"فيتش" تحذر المغرب من تخطي نفقات البنيات التحتية للمشاريع الكبرى للتقديرات    النيابة العامة الفرنسية تطلب إطلاق سراح ساركوزي بانتظار محاكمة الاستئناف    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    الوداد ينفرد بصدارة البطولة بعد انتهاء الجولة الثامنة    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    عمر هلال: نأمل في أن يقوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بزيارة إلى الصحراء المغربية    انطلاق بيع تذاكر ودية المغرب وأوغندا    قرب استئناف أشغال متحف الريف بالحسيمة    احتقان في الكلية متعددة التخصصات بالعرائش بسبب اختلالات مالية وإدارية    مصرع أربعيني في حادثة سير ضواحي تطوان    المغرب يتطلع إلى توقيع 645 اتفاقية وبروتوكولا ومعاهدة خلال سنة 2026.. نحو 42% منها اقتصادية    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    بورصة البيضاء تبدأ التداولات بانخفاض    حقوقيون بتيفلت يندّدون بجريمة اغتصاب واختطاف طفلة ويطالبون بتحقيق قضائي عاجل    اتهامات بالتزوير وخيانة الأمانة في مشروع طبي معروض لترخيص وزارة الصحة    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    البرلمان يستدعي رئيس الحكومة لمساءلته حول حصيلة التنمية في الصحراء المغربية    وقفة احتجاجية في طنجة دعما لفلسطين وتنديدا بحصار غزة    الركراكي يستدعي أيت بودلال لتعزيز صفوف الأسود استعدادا لوديتي الموزمبيق وأوغندا..    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    كيوسك الإثنين | المغرب يجذب 42.5 مليار درهم استثمارا أجنبيا مباشرا في 9 أشهر    توقيف مروج للمخدرات بتارودانت    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    زايو على درب التنمية: لقاء تشاوري يضع أسس نموذج مندمج يستجيب لتطلعات الساكنة    العيون.. سفراء أفارقة معتمدون بالمغرب يشيدون بالرؤية الملكية في مجال التكوين المهني    احتجاجات حركة "جيل زد " والدور السياسي لفئة الشباب بالمغرب    حسناء أبوزيد تكتب: قضية الصحراء وفكرة بناء بيئة الحل من الداخل    هنا المغرب    مؤسسة طنجة الكبرى: معرض الطوابع البريدية يؤرخ لملحمة المسيرة الخضراء    لقاء الجيش و"الماص" ينتهي بالبياض    تراجع عجز السيولة البنكية إلى 142,1 مليار درهم    تتويج المغربي بنعيسى اليحياوي بجائزة في زيورخ تقديرا لالتزامه بتعزيز الحوار بين الثقافات    "أونسا" ترد على الإشاعات وتؤكد سلامة زيت الزيتون العائدة من بلجيكا    الدار البيضاء تحتفي بالإبداع الرقمي الفرنسي في الدورة 31 للمهرجان الدولي لفن الفيديو    ست ورشات مسرحية تبهج عشرات التلاميذ بمدارس عمالة المضيق وتصالحهم مع أبو الفنون    المنتخب المغربي الرديف ..توجيه الدعوة ل29 لاعبا للدخول في تجمع مغلق استعدادا لنهائيات كأس العرب (قطر 2025)    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    بين ليلة وضحاها.. المغرب يوجه لأعدائه الضربة القاضية بلغة السلام    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فلسطين، العروبة، الإسلام، الإنسية، والنسائية
نشر في لكم يوم 24 - 08 - 2025

قال ياسين الحافظ (من جيل مفكرين العرب المطبوعين بأزمة 67) في كتابه "التجربة التاريخية الفيتنامية، تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية" (1997، ص. 7-8)، في إطار تعريفه لدلالة التجربة التاريخية لشعب ما والمنطق العقلاني الذي يحكمها، وهنا تحديدا "الشعب" العربي، "إن قيام إسرائيل لم يكن صدفة وإن استمرارها ليس أعجوبة: قامت إسرائيل على أنقاض التأخر العربي. إسرائيل جزاء تاريخي للتقليدوية العربية، وبالتالي، ستبقى ما بقيت هذه التقليدوية مهيمنة على الأيديولوجية العربية وعلى المجتمع العربي، وستزول مع زوال هذه التقليدوية. […] التأخر العربي وحده حمى ويحمي وسيحمي إسرائيل."
ماذا أصبح هذا الكلام يعني اليوم أن كان له من مدعاة قبل ما يقارب النصف قرن؟ وهل لايزال يحتفظ بجدواه؟ هل يشكل العرب حقيقة شعبا واحدا؟ هل الاشتراك في اللغة العربية أساس متين للوحدة، أو التضامن حتى؟ وهل يمكن للدين اليوم أيا كان، في حالتنا الإسلام، أن يحولنا إلى قوة فعالة ضد هيمنة الإمبريالية الجديدة؟ أسئلة من ضمن أخرى طرحت ولاتزال تفرض ذاتها علينا. هناك من لا يزال يؤمن بالإمكان الذي تستبطنه العروبة والإسلام من أجل التحرر، ولكن ما هي عدتهما معا لمواجهة عالمنا الجديد المسلح أكثر من أي وقت مضى بالمعرفة والعلم والتكنولوجيا؟ الأمس كاليوم عندنا، ولا شيء تغير في هذا المستوى هذه قورن حلت.
لنكن واقعيين، ليس هناك أي مؤشر اليوم يدل على أن العروبة والإسلام يمكن أن تشكل أفقا لحل المعضلة الفلسطينية كأم المعضلات في عالمنا العربي. كما لم يكن في تجربتنا التاريخية المعاصرة أي فعل في هذا الاتجاه. كل ما هو كائن حقيقة، صراعات إما ظاهرة أو ضمنية، ووحدها المصالح القطرية وحساباتها تملي طبيعة العلاقات بين الدول كيفما كانت لغتها وأيديولوجيتها. وأننا لم نستطع قط بناء ثقافة الوحدة والتضامن، ما عدا ما يتجلى منها أحيانا بشكل غير عقلاني لدى الشعوب في كرة القدم مثلا أو حول القضية الفلسطينية. ما عدا ذلك، الناس في بحثهم عن لقمة العيش منغمسون، والساسة في سياساتهم الضيقة غارقون.
يبدو أننا نجني ثمار لاعقلانيتنا حكاما ونخبة وشعبا منذ أزيد من قرنين من الزمن، أي منذ الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830)، وما تلاه من استعمار معظم البلدان العربية وما تولد عن ذلك من رفض للمعرفة العقلانية والعلوم الوضعية والاكتشافات بما فيها التقنية أحيانا، بحجة حماية بلداننا "المقدسة" من "دنس" المسيحيين. وكانت قلة قليلة ممن دعا إلى ان لا مخرج لنا من الضعف الشامل إلا بالاستفادة بما يفيد تقدمنا من هذه الحضارة الناهضة، وترك ما لا يستقيم و "الذوق" المغربي. وبان أن غشاوة أغشت بصر الحاكم و"المثقف". والأمر نفسه لا يزال يتكرر حتى اليوم؛ وإن كان بصورة مختلفة، فالجوهر واحد: نحن الأخلاق، وهم الدنس والرعونة. لكن هذه المرة مع استهلاك فج لما تنتجه الحضارة "العاهرة". لم نستفد من دروس التاريخ، وطالما التقليدانية لا تزال متمكنة من العقل المغربي، فلا أمل في النجاة من تخلف عقولنا، وتدني مَدنيَّتنا، وتعثر اقتصادنا، واستبداد سياستنا. إن ما يوحدنا موضوعيا هي التقليدانية، وإن كان من وحدة، فهي وحدة الانغلاق والتلذذ بمنظومة أخلاقية أقل ما يقال عنها أنها وهمية ومتخيلة أكثر منها واقعية.
رَبْط تحرير فلسطين بتحرير العقل العربي، وبوحدة العرب والمسلمين أو حتى تضامنهم، ضرب من ضروب الخيال، وحشر لها في طريق مسدود. وقد وعى الفلسطينيون منذ زمن طويل، أي منذ إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، أن لا العروبة ولا الإسلام سوف يحرر بلدهم، وأن وحدها سواعدهم ستفعل، وما طلبوه من هؤلاء، فقط ألا يطعنوهم في ظهورهم وألا يتهافتوا على حب إسرائيل وإن اضطروا هم على فتح الحوار مع الكيان الغاصب (اتفاق أسلو، 1993). غير أن ما نحصده من جلبة العروبة والإسلام عجعجة لغو لا طائلة منها وإن كان يغدق بعض الفتات على الدول المحبة لإسرائيل من العرب على الخصوص. فالدول العربية والإسلامية لا تنظر إلى فلسطين إلا من منظار حسابات آنية ضيقة فاقدة للنظر البعيد.
فلا مخرج للقضية الفلسطينية إلا بخروجها من هذا الأفق العروبي الإسلامي، إلى الأفق الإنساني المكون من حرات وأحرار العالم، أينما كانوا في حركة كونية موحدة حول قيم ما بعد الإنسان المتمثلة في الحق في الحياة الكريمة وما تتطلبه من الحق في الوجود المستقل، بعيدا عن ثقافةِ مركزيةِ الإنسان، في انسجام مع باقي المكونات الأخرى لعالمنا.
فلسطين أكبر من أن تحشر في الزحام الهوياتي كيفما كان، على أساس الدين أو الإثنية. هي قضية الضمير الإنساني الحي، قضية الإنسانية جمعاء. لأنها تجاوزت حدود المقاومة من أجل الاستقلال، إلى المقاومة ضد الإبادة والتطهير العرقي ضد شعب أعزل، بل إلى مقاومة الإنسانية جمعاء ضد إبادة القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي والقيم المؤسسة لهما. وهكذا أصبحت المقاومة تتعدى منْ تُمارس عليهم الإبادة بشكل مباشر، لتشمل بمسؤولياتها الجميع وبشكل مباشر، من أضعف الإيمان بإماطة أذى الاقتصاد الداعم للعقل الصهيوني الإمبريالي وذلك بمعرفته لمقاطعته، وبالخروج إلى الشارع للضغط على الدول والحكومات، وهذا واجب كل الشعوب التواقة إلى احقاق العدالة في العالم ورفع الاستعمار عن الشعب الفلسطيني، وفضح جميع أشكال التماهي والتشجيع للهِيبِّرونازية الممارس بمنطقتنا المغاربية والعربية، وهذه مهمتنا نحن شعوب هذه المنطقة بالدرجة الأولى. تتوفر اليوم الشروط لبناء حركة كونية من أجل فلسطين ودولتها المستقلة الحرة، وهي موضوعيا الآن موجودة، لكن أثرها على إيقاف الدمار الذي يقترفه النازيون الجدد لا يزال لم يبلغ درجة الحسم في الوقت المناسب، لأن كل يوم يمر، يكون ثمنه باهظا على الفلسطينيين وعلى قضيتهم.
إن الممارسات اللاإنسانية التي يمارسها النازيون الجدد تقض مضاجعنا وطمأنينتنا هنا بالمغرب وفي كل مكان به عقل إنساني، ولم يعد من حديث بين الشباب وكبار السن وغيرهم غير التعبير عن العجز والاستياء مما نتجرعه يوميا جراء هزيمتنا في التأثير على حكامنا، وليس لنا ولا في مقدورنا وتفكيرنا إلا العمل السلمي المتحضر. إن عدم استجابة الحكام للحراكات الشعبية سوف يغذي وسط فئات عريضة من الشباب، من جهة، ثقافة الكراهية والتطبيع مع المذابح البشرية المذرة للعنف، ومن جهة أخرى، تفشي نفسية الخنوع والإحباط الكابحة للتقدم والتنمية الإنسانية.
التفرج على إبادة الشعب الفلسطيني يعد مساهمة فيها بشكل غير مباشر. ولذلك نجد اليوم كل شعوب العالم تنتفض ضد هذه الجريمة المصورة والمنقولة بكل حذافيرها على المباشر أمام أعين العالم برمته. فهذا الغرب الذي نلعنه ونسبه على نفاقه وتناقضاته، ونحن محقون في ذلك، وهؤلاء المناهضون للحداثة والديمقراطية والعقل الإنسي الآكلين للغلة والناعلين للملة، الباحثين "بالفتيلة والقنديل" عن الأسباب والمتحينين لكل شاذة وفادة، للنيل من التراث الإنسي الكوني، وتصفية الحساب التاريخي. إن هذه الحضارة الحداثية "المنعولة" هي التي جعلت شعوبها تنتفض ضد الظلم، وهي ذاتها التي تجبر حكوماتها على الاستماع إلى نبض شارعها والخضوع إلى ما تعبر عنه. فما اتخذته بعض الدول (ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا)، المتماهية بدون حدود مع المنظومة الصهيونية، من مواقف، كأمثلة لعتاة الداعمين للصهيونية، يسائلنا جميعا، فبالرغم من التراجعات التي تعرفها الديمقراطية بالعديد من البلدان الغربية المتمثلة في تنامي التيارات اليمينية المتطرفة، فإن البلدان العربية والإسلامية التي يعول عليها لم تستطع، طيلة تاريخ القضية الفلسطينية، أن تتبنى مواقف صارمة وفعالة من أجل إيقاف الإبادة وضمان الأمن للفلسطينيين العزل والوقوف الصارم ضد الطموحات التوسعية الصهيونية. فلم تجرؤ البلدان العربية حتى على تعليق تطبيعها مع هذه الحكومة الصهيونازية غير المسبوقة في تاريخ الإنسانية. فلن تعفي الإعانات الضعيفة والمواقف الفاقدة للأثر على أرض الواقع، التي تقوم بها البلدان العربية المطبعة، من المسؤولية التاريخية في تصفية القضية الفلسطينية وإبادة الشعب الفلسطيني. فماذا تنتظر هذه البلدان لتفك علاقاتها مع أكبر الحكومات الإسرائيلية تطرفا ودموية؟ وأما اليهود الذين من المفروض باسمهم حدث استعمار فلسطين من أجل إقامة دولة لهم، قد صرخوا بصوت عال في كل من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا وغيرها، ولم يعودوا قادرين على تحمل تبعات نظام صهيونازي، رافضين أن يحدث ذلك باسمهم. ولم يتوقف الأمر عند حركة يهود العالم "ليس باسمنا" «No in our name »، بل أصدرت منظمة حقوقية من قلب إسرائيل "بِتْسيلم" في يوليوز 2025 تقريرا يحمل عنوان " إبادتنا=Our Genocide" (our_genocide_eng.pdf). يرسم فيه بشكل دقيق الفعل الصهيوني المحكم منذ 1948، يتتبع سياسة الإبادة كسيرورة لنظام الأبرتايد لدولة إسرائيل، اعتمادا على الهندسة الديمغرافية، والتطهير العرقي، والفصل العنصري. ويقف على ما يتعرض له الفلسطينيون في كل من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وكافة البلاد من سياسة ممنهجة ترتكز على التقتيل وممارسة كل أشكال السلوكيات العدائية للتضيق عليهم في حياتهم اليومية وما يترتب عن ذلك من الأذى الجسدي والنفسي الجسيم، من القصف الجوي والترحيل الجماعي، كما وقفت على السياسة الإسرائيلية الممنهجة للقضاء على المجتمع الفلسطيني، وأكدت بوضوح ودون مواربة على فعل الإبادة الذي تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين بقطاع غزة.
وقد عرى التقرير السياسة الاستعمارية الإسرائيلية المبنية على تكريس التفوق اليهودي على الفلسطينيين في جميع المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية عبر الارتكاز على أساليب الفصل العنصري وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، وتدمير كل ظروف المعيشة اللائقة واللجوء للتجويع كآلية حربية. والقضاء على كل البنيات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية. وسجل التقرير ما قام به الجيش الإسرائيلي من تدمير للتراث التاريخي والديني الفلسطيني بحلول يونيو 2024، إذ قضت إسرائيل على حوالي 206 مواقع أثرية وتاريخية في قطاع غزة، بما في ذلك الأسواق العامة والأحياء القديمة، بعضها يبلغ من العمر أكثر من ألف عام. وفي عدة حالات، نهبت القوات العسكرية الإسرائيلية الآثار من المواقع الأثرية والمتاحف في جميع أنحاء القطاع. ومن تدمير المكتبات والمتاحف والأرشيفات والمسارح وغيرها من المؤسسات الثقافية، بما في ذلك الأرشيف المركزي لمدينة غزة. تم تدمير السجلات التاريخية المحفوظة هناك، والتي يعود تاريخ بعضها إلى 150 عامًا، في حريق. وقد قدرت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة أن الداخل المبنى من المحتمل أنه أُشعلت فيه النيران خلال الفترة التي كانت فيها القوات الإسرائيلية تعمل في المنطقة. وقد لخص التقرير مرتكزات السياسة الإسرائيلية لتدمير المجتمع الفلسطيني وارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، في ثلاثة أسس، 1. نظام الفصل العنصري، بما في ذلك الفصل والهندسة الديموغرافية والتطهير العرقي؛ 2. تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتصويرهم كتهديد وجودي للإسرائيليين؛ 3. والاستخدام المنهجي والمؤسسي للعنف ضد الفلسطينيين، مع إفلات الجناة من العقاب بحكم الأمر الواقع. كما حذر من خطر واضح ووشيك من أن الإبادة الجماعية لن تظل محصورة في غزة.
ماذا يعني لنا نحن المغاربة بالخصوص كل هذا، اعتبارا للعلاقات "الطبيعية" التي تربط الدولة المغربية بالدولة الإسرائيلية مع حكومة هِيبِّرنازية؟ وماذا بإمكاننا القيام به نحن كمجتمع مدني بمعناه الشامل من منظمات نسائية وحقوقية وسياسية، ونقابية، وثقافية، وبيئية؟
إن ما نعيشه اليوم علاقة بالقضية الفلسطينية يحتم علينا الوقوف على ما يلي:
1- أن المقاومةَ الفلسطينية اليوم تقودها التيارات الإسلامية، وكونها تعتمد الدين لشحذ الهمم والعزائم فهذا لا يعيبها، مهما كانت الاختلافات الأيديولوجية معها، في مقاولة محاربة الاستعمار ومقاومة الإبادة، بل على العكس، طوبى لها وللشعب الفلسطيني الذي استطاع في كل مرة أن ينجب من داخل دينامياته الخاصة والمتفاعلة مع محيطها الجغرافي، أبناء وبنات لا ترضى الذل، يدودون على الحرية والكرامة. ألم تقد جهاد، الاسم الحركي لدلال المغربي، المنخرطة في الجناح العسكري لحركة فتح، عملية "كمال عدوان" في مارس 1978 ببسالة كلفتها حياتها؟ وليلى خالد المنخرطة في الجناح العسكري للجبهة الشعبية، ألم تنجز عمليتي اختطاف لطائرتين (1969، 1970)، التي لم يكن هدفها إلحاق الأذى بأحد، بل فقط فرض شروط لتبادل الأسرى؟ ألم ترعب ليلى خالد الكيان الصهيوني آنذاك؟ سقت أسماءً لنساء قدن أشكالا مختلفة من المقاومة في تيارات سياسية مختلفة، نظرا للرمزية التي تنطوي عليها، الموجهة لبعض الفعاليات المغربية المتوجسة أو الرافضة للاعتراف بالطابع المقاوم للحركة الإسلامية الفلسطينية. المشترك بين كل هذه الاختلافات الإيديولوجية هو فعل المقاومة، وهذا هو الأهم، فمن يحمل راية المقاومة اليوم ليس من حمله البارحة، وبالتأكيد سوف لن يكون من يحمله غدا.
2- قد قُلبت البركة الآسنة رأسا على عقب بعدما كاد النسيان يطوي المعاناة اليومية للفلسطينيين ويطوي قضية حقهم في دولتهم المستقلة كبقية الدنيا، وفُضحت السردية الصهيونية المتدثرة بغطاء الديمقراطية، على أنها سردية تخفي وراءها طموحات كيان عنصري غاصب متعطش للدماء والسلطة المطلقة التوسعية. كما كُشف عن هشاشة ولا واقعية الأطروحات الوحدوية المبنية على الإثنية العربية والدين الإسلامي، وذلك باستفحال داء العجز الوحدوي المتمكن من مفاصل الدول العربية والإسلامية بما فيها قواها الحية، التي لم تبرح مستوى إعلان المبادئ غير الفعال والذي لا يفيد الفلسطينيين في بناء دولتهم الفلسطينية المستقلة الآمنة، ولن يوقف سياسة الإبادة الممنهجة التي يعتمدها النازيون الجدد. وهذا إنجاز للمقاومة الإسلامية الفلسطينية رغم ثمنها الباهظ على الشعب الفلسطيني.
3-بمقدورنا، نحن الشعب المغربي ومعنا باقي شعوب الأرض المستضعفة، استعمال أفتك سلاح اليوم ألا وهو السلاح الاقتصادي. الاقتصاد بمعناه المتجدد، أي بما فيه الاقتصاد الرقمي الذي قد تمكن من مفاصلنا، عبر التحكم في استهلاكنا له. وأن نمارس سيادتنا الوطنية عبر مقاطعة المنتوجات التي تصب في طاحونة النازيين الجدد وعرابيهم، بأن نجعل من معركة رفع الوعي الشعبي بحمل سلاح المقاطعة عبر عمل مدني منظم وطويل النفس، لا تختص به منظمة بعينها، في الأحياء الشعبية وكل الأماكن العمومية حتى يتوقف دمار الامبريالية الصهيونية ورأسمالية الرقابة. المقاطعة وعقلنة الاستهلاك بما في ذلك الرقمي، حرب فتاكة على جبهتين، جبهة إضعاف تموين حرب الإبادة على الفلسطينيين، وجبهة حماية البيئة وتعزيز السيادة الوطنية وسلطة الشعوب في الانخراط في التغيير على المستوى الوطني والتخفيف من حدة آثار الإنتاج الرأسمالي المتوحش المفرط على البيئة وعلى التوازنات التجارية المختلة لفائدة البلدان الصناعية بجيليها، جيل الثورة الصناعية الأولى والثانية للبلدان الأطلنطية الصناعية، وجيل الثورة الصناعية الثالثة وعنوانها الصين والهند. فقد يصبح "الاستهلاكُ المقاوم" شعارا ثوريا يهدف إلى بناء ثقافة جديدة مبنية، من جهة، على عدم استهلاك أي منتوج يؤدي إلى تقوية جبروت الإمبريالية والصهيونية، ومن جهة أخرى، على الاعتدال في الاستهلاك من أجل حماية البيئة وحماية البلاد من التقلبات الخارجية ذات الطبيعة البنيوية التي أصبحت تميز عصرنا.
4- ضرورة استرجاع الحركة النسائية المغربية لشعار مناهضة الامبريالية والصهيونية الذي تبنته في نهاية الثمانينات بعض الجمعيات النسائية وعلى رأسها اتحاد العمل النسائي الذي وضعه ضمن أهدافه في قانونه الأساسي، وإيقاف الأشكال الناعمة من التطبيع المدني مع الثقافة الامبريالية الداعم الرئيسي للنازيين الجدد، وذلك بالعودة إلى اختيار الشركاء الدوليين على أساس دعمهم للقضايا العالمية العادلة، ابتداء من تصفية كل أشكال الاستعمار، وعلى رأسها احتلال الإسرائيلي لفلسطين. وإعادة إحياء أو إنشاء شبكات نسائية مقاومة للثقافة الإمبريالية على المستوى الإقليمي والدولي. وهذا يعني، استرجاع الحركة النسائية لنفسها السياسي المقاوم من أجل بناء الديمقراطية التي من دونها لن يستقيم استنبات المساواة بين النساء والرجال في تربتنا.
تطوان، 23 غشت 2025


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.