كشف التحليل الدولي للقطاع الصناعي أن المغرب أصبح في عام 2024 البلد الذي يسجل أدنى تكلفة يد عاملة لكل مركبة على مستوى العالم، متقدما على كل من رومانياوالمكسيك، وفقا للبيانات الواردة في أحدث تقرير أصدرته الشركة الاستشارية "أوليفر وايمان" بعنوان "التعمق في تكاليف اليد العاملة لكل مركبة". أوضح التقرير أن تكلفة اليد العاملة لكل مركبة في المغرب بلغت 106 دولارات أميركية فقط، وهو أدنى رقم مسجل بين 18 دولة تم تحليلها، ما يعكس التحول العميق الذي عرفه هذا البلد في سلاسل الإنتاج الدولية لصناعة السيارات، خصوصا في سياق تنافسي عالمي يتسم بتباطؤ مبيعات السيارات الكهربائية وتشديد السياسات التجارية في الولاياتالمتحدة.
وأشار التقرير إلى أن هذا الإنجاز المغربي جاء في وقت يعرف فيه الاقتصاد الصناعي الدولي ضغوطا حادة ناجمة عن الرسوم الجمركية الأميركية المتزايدة، والمنافسة الصينية العدوانية في الأسواق الخارجية، فضلا عن التراجع النسبي في الطلب على المركبات الكهربائية. وأبرز أن هذه التطورات العالمية دفعت شركات السيارات الكبرى إلى إعادة توزيع طاقاتها الإنتاجية نحو مناطق توفر توازنا بين الكفاءة الإنتاجية وتكاليف اليد العاملة، حيث برز المغرب كخيار إستراتيجي رئيسي خاصة بالنسبة للمصنعين الفرنسيين. مركز انتاج منخفض التكلفة للشركات الفرنسية ووفقا للتقرير، فإن المغرب تحول إلى مركز إنتاج منخفض الكلفة بالنسبة لمصنّعي السيارات الفرنسيين على غرار الطريقة التي اعتمدتها شركات "ديترويت ثري الأميركية في نقل جزء كبير من إنتاجها إلى المكسيك منذ أربعة عقود. وأكدت الدراسة أن أكثر من نصف إنتاج شركات السيارات الفرنسية يتم اليوم خارج فرنسا، وأن مصانعها في المغرب تمثل أحد أهم أعمدة هذه الإستراتيجية. ويرى التقرير أن هذا التوجه مكّن الشركات الفرنسية من الحفاظ على قدرتها التنافسية في مواجهة الارتفاع المتواصل للأجور في أوروبا الغربية وتزايد تكاليف الطاقة عقب الحرب في أوكرانيا. في المقابل، بيّن التقرير أن معدل التكلفة في رومانيا بلغ 273 دولارا لكل مركبة، فيما سجلت المكسيك 305 دولارات، وتركيا 414 دولارا، والصين 597 دولارا، وبولندا 663 دولارا، وجمهورية التشيك 691 دولارا، واليابان 769 دولارا، في حين ارتفعت الكلفة إلى 3307 دولارات في ألمانيا، التي تصدرت لائحة الدول الأعلى تكلفة، وذلك بسبب قوة النقابات العمالية والصرامة التنظيمية في ساعات العمل، بحسب ما ورد بالحرف في تقرير أوليفر وايمان 2025. وأشار التقرير كذلك إلى أن الإنتاج الصناعي المغربي سجل نموا بنسبة 29 في المئة بين 2019 و 2024، وهي أعلى زيادة بين الدول التي شملها التحليل، في وقت سجلت فيه دول أوروبية متقدمة تراجعا في إنتاج السيارات تراوح بين 2 في المئة و 36 في المئة. ويُعزى هذا الأداء المغربي، حسب المصدر ذاته، إلى ارتفاع الإنتاجية وتحسين البنية التحتية الصناعية، إضافة إلى توسع شبكة المصانع الحديثة التي تستفيد من وفرة اليد العاملة الماهرة وانخفاض التكاليف التشغيلية. وأوضح التقرير أن انخفاض تكلفة اليد العاملة في المغرب لم يعد مرتبطا حصرا بالأجور المنخفضة، بل أيضا بارتفاع الإنتاجية وكفاءة سلاسل التوريد المحلية، ما جعله منافسا حتى لدول آسيوية كالصين التي كانت تاريخيا تُعد مركزا للإنتاج منخفض الكلفة. واعتبر خبراء أوليفر وايمان أن هذه التحولات تعكس "إعادة تشكيل جغرافية الإنتاج الصناعي العالمي"، حيث أصبح شمال أفريقيا، والمغرب خصوصا، جزءا من منظومة التوريد الأوروبية المتكاملة، على غرار ما تمثله المكسيك بالنسبة لسوق أميركا الشمالية. تركياوالصين تخرجان من دائرة الدول الأرخص كلفة وفي تحليل السياق الإقليمي، أشار التقرير إلى أن التضخم المرتفع في تركيا دفع الأجور الشهرية إلى مستويات تضاهي اليابان، حيث تضاعفت ثلاث مرات خلال ثلاث سنوات، مما أخرج أنقرة من دائرة الدول الأرخص كلفة. أما الصين، فرغم استمرار انخفاض أجورها مقارنة بالغرب، فقد فقدت موقعها كأدنى تكلفة عالمية بسبب الزيادات السريعة في المناطق الساحلية وارتفاع أسعار الطاقة، وهو ما أتاح لدول مثل المغرب ورومانيا احتلال موقع الصدارة في التصنيف الجديد. وأكد التقرير أن نسبة العمالة إلى الإنتاج في المصانع الصينية لا تزال أعلى من نظيراتها في الشركات المشتركة الغربية المقامة في الصين، مما يفسر التفاوت الداخلي الكبير في تكلفة العمل داخل السوق الصينية نفسها. وتضمن التقرير مقارنة مفصلة بين أربعة أنماط رئيسية من مصنّعي السيارات؛ بما فيها الشركات الأوروبية الفاخرة مثل "مرسيدس-بنز" و"بي إم دبليو" و"أودي" و"جاجوار لاند روفر" التي سجلت أعلى متوسط تكلفة يد عاملة بلغ 2232 دولارا لكل مركبة؛ والشركات المتخصصة في المركبات الكهربائية فقط مثل "تسلا" و"ريفيان" بمتوسط 1660 دولارا؛ والمصنّعون التقليديون للطرز الشائعة في فرنسا وإيطاليا والولاياتالمتحدةواليابان وكوريا الجنوبية بمتوسط 880 دولارا؛ وأخيرا المصنّعون الصينيون الذين احتلوا المرتبة الأدنى ب 585 دولارا للمركبة. إلا أن التقرير لاحظ أن المغرب ورومانياوالمكسيك تقدموا حتى على هذا المتوسط الصيني، ما يعيد رسم الخريطة الجغرافية للتنافس في تكاليف التصنيع. وأشار التقرير كذلك إلى أن العامل الحاسم في خفض التكاليف هو تقليص "الساعات الهندسية لكل مركبة"، أي الوقت اللازم لتصميم وتصنيع مركبة واحدة. وقد تمكنت المصانع الصينية من خفض هذا المؤشر إلى النصف مقارنة بالمصانع الأوروبية الفاخرة، بفضل حداثة مصانعها واعتمادها على أتمتة عالية ومستوى محدود من تنوع الطرز. لكن التحليل أوضح أن المصانع الواقعة في المغرب، والتي تخدم خصوصا مجموعتي "رونو" و"ستيلانتيس"، تستفيد من خصائص مشابهة، تشمل منشآت حديثة، عمليات إنتاج مبسطة، وعدد محدود من الطرز والمحركات، مما يرفع الكفاءة ويخفض التكلفة النهائية لكل مركبة إلى أدنى مستوياتها عالميا. موقع آمن وقريب من أوروبا وفي الجانب الدولي، تناول التقرير تأثير تكاليف الطاقة على الكلفة الإجمالية لكل مركبة، موضحا أن ألمانياوفرنسا تواجهان أوضاعا متباينة، إذ ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في ألمانيا بسبب الحرب الأوكرانية، بينما استفادت فرنسا من انخفاض أسعار النفط ومن طاقتها النووية. أما الصين فحافظت على انخفاض أسعار الطاقة من خلال استمرار اعتمادها على الفحم رغم تعهداتها بتقليل الانبعاثات. وعلى الرغم من أن هذه العوامل لا تدخل مباشرة في حساب تكلفة اليد العاملة، إلا أنها تؤثر على الكلفة الإجمالية للإنتاج وعلى تنافسية مواقع التصنيع المختلفة، بما فيها المغرب الذي يستفيد من استقرار نسبي في أسعار الطاقة مقارنة بالأسواق الأوروبية. كما سلط التقرير الضوء على إعادة هيكلة سلاسل التوريد العالمية منذ جائحة كوفيد-19 وأزمة أشباه الموصلات، مشيرا إلى أن الشركات تسعى اليوم إلى تنويع مصادرها والاعتماد على القرب الجغرافي للإنتاج لتفادي الاضطرابات اللوجستية المحتملة أو الرسوم الجمركية الجديدة التي تلوّح بها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وذكر التقرير أن هذا التوجه يعزز مكانة المغرب بصفته موقعا آمنا وقريبا من أوروبا الغربية، ما يجعله مستفيدا مباشرا من التحولات الجيوسياسية في سلاسل القيمة العالمية. ويرى التقرير أن التجربة المغربية تمثل مثالا على "التحول البنيوي في سلاسل القيمة الأوروبية"، إذ إن قربه الجغرافي من الاتحاد الأوروبي واتفاقياته التجارية المتقدمة وموانئه المجهزة جعلت منه محورا إقليميا لتجميع السيارات الموجهة للأسواق الأوروبية والأفريقية. وأكدت أوليفر وايمان أن هذا النموذج "يشبه إلى حد كبير النموذج المكسيكي" الذي ساعد الشركات الأميركية على خفض كلفة إنتاجها لعقود، لكنه أكثر استدامة نظرا إلى استقرار البيئة الاقتصادية المغربية وتنامي الاستثمارات في التكنولوجيا الصناعية.