أصبح "إسماع الصوت" (VOICE) في السنوات الأخيرة مفهوماً مركزيًا في أدبيات الحكامة الديمقراطية والمواطنة الفاعلة. فبعد أن كان الحق في التعبير والاحتجاج محصورًا في فئات محددة أو مرتبطًا بالسياقات السياسية الضاغطة، شهد هذا المفهوم تحوّلاً لافتًا في الممارسة، خصوصًا في العالم العربي، والمغرب تحديدًا. فقد برز جيل زد كمثال حي على هذا التحوّل، حيث أعاد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وفرض نفسه كفاعل اجتماعي جديد استطاع تحويل "الصوت" من مجرد شعار إلى مكسب تاريخي فعلي للمواطنين المغاربة.
الصوت كمفهوم: الإطار النظري يشير "الصوت" إلى مجموعة من الآليات الرسمية وغير الرسمية التي يعبّر من خلالها الأفراد عن آرائهم وتفضيلاتهم ومواقفهم تجاه السياسات أو أداء الدولة. ويتخذ ذلك أشكالاً متعددة: تقديم الشكاوى، الاحتجاج السلمي، الترافع، المشاركة في اتخاذ القرار، والمراقبة المجتمعية (Goetz & Gaventa, 2001). ويؤكد الباحثان غوتز وجينكينز (2002، 2005) أن "الصوت" يحمل ثلاث وظائف أساسية: قيمة ذاتية: فحرية التعبير حق إنساني أصيل. آلية للمساءلة: حيث لا تتحقق المحاسبة دون صوت مواطن فعّال. أداة لبناء المعايير الجمعية: من خلالها تتفق المجتمعات على قيم العدالة والشرعية والمساءلة. لكن ممارسة "الصوت" ليست دائمًا سلسة، فهي تتأثر بعوامل متعددة منها: الوعي والتمكين الفردي. البيئة المؤسساتية والقانونية. السياق السياسي والاجتماعي والثقافي. وقد تكون هناك أيضًا مخاطر مرتبطة بتعدد الأصوات، مثل إضعاف جودة الحوار، أو زيادة التكاليف المؤسساتية، أو استغلال الأصوات في إرباك النظام الديمقراطي إن كانت الدولة غير مهيأة للتفاعل معها (Malik & Waglé, 2002). جيل زد في المغرب: تجسيد جديد لإسماع الصوت ضمن هذا الإطار النظري، يبرز جيل زد في المغرب كترجمة عملية وحديثة لهذا المفهوم. فقد شكّل هذا الجيل، الذي وُلد في عصر الرقمنة والانفتاح الإعلامي، نقطة تحول في علاقة المواطن بالدولة. لم يعد ينتظر وسيطًا ينوب عنه، بل قرر أن يُمارس حقه في التعبير و"إسماع صوته" بنفسه. من الاحتجاج إلى المطالبة بالحقوق: لم يعد الهدف من التظاهر مجرد التعبير عن الغضب، بل أصبح أداة للمطالبة بحقوق دستورية مشروعة: الصحة، التعليم، العدالة الاجتماعية، الكرامة، ومحاسبة المسؤولين. الجرأة مع السلمية: يمارس جيل زد احتجاجه بشكل سلمي ولكن بشجاعة. لا يكتفي بالإدانة، بل يستخدم أدوات العصر: وسائل التواصل، الحملات الرقمية، البودكاست، الفيديوهات القصيرة، وكل ما يتيح وصول صوته إلى أبعد نقطة. اقتحام الفضاء العمومي: لم يعد هذا الجيل محصورًا في الشارع، بل أصبح صانعًا للرأي العام، مؤثرًا على الخطاب الإعلامي، وسرعان ما تتحول قضاياه إلى "ترندات" تفرض نفسها على أجندة الحكومة. تحوّل في تفاعل الدولة مع الصوت لقد فرضت دينامية هذا الجيل على الدولة المغربية إعادة النظر في علاقتها بالاحتجاج والتعبير. فبعد عقود من التضييق، بدأت تظهر بوادر انفتاح نسبي على التظاهر السلمي، والاعتراف بأن إسماع الصوت ليس تهديدًا، بل آلية لتصحيح السياسات. لكن هذا التفاعل لا يخلو من تناقضات: في بعض الحالات، يكون الرد سريعًا وإيجابيًا. وفي حالات أخرى، تظهر مقاومة مؤسساتية أو محاولة لتقزيم المطالب أو تجاهلها. وهو ما يبرز الحاجة إلى إصلاح مؤسساتي يواكب هذا التحول، ويحوّل إسماع الصوت من استثناء مُباح إلى حق مضمون ومؤطر. من "إسماع الصوت" إلى "تحقيق التأثير": التحدي القادم ممارسة إسماع الصوت لا تكفي إذا لم تُقابلها استجابة فعلية من الدولة. فكما أشار غوتز وجافينتا، الصوت بدون مساءلة يفقد مضمونه. وهنا يكمن التحدي: كيف نحوّل إسماع الصوت إلى آلية للتغيير؟ كيف نضمن أن أصوات الشباب تترجم إلى سياسات وخدمات؟ وكيف لا نكتفي بمجرد المشاركة الرمزية أو التشاورية؟ جيل زد لا يبحث فقط عن "حق في الحديث"، بل عن حق في التأثير. وهذا يتطلب بيئة ديمقراطية حقيقية، وإرادة سياسية، وآليات مؤسساتية تضمن الفعالية والعدالة في الاستماع والتنفيذ. خاتمة: إسماع الصوت ليس النهاية، بل البداية لقد استطاع جيل زد في المغرب أن ينتزع بصوته اعترافًا وشرعية جديدة في المشهد السياسي والاجتماعي، لكنه يدرك أن إسماع الصوت ليس غاية في حد ذاته، بل هو نقطة انطلاق نحو مشاركة حقيقية. هذا الجيل لا يريد فقط أن يُسمع، بل أن يُستجاب له، وأن يُحسب له حساب في رسم مستقبل وطنه. وإذا أحسنت الدولة الإصغاء لهذا الصوت، فإنها تمتلك فرصة ثمينة لبناء عقد اجتماعي جديد يقوم على الثقة والتعاون، ويؤسس لمغرب أكثر عدالة وحرية ومشاركة. ففي صوت الشباب اليوم، بذور الغد الأفضل. مقولة على الهامش "الديمقراطية لا تبدأ بالانتخابات، بل تبدأ حين يشعر كل فرد أن صوته مسموع وله وزن." — أمارتيا سِن ¤ باحث وخبير دولي في الحكامة ومكافحة الفساد