حموشي يجري زيارة عمل إلى فيينا    المغرب وإسبانيا يتوقعان زيادة عدد المسافرين في عملية "مرحبا 2025"    جلالة الملك يعطي انطلاقة إحداث منصة المخزون والاحتياطات الأولية لجهة الرباط- سلا- القنيطرة    شراكة مبتكرة لدفع التحول الرقمي في الصناعة التقليدية المغربية    كأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة.. المغرب يتأهل لربع النهائي متصدرا مجموعته بفوزه على تونس (3-1)    لمواجهة الكوارث.. الملك يعطي انطلاقة إحداث منصة للمخزون والاحتياطات الأولية    المصطفى الرميد: لا تعارض بين الانحياز لقضايا المغرب ونصرة غزة    صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء تزور بباكو المؤسسة التعليمية "المجمع التربوي 132–134" في إطار مشروع التوأمة التربوية بين الرباط والعاصمة الأذربيجانية    الأخضر ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    المغرب يتجاوز تونس بثلاثية ويتأهل لربع نهائي كأس إفريقيا للشباب    العصبة تكشف برنامج الجولة الأخيرة من البطولة الاحترافية    بلقشور يكشف موعد نهاية البطولة    مجلس أوربا: قانون العقوبات البديلة "منعطف تاريخي" في المنظومة القضائية المغربية    رئيس الحكومة الإسبانية يثني على مساهمة المغرب في تجاوز أزمة انقطاع التيار الكهربائي    صحيفة أجنبية: المغرب يعد الوجهة السياحية الأولى في إفريقيا    وزير الدفاع الباكستاني: التوتر مع الهند قد يؤدي إلى حرب نووية    تُهرّب الحشيش من شمال المغرب.. إسبانيا تُطيح بشبكة إجرامية في الجنوب    الجزائر تواصل مطاردة المثقفين.. فرنسا تتلقى مذكرتي توقيف دوليتين ضد كمال داود    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    توقيف مواطنين فرنسيين من أصول مغربية يشتبه تورطهما في قضية تتعلق بالسكر العلني وارتكاب حادثة سير بدنية مع جنحة الفرار    الأطرالصحية ونقابة الجامعة الوطنية للصحة بعمالة المضيق الفنيدق تضع يدها على ملف ساخن وتستنكر تعطيل خدمات تقويم البصر بمصحة النهاري بمرتيل    تعليمات جديدة من لفتيت للأمن والولاة: لا تساهل مع السياقة الاستعراضية والدراجات المعدلة    "العفو الدولية": تهجير إسرائيل فلسطينيي غزة "جريمة ضد الإنسانية"    ملاحظة نقدية من طرف ألفونس ويلهانز حول جان بول سارتر والعقل الجدلي    ذاكرة النص الأول بعيون متجددة    أبو الأسود الدؤلي    دراسة علمية تكشف قدرة التين المغربي على الوقاية من السرطان وأمراض القلب    إسبانيا تمول محطة تحلية عملاقة بالمغرب ب340 مليون يورو    "قانون بنعيسى" يُقصي الصحافيين من تغطية دورة جماعة أصيلة ويثير الجدل    ديزي دروس يكتسح "الطوندونس" المغربي بآخر أعماله الفنية    من إنتاج شركة "Monafrique": المخرجة فاطمة بوبكدي تحصد جائزة وطنية عن مسلسل "إيليس ن ووشن"    الخطوط الملكية المغربية و"المبنى رقم 1 الجديد" في مطار JFK بنيويورك يبرمان شراكة استراتيجية لتعزيز تجربة المسافرين    من هي النقابة التي اتهمها وزير العدل بالكذب وقرر عدم استقبالها؟    لأول مرة في مليلية.. فيلم ناطق بالريفية يُعرض في مهرجان سينمائي رسمي    بركة: نعيش سنة الحسم النهائي للوحدة الترابية للمملكة    "التقدم والاشتراكية": الحكومة فشلت على كافة المستويات.. وخطابها "مستفز" ومخالف للواقع    من المليار إلى المليون .. لمجرد يتراجع    الزمالك المصري يقيل المدرب بيسيرو    اختتام الدورة الأولى للمنتدى الدولي للصناعة والخدمات بجهة أكادير    تشتت الانتباه لدى الأطفال…يستوجب وعيا وتشخيصا مبكرا    بركة: إحداث 52 ألف فرصة شغل بقطاع البناء والأشغال العمومية    500 مليون دولار خسائر مطار صنعاء    رحلة تهريب فاشلة تنتهي بسجن إسباني في الحسيمة ل8 سنوات    "كوكا كولا" تغيّر ملصقات عبواتها بعد اتهامها بتضليل المستهلكين    بايدن يتهم ترامب باسترضاء روسيا    صيحة قوية للفاعل الجمعوي افرير عبد العزيز عن وضعية ملاعب القرب بحي العامرية بعين الشق لالدارالبيضاء    المغرب يستقبل 5.7 ملايين سائح خلال 4 أشهر    فليك يتهم الحكم بإقصاء برشلونة ويُخاطب لاعبيه قبل الكلاسيكو    دافيد فراتيزي: اقتربت من فقدان الوعي بعد هدفي في شباك برشلونة    السياحة الريفية في الصين... هروب من صخب المدن نحو سحر القرى الهادئة    إرشادات طبية تقدمها الممرضة عربية بن الصغير في حفل توديع حجاج الناظور    تحذير من تناول الحليب الخام .. بكتيريات خطيرة تهدد الصحة!    عضة كلب تنهي حياة شاب بعد أسابيع من الإهمال    استقبال أعضاء البعثة الصحية لموسم الحج    كلمة وزير الصحة في حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن محمد شكري إضاءة أخرى :الأسطورة الشخصية و'ترِكتُها'
نشر في مغارب كم يوم 20 - 01 - 2012

1 لا يبدو الحديث عن الراحل محمد شكري (لمسيخط، كما كان يوقع لي إهداءه) أيامنا هذه، هادئا ولا ممكنا خارج اللغط، أو الفضائحية والمزايدة خاصة، المزايدة من قبل الذين لم يعرفوا الرجل مباشرة، أو من غاظهم أن يشتهر بالرغم منهم، أو بعض من يسعى يائسا إلى ركوب موجة شهرته ليشتهر بغذاء بقول الموتى، دعك من وصاة مزعومين، فأي مقت هذا؟!
2 كذلك، وتبعا لهذا، لا نريد أن تصبح استعادة شكري، في أي مناسبة، ولتكن هذه الإضاءة الأخرى، ضربا من اختلاط الحابل بالنابل، أولا، لوجود متدخلين متعددين في هذه 'النازلة' كثير منهم يقحمون أنفسهم باطلا وصفاقة، وهم 'أدرى بالأمر' منا، لأن شهود الزور عادة صفيقون. وثانيا، لأن الحديث عن الراحل لا يعرف كيف يميز بالضرورة بين الشخص والكاتب، من أصبح كاتبا لاحقا، من تضاربت في حقه الأقوال، ونُسبت إليه أفعالٌ شتى وأهوال.وثالثا، لأن شكري نفسه، أسهم في تغذية هذا الخلط بتهويل'الأسطورة الشخصية' بسلوكها وطقوسها، وزاد المنتسبون إلى رواة طنجة زورا في تهويلها ليصعد نجمهم على رفات صاحبها، إلى حد أنه لو بعث كبطل المويلحي في 'حدثنا عيسى ابن هشام' لما عرف نفسه، ولأنكر سيرته، أي سيرة!
3 لذا، يحتاج الأمر لزاما إلى تدقيق، وكل من يستلم الكلمة في هذا السجل عليه أن يعرف من هو حقا، في ذاته، وفي علاقته بشكري، وعن أي شخصية سيتحدث، وما ضرورة الحديث أصلا؟ أرى أن حديثي عن(لمسيخط) تتأتى ضرورته، وتاريخيته، من ارتباطه بالبدايات، و'أسباب النزول' لا بالأوهام والإسقاطات، وصولا أحيانا إلى الأكاذيب. وما أريد أن أقدم إلا إضاءات عن بعض سيرته، تخص علاقتي به في ما يعنيه، ثم بالنص الشهير الذي كتب وبعض ملابساته، وكفى. إذ عرفته للمرة الأولى حين كنت أنزل بطنجة أو أصعد إليها صيفا من مدينتي الدار البيضاء، ومنها أعبر المضيق إلى ماربيا وتوري مولينوس. كانت المدينة إبانها عروس الشمال حقا، وتحمل مياسم الحاضرة الدولية، وتقصدها خاصة البورجوازية الفاسية تسرح حسانُها وفتيانُها وحُجّاجها في شوارعها الزاهية، ولا يطفئ أنوار وصخب ليلها وبهاءه إلا مطلع الفجر، أحيانا بعده. كان معلم القصة القصيرة محمد زفزاف من زوار المدينة المنتظمين، وقد أخبرني بمعرفته العامة بشكري، وكونه ينصب خيمته في السوق الداخلي. كان هذا تعبيرا مجازيا عن المكان الذي يجلس فيه الرجل بانتظام تقريبا، هنا في'مقهى سنترال' حيث قابلته للمرة الأولى صيف 1969، وهذه هي الصورة التي أحاول استعادتها من زمن غابر:
4 عندما تتوسط حارة السوق الداخلي في فسحة واضحة قبل أن تنحدر عميقا نحو الدريبات واللويات المؤدية إلى البحر، وحوانيت سمكِه وبَيْصارته، ستجد المقهى الكبير على يسارك، وهو مقصد كثير من السياح، لشرب الشاي رفقة تحليق النحل والذباب، وأحيانا للتزود بمادة الكيف، ومقصد كثير من فتوات المدينة الشعبية لقنص السياح، ماليا، والسائحات جنسيا. المقهى ذو واجهة زجاجية مزخرفة وباب من الوسط يفضي إلى الداخل حيث الكونتوار في الوسط به عُدة وأواني إعداد المشروبات، الشاي أولا، وعلى جانبيه الطاولات المستطيلة المخصوصة بالمكان. على شمال الكونتوار، إلى القعر، إلى'حد ما، طاولته، يعرفها الواصل بعلامتها: عمود من الكتب مصفوفة فوق بعضها، وهو مستغرق في قراءته، وأمامه كأس شايه الطنجاوي، وهو لا يكاد يلقي بالا إلى من حوله. في وقت لاحق، تصفحت عناوين المطبوعات أمامه، أغلبها روايات غربية مترجمة، ولم أجد أي كتاب بلغة أجنبية. كنت متخرجا من كلية الآداب، ولا أحفل بما أرى، أحسبني في غنىً عنه. أظن، أيضا، أن شكري كان عشّاقا ملاّلاً، لا يمكث طويلا مع كتاب واحد، ورأيته غير مرة في مقهى 'سنترال' يتنقل بين العناوين مثل باحث محنك يعدد مراجعه، وما هو إلا مزاجي وملول. وضعٌ كان يلفت الانتباه، في مكان لم يكن يقرأ فيه أحد غيره، والمغاربة عموما قليلو القراءة، فكيف بالمقهى التي هي عندهم للغو وتزجية وقت الفراغ، لذلك كنت ترى صاحبنا محط أنظار الفضوليين: طنجاويون مارون بالسوق التحتي يحشرون أنوفهم بمدخل المقهى، كما لو أنهم سيستطلعون صورة درويش أو وليّ صالح، وآخرون سيتتابعون في سنوات تالية، قادمين من جنوب البلاد، يسميهم أهل الشمال ناس 'الداخلية' للتفرج على هذه 'التحفة' التي سينسجون عنها في ما بعد من باب الادعاء أساطير تخصهم، لا علاقة لها بالحقيقة البتة، خاصة لما اشتهر صاحبها، فأصبح كل يدعي وصلا بليلى!
5 في صيف السنة الموالية، التقينا ثلاثتنا: محمد شكري، إدريس الخوري، وكاتب هذه السطور، وفي وقت متقدم من'الليل، في شقة كان يؤجرها شكري بشارع محمد الخامس، بالطابق الأول. كنا قد سهرنا بما يكفي في الخارج، وأظن ليس لنا مكان نبيت فيه، لنجد أنفسنا في تلك الليلة الغُشتية الحارة تحت سقف غرفة واحدة، يصل إلينا ضجيج السيارات وصخب مصطافين يعافون النوم قبل الصباح، وحنجرة شكري تكسر هذا الإيقاع تماما بصوت مختلف، لا أذكر، هل كنا بحاجة إليه، لأننا كنا ثملين ومتعبين بعض الشيء، أم أننا لنضمن المبيت اضطررنا لمجاملة صاحبه، وتظاهرنا بإصاخة السمع له، وهو قد تمطط على بطنه فوق حشية خفيفة وسط الغرفة، ونحن ثلاثتنا من الدار البيضاء، تفرقنا في زوايا المكان. كان بين يديه أوراق عن مسرحية بعنوان ' السعادة '، دعانا بإلحاح لسماع قسم منها، وقد استمعنا على قدر صبرنا وجهدنا: الخوري، كعادته ضجرٌ من الكلام في الأدب، لم يكن وقتها قد وصل إلى مختصر ذروته في'إبداعه البلاغي'. وبصراحة، هذا الشي امقاااود!'. زفزاف صبور، بوديٌّ صموت، كالعهد به، وعبد ربه يغالب نعاسا سيستفيق منه والشمس قد غمرت الغرفة، طولا وعرضا.
6 في سنة أخرى، سألتقي شكري، وكنت طلقت العزوبية، وجئت إلى طنجة برفقة زوجتي (السابقة) الكاتبة خناتة بنونة، في شهر غشت دائما، ربما بحثا عن السعادة. كنا قد نزلنا في فندق'Villa de France'وهو وقتها معلمة عمرانية، ونُزلٌ بديع، يطل على القصبة بساحتها الواسعة النازلة إلى السوق الداخل. كنا نقضي، كزوجين، اليوم بين المسبح الرّخي للفندق، والغداء، وبعض التجول، وقلبي يهفو إلى المساء، إلى الليل في أوجه، كي نغنم أطاييب السهر. لم تكن زوجتي من مزاجي، وطبعُها إلى النوم المبكر أمْيَل، هكذا كان الليل يمتد أمامي وسيعاً وبرفقة شكري وديعا، بديعا. فقد أصبح نديمي كل ليلة، لا نترك خانا في طنجة إلا وطرقناه، وجيبي من حسن الحظ يستجيب لكل سانحة، وفي النهار يغدو، أيضا، المرافق الأثير. لا ننال إلا سويعات نوم، وها شكري يجالسنا يقظا، قوي العضل، في محيط مسبح الفندق، نتحدث عن الحياة كثيرا، وأحيانا عن الأدب، وعن كثير من الشقاوات والمزاح، فقد كان دائما ممازحا، ضحوكا، خفيف الظل، معنيا بالحاضر الذي يتركه يأتي وحده، حدثا ورزقا، لا مبال بالغد.
7 على امتداد السبعينات الأولى، ظل شكري ملتقى عديد شخصيات تفد إلى طنجة، مغربية، وأجنبية، أولها الزعيم الوطني الراحل الأستاذ علال الفاسي، الذي طالما استأنس للجلوس إليه، وتعرف عليه مما نشره من قصص أولى بجريدة 'العلم' الاستقلالية، ولقاءاته بعد ذلك مع كتاب مشاهير، جان جيني، وميلر خاصة، اللذين سيكتب لاحقا ذكرياته معهما، وهو كان مؤهلا لمرافقة هذا الصنف ممن يبحث عن أحشاء المدينة وعالمها السفلي حيث تمارس النزوات. لقد أفاض شكري طويلا أمامنا في الحديث عن هؤلاء، وكان يعتبر مرافقتهم،'هم وأمثالهم، جزءا من رصيده وشخصيته، التي تبين أن مصادر تكوينها متنوعة، مستمدة من الحياة الخام مباشرة وليس من الثقافي، ولذلك لا أهمية لكل السجال العقيم الذي اشتغل به البعض حول تاريخ تمدرس الرجل، وهو كان 'ينفخ' في الموضوع أحيانا وقد أحس بأنه شرع في صنع أسطورته الشخصية، التي يُعد الكاتب والموسيقي الأمريكي نزيل طنجة بول بولز، من نواح عدة، بانيها الأول، والحقيقي، إضافة إلى جهد بارز وحاسم للكاتب والروائي الطاهر بن جلون.
8 كان لي لقاء من نوع خصوصي بشكري دائما في مطلع السبعينات، المرحوم والدي واسطته، إذ كنت في صيفين متوالين أعنى بأبي فأنقله إلى شمال البلاد، ساحل ريستنغا، ولابد أن نعرج على طنجة التي يحب، وتقضي فيها أسرتنا، أيضا، عطلتها الصيفية. ولقد كنت أتركهما معا على الأغلب يجلسان منفردين ويتسارّان، وكان أبي يرتاح أيّما ارتياح لمجالسة شكري، ويعتني به'ماديا، لأنه كان في حاجة دائمة إلى المال، لا يستقر في جيبه إن حصّله، يعيش، كما عرفته، مدينا دائما لأصحاب المقاهي، والحانات، والمطاعم، ويضطر أن يغيرها كثيرا لهذا السبب، ولأن فضوليين يلاحقونه، وآخرين من الوافدين السمجين على المدينة يتكالبون عليه فيحمل الجميع إلى مطعم صديقته الإسبانية قرب الميناء ليتغدى القوم، اليوم وغدا، وديْنُه يتراكم. وحده زفزاف، تقريبا من المغاربة كان عفيفا، وذا طبعُه، يعيش على حسابه، ولا يبتز فتى طنجة، يحب حريته أولا، ومعنيٌّ بحياته الوجودية الخاصة في طنجة وأبعد منها، ولذلك كتب روايته الرائدة ' المرأة والوردة'.لا عجب أن شكري الذي لم يكن له أصدقاء بالمعنى الكامل، وإنما أصحاب، مثل الروبيو، وامجيدو، وفتوات السوق الداخل، وشلة الدار البيضاء، التي سيتردد عليها وقد أصبح مشهورا يعيش على ماضيه وترجمة كتبه؛ أقول لا عجب أنه سيمحض زفزاف طوال حياته ودّا خاصا، ويظل يحتضنه ما تقبل هو، بينما مقَتَ غيره من جيله، من الحاقدين عليه، ولم يغفر لهم إلى آخر رمق وهو يسلم الروح بالرباط.
9 في السبعينات دائما، كانت 'الأسطورة الشخصية' لشكري ما تني تكبر، وهو يتنقل بها خارج محيط طنجة التي يعبد، كانت لنا لقاءات، ضمن الوسط الأدبي، وأبعد. في الرباط، أولا، هنا أسجل تعرفه على الشاعر العراقي الكبير حميد سعيد، الذي عمل مستشارا ثقافيا لسفارة بلاده بالمغرب، وكان لحميد سعيد أكثر من لقاء معه في طنجة من باب الاستلطاف بالدرجة الأولى، فلم يكن اسم شكري قد تبلور بعد كقيمة أدبية. وقد اتصل بينهما ود طويل، استمر بعد أن دعاه شاعر بابل إلى زيارة بغداد في مناسبات أدبية. وأظن أنه أول أديب عربي سينقل اسمه إلى المشرق العربي، حاملا اسمه إلى العراق خصوصا قبل أن يتهافت عليه المتاجرون بالهامشية وترويج 'الجنسية' الرخيصة، باطلا. في المستقبل، لا يمر بطنجة كاتب أو شاعر أو فنان من العالم العربي إلا وقصد صاحبنا، أو يعتبر زيارته مبتورة، ما أرهقه وقد بدأ يمرض، وتنقطع صلته بالكتابة، ويعيش على الحنين، ويرى حوله زوارا انتهازيين، وتهافت كتاب مغشوشين. ولقد تواصلت علاقتي به طيلة حياته، وإن تباعدت لقاءاتنا بسبب مغادرتي المغرب للدراسة والإقامة في باريس، وما أظن شابتها شائبة، احتفظنا خلالها بالدفء والحميمية الأولى التي جمعتنا في نهاية الستينات، وانعدمت فيها الكلفة على الإطلاق، واتسمت من جهته بالتلقائية التامة، عايشتُه بسيطا، على كفاف، يغني، ويمرح، ويرقص كطفل فوق الكراسي والطاولات، ويحتضن الترانزستور كحبيبة، وبكل ما كسب من مال ظل يناكفني بالدفع عنه، يقول إنه هكذا يبقى بعض ما كان عليه، ما لا أحد يعرفه بحق إلا هو، مهما تعدد الرواة والقوالون. وأنا ليس عندي، على طول عشرتي معه، أسرار يمكن أن أتباهى بحيازتها، فما تواددنا وتعاشرنا عليه لا يخصنا إلا نحن الإثنين، وليس مادة للمتاجرة والمزايدة والمهاترة والمكاذبة، كما يفعل بعض نزقة هذه الأيام، ممن لا موضوع لهم إلا نبش قبور الموتى، والاعتياش على أرواحهم.
10 هناك محمد شكري الثاني، ذلك الذي سيصبح كاتبا، وابتداء من الثمانينات ستحمله موجة الشهرة مشرقا وغربا، مع انتشار سيرته الفريدة 'الخبز الحافي' وترجمتها من الفرنسية إلى لغات. نعم، إن شكري أعد نفسه بالقراءة والتعلم لينتقل من مرحلة الاحتفالية والتبرج والفتوة الطنجاوية، ورغب في تحسين وضعه وصورته، مع نفسه، وتجاه مجتمعه، الذي كان قد نبذه وعاش فيه على الطريق. نعم، إنه نموذج لعصامية فذة، وهكذا ينبغي أن يوصف دائما قبالة من تلقوا تعليما منتظما، وأصبحوا كتابا في ظروف مناسبة، وإن لم تكن عادية أبدا، فلا أحد في المغرب وُجِد كاتبا في ظرف طبيعي، أو هو نسّاخ. بيد أن وجود الكاتب والموسيقي الأمريكي بول بولز سيلعب دورا حاسما في النقلة المرغوبة، والموعودة. بولز المتخصص في جمع تراث محكيات طنجة وميراثها الشفوي، سيفعل مع صاحبنا ما قام به مع إدريس الشرادي في قصته السيرة'حياة مليئة بالثقوب'. لن أكرر ما هو معلوم في العلاقة الشكرية البولزية، ولا المآل السيىء الذي انتهت إليه، وغيره المعروف، وأحب أن أسجل بأن الكاتب الأمريكي هو من كتب سيرة شكري الأولى إلى الإنجليزية، تلقاها شفويا من راويها، وصاغها وشذبها ونظمها، وعلى مسوداتها(شفوية وكتابية، كما ذكر محررها لاحقا في زوبعة السجال) نسج نصه. وعندنا متن شكري، الذي أرسل لي نسخة مرقونة منه(أحتفظ بها) قبل طبعها، وهو المنشور في المغرب، والمصادر بعد ذلك بسبب تدخل فقهاء الظلام في طنجة، ما خدمه بحق فأعيد نشره لاحقا خارج المغرب، وتمَّ له الذيوع الكبير، وصار اليوم في طبعات واستنساخات.
11 من اللافت للنظر أن سيرة شكري قرئت على وجه خروجها عن'الصراط المستقيم' السائد في قصص وروايات العرب، واحتفى الغربيون بها لاحتفائها عندهم بما هو هامشي وفضائحي يكشف عورة غيرهم وبؤسهم، ويتعدى على التقاليد والتوافقي، ويجسد النبذ والمأساوي، نوعا ما. وهي بالدرجة الأولى سيرة شفوية صادمة، و'بلاغتها' الكتابية شفوية. والشفوية هنا هي كتابة أخرى لها نسقها وفنيتها، وشكري كان مهيأ لها قبل أن'يصطاده بولز، إذ هو كما يقال بالإسبانية'Escritor nato'، وهي بكل تأكيد تتسم بشجاعة القول وصراحته، وبوّأت صاحبها مكانة مركزية في نوع ما زال يكتب بالعربية بكثير من التقية والحشمة، وقدر من الكُذاب، هو الذي كان مطمحه أن يشبه الكاتب الرومانسي محمد الصباغ، الأنيق، الحفي بنفسه في مقهى تطواني، في الزمن الستيني. ونحن نعتبر أن ما جاء بعدها (الخيمة ؛ زمن الأخطاء، الخ...) تنويع وتفريع عنها،'وتوسّع لما اختُزل فيها، وفي مجموعته القصصية 'السوق الداخلي'، أما ما تبقى من ذلك، ومن غيره، مما لا دخل لنا فيه، أو لنا فيه دخل، ونسكت عنه، لأن صاحبه رحل، ولأن الدخلاء تكاثروا حوله بغير موجب حق، فليكن وليبق في ذمة التاريخ؛ أي تاريخ: الأسطورة الشخصية البهية؟ أم تاريخ أدبنا المغربي العربي؟ أم دجل الوصاة عليه؟ أم لعله شكري أولا وأخيرا، الذي يحتاج أن نعود إليه بعيدا عن السجال، جامعين بين الشخص والنص، فهو هكذا كان، أولا يكون؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.