبنته الحكومة الصينية في الانتقال من الاقتصاد المنغلق إلى الاقتصاد المنفتح ومن هيمنة القطاع العام إلى إشراك القطاع الخاص. فالدولة حرصت على تفادي العلاج بالصدمة وفضلت أسلوب التدرج مما مكنها من هدم الاقتصاد الموجه، وبناء اقتصاد السوق بأقل الخسائر. رابعا – جودة مناخ الاستثمار : نجاح الصين في خلق الأجواء الاستثمارية المناسبة، مكنها من خلق الأرضية الحقيقية للتشغيل وتنمية الأجور، لأن هذه البيئة ساعدت على احتضان رؤوس الأموال الجديدة وشجعت على إبداع الحلول. لذلك، فالانفتاح لوحده يظل له تأثير محدود على المناخ الاستثماري، لأن التأثير الفعلي نابع من مدى كفاءة السياسات المتبعة، ففشل هذه السياسات قد يقود إلى هروب الرساميل نحو الخارج، كما أن توفر القوانين والتنظيمات المشجعة للتشغيل قد تساعد بدورها في امتصاص البطالة ، إضافة إلى أن توافر العمالة الماهرة هو عنصر جوهري ، فالاقتصاد الجديد القائم على العنصر المعرفي لن يتجه نحو الاستيطان في بلاد لازال تعليمه متخلفا، وبنيته القانونية والتنظيمية متخلفة.. . فمثل هذه السياسات، بجانب جودة مناخ الاستثمار، يكون لها تأثير حاسم في القرارات الاستثمارية، ولاسيما في ظل حالة عدم اليقين التي طبعت العالم بعد الأزمة المالية، والتي كان من نتائجها إزالة مؤسسات مالية ضخمة من الوجود، وهو ما كشف عن هشاشة النظام المالي الغربي بل عدم فعالية "اقتصاد الشاشات" ، وهو ما شكل نقطة إضافية دعمت من الموقف الصيني، وجعلت من النموذج الصيني في التحرير المالي يحظى بقدر كبير من التأييد. المحور الثاني – نواقص النموذج التنموي الصيني ماذا لو كانت هذه الضخامة ذات أقدام من ورق؟ ماذا لو أن «النموذج الصيني» لا يحتوي سوى مجرد ألعاب نارية مثيرة تستمر لفترة قصيرة، وبعد ذلك يبدأ التراجع؟ قد تبدو أسئلة من هذا النوع حول اقتصاد يتضاعف كل سبعة أعوام في غير محلها. هناك نقاط ضعف رئيسية تهدد استمرار النمو الاقتصادي في الصين من بينها: أولا-أن اقتصاد الصين يعتمد على أعداد هائلة من الأيدي العاملة الرخيصة، وهذه الميزة النسبية لن تستمر في الأمد المنظور بفعل النمو الاقتصادي الذي يؤدي إلى تحسن في الدخل وفي ارتفاع الحد الأدنى للأجور نتيجة للطلب المتنامي على العمالة، كما أن البنية الديموغرافية للصين تتجه نحو الشيخوخة، و رأس المال الأجنبي غالبا، والمواد الخام، عناصر لا يمكن ضمان استمرارها على المدى الطويل. ثانيا – أيضا يخلط صناع السياسات في الصين بين النمو والتنمية. فصحيح انه جرى تنويع اقتصاد الصين أخيرا، وباتت البلاد التي بدأت بإنتاج سلع بسيطة منزلية، تنتج أيضا سلعا أكثر تقدما من الناحية التكنولوجية، لكن مع هذا لم تحقق الصين درجة يعتد بها من التنمية. ثالثا– كما أن الاستمرار في خفض الأسعار وخفض قيمة العملة الصينية يعتبر دعما للمستهلكين في الدول الغنية، لأنه يقدم سلعا صينية رخيصة الثمن، لكن لا يعني أن هذه السلع يمكن أن تنافس فعلا أمام سلع غربية أسعارها قريبة من الأسعار الصينية.. الصين أشبه بمقاول من الباطن للقوى الصناعية الكبرى، ولاسيما الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان. و يكمن دورها أساسا في استضافة الصناعات التقليدية في الوقت الذي تدخل فيه الاقتصاديات المتقدمة عصر ما بعد الصناعة. رابعا -النظام المالي الصيني لا زال عاجزا عن القيام بالعديد من الوظائف الأساسية في الاقتصاد بشكل فعال. فعلى الرغم من الوفورات المالية الهامة إلا أن تخصيصها لا يتم بشكل معقلن . فالمؤسسات المملوكة للدولة لازالت تتلقى الجزء الأكبر من الأموال التي يخصصها النظام المالي الرسمي، في حين إن المؤسسات غير التابعة للدولة تتلقى حصة اقل… ويرجع هذا الخلل إلا سيادة الاعتبارات الغير تجارية في صياغة قرارات الائتمان، مثل حماية المؤسسات المملوكة للدولة من الإفلاس، فالاعتبارات ذات الطبيعة السياسية لا زالت تؤثر في الإقراض المصرفي. خامسا -تواجه الصين ضغوط بيئية هائلة. فعلى سبيل المثال، تضم الصين 20 من بين مدن العالم الأكثر تلوثاً البالغ عددها 30 مدينة، ويُعزى ذلك إلى حد كبير إلى ارتفاع استخدام الفحم لأغراض توليد الطاقة. كما أن التآكل الشديد في التربة والأمطار الحمضية وتلوث المجاري المائية يؤثر كذلك على حياة الملايين. ويهيمن قطاع الصناعات التحويلية. سادسا -بينما تواصل معدلات الفقر تقلصها، فإن التفاوت الكبير في مستويات الدخل آخذ في الارتفاع ويظهر ذلك بصورة صارخة في بعض الحالات. فالعديد من القوى والعوامل المؤثرة التي تساهم حالياً في تحقيق النمو السريع وزيادة الاندماج الإقليمي والعالمي هي أيضاً نفس القوى والعوامل التي تخلق تبايناً في معدلات النمو ومستويات الدخل. فعلى سبيل المثال، يلاحظ أن ازدياد وتيرة التغيّر التكنولوجي والعولمة يؤدي إلى ارتفاع الطلب على العمالة الماهرة، وزيادة أجور الأشخاص الذين يتمتعون بحظ أوفر من التعليم والمهارات. كما أن الفجوة بين الريف والحضر تلعب دوراً في ذلك الصدد، وذلك من خلال حصول العمالة على أجور مجزية في المناطق الساحلية والمدن التي توجد بها روابط وطرق نقل جيدة إلى الأسواق العالمية… وقد بات التصدي لعدم الإنصاف مع العمل على تشجيع نمو الإنتاجية وخلق الثروات حالياً أحد أكبر التحديات المتعلقة بالسياسات في الصين… وتفاديا للإطالة سنحاول تخصيص مقال موالي يشرح بتفصيل هذه العناصر، وخاصة مكامن الضعف و تأثيرها على رسم ملامح نظام دولي لما بعد الجائحة…و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون… أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..