إذا كان الوالي محمد حصاد (الله يذكره بخير بعد رحيله عن طنجة في مقبل الأيام) قد نجح في إرساء دعائم سياسة صارمة مكنته من القضاء على الأسوار، العالية منها ودون ذلك، التي ظلت لسنوات طويلة حاجبة للرؤية.. وساترة لكثير من مظاهر التشوه والموبقات التي ورثتها المدينة العملاقة عن زمن الإسمنت المسلح بجميع أنواع الذخيرة الفتاكة.. فإنه، بالمقابل، لم يستطع مجابهة اكتساح الشنمبنيو الأحمر للمجال الأخضر في الرهراه ومديونة ومسنانة والسانية وطنجة البالية والسلوقية وهلم جراً وآجوراً.. هذه فيلا مهجورة من عهد النزوح اليهودي المغربي إلى الأراضي المغتصبة.. يعشش خلف أسوارها أشباه بني آدم في تعايش وسلام مع الكلاب الضالة والقطط المتسخة والفئران السمينة وكل أنواع الحشرات الزبلية السامة.. وهذه قطعة أرض مجهول مالكها، مسورة بشكل يجعلها بمثابة ندبة في وجه المدينة العزيز الغالي.. يقصدها كل من سقط من غربال وزارة الإسكان التي أصبحت في خبر كان.. إنها الملاذ الأخير لضيوف المدينة المجانين والمؤهلين لركوب الهبل.. وقبلة لمن لديهم ما يكفي من الوقاحة كي يصبوا جمّ أزبالهم في هذه الأوكار التي ما عادت تؤوب إليها الأطيار سوى الغراب في أحسن الأحوال.. وكلما ارتفع منسوب النفايات في مثل هذه البقع، وكثرت شكاوى السكان المتضررين المجاورين، كلما ازداد حظ أبي عقار في الاستحواذ عليها من أجل استنبات ناطحات هواء تحجب الرؤية عن العيون وتزرع الضيق والغم في القلوب.. ويا مدينة ما دخلك خير ولا نسمة عليلة.. حتى جاء الوالي حصاد مكسر الأغلال ومحطم الأسوار.. الوالي الذي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه (يطيح السور من تحت الزرزوز).. يمكرون ويمكر الله.. ولم تكن جدتي الغرافية، ملهمتي الغائبة، أقل مكراً عندما أفشت سراً، إذ قالت: - في عهد الوزير القوي، داخلياً، خرج قرار من عقر الولاية.. ولاية طنجة العالية.. يقضي بإحاطة (من الحائط) جميع البقع الأرضية الفارغة.. ليس حرصاً على ستر ما لا يستر، وإنما لزرع آذان صاغية تسمح حسيس الغاشي وهو ماش جنب الحيط.. انتهى زمن التصنت وكل ما من شأنه.. وأصبح البرقاق رقماً هزيلاً في معادلة (استتباب الأمن والحفاظ على الاستقرار..) ولم تعد لنا حاجة ماسة بالجدران التي لها "أوذان".. وأصبحت لنا حاجة أكثر للخضرة التي لها أوزان بنغمات الأطيار وتنهيدات الرئات المسممة من كثر الإسمنت المسلح والحديد الصلب والآجور الميت، في مدينة ارفع رجلك كي أحط رجلي... الله يوسع مدخلنا في القبر. وهذه إدارة عمومية.. أو شبه عمومية.. تقدم الخدمات.. أو تستقبل من يقدم لها خدماته.. ولاية (من غير آية).. نيابة تعليم (بدون ميم).. دار ضريبة (ضاربها بركلة، أين منها ركلة الضوء وركلة جزاء).. وهكذا.. إلى الأمام زد واعطف يميناً ثم يساراً ثم بين بين (يعني دوبل فاص) حتى يقضي الله أمراً كان وما يزال مكتوباً على جبين هذه المدينة الغارقة في الأساطير، وأبنائها التائهين بين رؤوس مثلث طنجة: الحجر والخبر والبحر.. *** إذا كان تراكتور العمدة، صديقنا فؤاد العمري، يمشي ببطء بطيء في اتجاه قصر البلدية، فإن تراكس الوالي محمد حصاد قد سارع إلى تحقيق الهدف وتنفيذ برنامج الهدم.. هدم الأسوار التي شيدها أسلافه من قبله.. وبين البناء والهدم تم إهدار أكياس كثيرة مليئة بالمال العام.. ومع ذلك فإن رأينا من رأي من يقول: إن في الاتساع رحمة.. - نلتقي !