العرائش أنفو بينما يفترض أن تكون منابر الجمعة قلاعا للقيم ومنارات للهداية، يغرق مجتمعنا المغربي في واقع مغاير، واقع تصدح فيه أرقام العنف والطلاق، وتستشري فيه آفات المخدرات والدعارة والفساد المالي والإداري وخيانة الأمانة والغش في البيع والشراء وغياب الضمير، وتتفكك فيه الأسر وتضيع بوصلة التربية. مفارقة صارخة بين ما يقال وما يعاش، بين المأمول والواقع المرير الذي يصفعنا كل يوم. لا يمكن إنكار الدور التاريخي لخطبة الجمعة في تشكيل وعي الأمة وترسيخ قيمها. لكن، هل ما زالت هذه الخطب تؤدي دورها المنشود اليوم؟ هل كلماتها الرنانة تخترق جدار اللامبالاة الذي بات يلف الكثيرين؟ الواقع يشير إلى أن التأثير يتضاءل. ففي الوقت الذي ينتظر فيه أن تكون الخطبة شحنة روحية وأخلاقية أسبوعية، نجد أن تجليات القيم في السلوك اليومي للمواطن المغربي تبعث على القلق العميق. العنف يستشري في الشوارع والبيوت، نسب الطلاق ترتفع بشكل مخيف، الدعارة تظهر وتنتشر بالنهار قبل الليل، استهلاك الخمر والمؤثرات العقلية ينخر شبابنا، الأسرة تتصدع، والمرأة تعاني، وسوء التربية يفرخ أجيالا تائهة. قد يكون هناك بالفعل حاجة لمراجعة وتجديد في الخطاب وأساليبه ليواكب العصر. لكن، هل يقع اللوم على الخطبة وحدها؟ أم أن المجتمع هو من يدير ظهره لهذا المنبر؟ المقاهي تكتظ بالرجال وقت الصلاة، والشوارع لا تهدأ، في مشهد كان غريبا على آبائنا وأجدادنا حيث كانت الحركة تتوقف تماما. تناقض صارخ! وحتى داخل بيوت الله، مشاهد تبعث على الأسى: لباس قد لا يليق بحرمة المكان، روائح كريهة تنبعث من البعض دون اكتراث، بل وغفوة عميقة أثناء الخطبة، وكأن الأمر لا يعنيهم، فتحولت الخطبة لدى البعض إلى مجرد إسقاط واجب أو طقس اجتماعي فارغ من مضمونه الروحي. يضاف إلى ذلك، شبح الأمية وتدني المستوى التعليمي الذي يحول دون فهم مقاصد الخطبة وغاياتها النبيلة لدى شريحة واسعة. في زمن التفاهة الطاغية، حيث الهواتف الذكية أصبحت امتدادا للأيدي والعقول، كيف لخطبة لا تتجاوز الدقائق أن تنافس سيلا جارفا من المحتوى الاستهلاكي الفارغ الذي يكرس عقلية سطحية؟ الناس، على اختلاف أعمارهم وانتماءاتهم، ملتصقون بشاشاتهم، ينهلون منها منشورات التفاهة بنهم لا ينقطع. فكيف للكلمة الهادفة أن تجد لها مكانا في عقول أدمنت الإثارة السريعة والسطحية المطلقة؟ وكيف لخطبة الجمعة، هذا الموروث الروحي العظيم، أن تستعيد بريقها وتأثيرها في مواجهة هذا المد الثقافي المسموم والدخيل الذي يصل بسرعة وسهولة إلى كل بيت وكل عقل، مكرسا عقلية الاستهلاك والفردانية؟ إنها أسئلة الساعة الملحة. هل نحن أمام حتمية تحول خطبة الجمعة إلى مجرد ذكرى باهتة، أم أن هناك أملا في صحوة ضمير جماعية تعيد للمنبر دوره المركزي في بناء مجتمع القيم والفضيلة، ليس بالكلمات فقط، بل بالأفعال والتغيير الحقيقي؟ الإجابة معلقة، والتحدي قائم، والمستقبل على المحك.