أخنوش يحسم الجدل بخصوص التعديل الحكومي    أخنوش: نشتغل على 4 ملفات كبرى ونعمل على تحسين دخل المواطنين بالقطاعين العام والخاص    أخنوش يربط الزيادة في ثمن "البوطا" ب"نجاح نظام الدعم المباشر"    الخريطة على القميص تثير سعار الجزائر من جديد    بطولة انجلترا لكرة القدم.. مانشستر سيتي يفوز على مضيفه برايتون برباعية    المغرب يستنكر بشدة اقتحام متطرفين المسجد الأقصى    رئيس الحكومة يجري مباحثات مع وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي    الأمير مولاي رشيد يترأس مأدبة ملكية على شرف المشاركين بمعرض الفلاحة    3 سنوات سجنا لشقيق مسؤول بتنغير في قضية استغلال النفوذ للحصول على صفقات    ''اتصالات المغرب''.. النتيجة الصافية المعدلة لحصة المجموعة وصلات 1,52 مليار درهم فالفصل اللول من 2024    نمو حركة النقل الجوي بمطار طنجة الدولي خلال بداية سنة 2024    الاتحاد الجزائري يرفض اللعب في المغرب في حالة ارتداء نهضة بركان لقميصه الأصلي    بطولة مدريد لكرة المضرب.. الاسباني نادال يبلغ الدور الثاني بفوزه على الأمريكي بلانش    الدفاع المدني في غزة يكشف تفاصيل "مرعبة" عن المقابر الجماعية    التحريض على الفسق يجر إعلامية مشهورة للسجن    بشكل رسمي.. تشافي يواصل قيادة برشلونة    البطولة الوطنية (الدورة ال27)..الجيش الملكي من أجل توسيع الفارق في الصدارة ونقاط ثمينة في صراع البقاء    مهنيو الإنتاج السمعي البصري يتهيؤون "بالكاد" لاستخدام الذكاء الاصطناعي    السلطات تمنح 2905 ترخيصا لزراعة القنب الهندي منذ مطلع هذا العام    بلاغ القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية    زنا المحارم... "طفلة" حامل بعد اغتصاب من طرف أبيها وخالها ضواحي الفنيدق    بعد فضائح فساد.. الحكومة الإسبانية تضع اتحاد الكرة "تحت الوصاية"    الأمثال العامية بتطوان... (582)    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولات الخميس على وقع الأخضر    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    3 مقترحات أمام المغرب بخصوص موعد كأس إفريقيا 2025    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة القيادة في المجتمعات الإسلامية الحديثة (3)
الاستعمار من تزييف القيم إلى تشيئة الإنسان..؟
نشر في العلم يوم 03 - 12 - 2010

منذ أربعين سنة كتبت ثلاث مقالات بهذا العنوان في جريدة «العلم» مارس 1970 وبلادنا آنذاك تعيش تحت نير حالة الاستثناء وتعطيل الحياة الدستورية وتكميم الأفواه ومصادرة الصحف بل وتكسير المطابع إذا لم تنفع المصادرة كما حصل لمطبعة «الرسالة» حيث تطبع صحيفتا «العلم» و «الرأي» وليس الأمر عند غيرنا ممن يعيشون تحت النظام الشمولي والحزب الوحيد بأحسن مما عندنا.
واليوم ونحن نراقب ما يجري في ديار العروبة والإسلام من فوضى وقلاقل وقمع للحريات وفرض الأحكام العرفية والاستئثار بالأمر و بالتوجيه في أغلب البلاد الإسلامية رغم وجود الدساتير والقوانين وحتى البلاد التي بدأت بوادر تعافيها من التدخل في الانتخابات وفي الاختيار الحر للأمة تلوح الآن في الأفق ارهاصات ان أمر النزاهة ربما كان برقا خلبا أو سرابا حسبه عشاق الديمقراطية والشورى بارقة تغيير في أفق تحقيق الديمقراطية، ولكن ما جرى وما يجري في بلاد الإسلام شرقا وغربا ينبئ أن هناك نية مبينة لدى البعض للسعي للرجوع عن بعض المكاسب التي تحققت، هنا وهناك وربما كان كشف القناع عن تصرفات الدول الكبرى التي كانت ولا تزال تلوح بورقة الديمقراطية وحقوق الإنسان وقتل الأبرياء بمآت الألوف واعتقال الآخرين وقتلهم صبرا وبدون محاكمات لعل كل ذلك قد انعكس على ما يجري من لدن بعض الحكومات والمسؤولين في ديار العروبة والإسلام، ونعيد اليوم نشر تلك المقالات للذكرى والتذكير وليس لتبرئة الذمة من واجب مواصلة العمل مع العاملين من أجل مجتمعات مسلمة شورية ديمقراطية متقدمة ومزدهرة.
ونواصل اليوم إعادة نشر تلك المقالات مع التحيين الضروري نظرا لتطور الأحوال والظروف، ولأن كان روح تلك المقالات يبقى هو هو مع الحفاظ على النص الأصلي في الغالب.
في مقال سابق أشرت إلى الدور الذي لعبه الاستعمار الغربي في تزييف القيم الإسلامية وإيجاد مجموعة من الناس في البلاد الإسلامية على الشكل الذي يريد الاستعمار وحدده طبقا لمخطط سابق ليسلمهم أمر قيادة البلاد بعد خروجه، وهذا ما يفسر ما لحق بعض القيادات التحررية من الإقصاء والتهميش وما يفسر كذلك الانشقاقات التي عرفتها الحركات التحررية والانقلابات تلو الانقلابات حتى تستقر الأمور على ما يريده الاستعمار أو تستمر القلاقل والفوضى والاضطراب.
ولكي نكون على بينة من ذلك لا مفر من إلقاء نظرة على أساليب الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية والدور الذي لعبه في تخريب حضارتنا وتدنيس قيمنا ومحاولة تزييف وجودنا الثقافي والروحي.
إن اتصال العالم الإسلامي بالغرب ليس وليد العصور الحديثة ولا من نتائج النهضة الأوربية ولكنه وليد قرون وأجيال سابقة، بل ان جزء كبيرا من الغرب المسيحي كان جزء مهما من بلاد الإسلام.
ولكن الاحتكاك بين العالمين لم يكن احتكاك سلام وإخاء دائما بل كان في أكثر الفترات مبنيا على الحروب والصدام المسلح. لقد اتجهت الجيوش الإسلامية إلى الغرب حاملة لواء الإخاء الإنساني الذي جاء به الإسلام (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم).
وفي نفس الوقت تبشره بالإسلام مما آثار ردود فعل مختلفة من طرف المسيحيين في حينها وكان أهمها بعد ذلك الحروب الصليبية، ومنذ ذلك الحين والغرب المسيحي يعمل جاهدا من اجل السيطرة على العالم الإسلامي ووضعه تحت نفوذه وسيطرته المباشرة. وفي سبيل تحقيق هذه الأمنية ساهم كثير من مفكري أوربا وساستها في التخطيط والتنفيذ، حتى أن الأمير شكيب أرسلان رحمه الله أورد في تعاليقه على كتاب (حاضر العالم الإسلامي) خلاصة لمائة مشروع ومشروع وضعت للقضاء على الدولة العثمانية، ولم تكن الغاية هي السيطرة على الدولة العثمانية لذاتها، بل لأنها كانت تمثل العالم الإسلامي حينذاك ولأنها كانت تحكم أكثرية البلاد الإسلامية. لذلك فإن القضاء على الدولة العثمانية أو إضعافها على الأقل يعني السيطرة على الأقطار التابعة لها، وكان من ضمنها آنذاك دول البلقان بل الإضافة إلى الشرق العربي وجزء كبير من المغرب العربي حيث كان نفوذها ينتهي في الحدود بين المغرب والجزائر وكانت الغاية مع هذا وذاك هي الإسلام وفي هذا يقول أحد الكتاب الأوربيين في أواخر القرن التاسع عشر:
»إن الإسلام قد عمل ما لم يقدر أن يعمله بل ما لم يجرؤ أن يعمله دين آخر وذلك بأن الصليب تغلب على كل شيء أمامه وجاء الإسلام أحيانا فتغلب عليه وكان الصليبيون يقولون في قتال الإسلام: هكذا يريد الله ونحن يمكننا أن نعيد اليوم العبارة نفسها وان نحارب العدو الذي حاربه آباؤنا (حاضر العالم الإسلامي ص 218).
لقد اقتبست هذه الفقرة منذ أربعة عقود من الزمان، ولم يكن آنذاك هذا التطور الذي حصل في العلاقات بين الغرب النصراني وبين العالم الإسلامي ولم تكن العولمة قد فرضت سيطرتها على الناس، ولم يكن العالم خاضعا لقطب واحد، ولم تكن إمبراطورية (الكوكاكولا) لتعبث في العالم كما تريد ولتجعل من الدول والحكومات الإسلامية حكومات تابعة لسياستها وحدها بد أن كان العالم الإسلامي ينقسم في تبعية بين القطبين إذ كان الوضع عام 1970 وضعا مغايرا حيث كانت أمريكا منهوكة بحرب الفيتنام وتبحث عن منفذ أو مخرج مشرف لها لضمان ماء الوجه.
نعم اقتبست تلك الفكرة للتدليل على ما كان تاريخيا والذي أراد منها الناقل الأصلي الأمير شكيب ارسلان رحمه الله ان يعطي الحجة على أن الغرب الصليبي هو الغرب الصليبي في علاقاته مع الإسلام والمسلمين.
واليوم وبعد ظهور ما كان مستترا وأعلن ساسة الغرب عداءهم السافر والواضح للإسلام والمسلمين وأعلن كبيرهم أن الحرب هي حرب صليبية من جديد فإن الإسلام والمسلمين أصبحا من جديد وبالمكشوف الهدف من كل السياسات التي تضعها الدول الاستعمارية القديمة وتتقدم هذه السياسة الإمبراطورية الأمريكية التي أرادت هذه المرة أن تكون المتحكم الوحيد والموجه بكل شيء في العالم وأحرى العالم الإسلامي الذي ظهر ويظهر من خلال ما يكتب ويذاع وينشر في الصحف وغيرها ان الإسلام هو الذي يجب أن يحجم ويحد دوره ودور معتنقيه على الصعيد العالمي، وأن الحكومات التي تنصب على رأس هذه الدول يجب أن تكون في سياق ما يقرره الغرب في سياستها الداخلية والخارجية وحتى في مناهجها الدراسية والتربوية حتى لا يفلت الزمام من يد الغرب من خلال تنطع الأجيال والشباب.
وحول ما يجري الآن في العالم كتبت الكاتبة البريطانية _كارين ارمسترونج- كتابا حول الحروب الصليبية نقتبس منه بعض الفقرات فيما يلي تقول:
وفي «الحرب المقدسة» الذي بين أيديكم، حاولت أن أبين أن الحملات الصليبية لم تكن مجرد حركة هامشية في العصور الوسطى، بل كانت حركة محورية بالنسبة للهوية الغربية التي كانت قيد التبلور في ذلك الحين، وهي ما فتئت مستمرة إلى يومنا هذا، ناهيك عن أنها أظهرت الدين في أشنع صوره. (ص10-11)
وتضيف قائلة:
الصراع الحالي امتداد للصراع السابق
لقد بدا لي الموضوع الصليبي وثيق الصلة إلى حد ما بالنزاع الراهن في المنطقة، وبالعلاقة القلقة التي نشأت عبر الزمن بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام. وعندما شرعت بإجراء أبحاثي حول الموضوع، توقعت أن أجد بعض التناظرات والتوازيات بين النزاع القروسطي والنزاع الراهن، إنما اكتشفت مع الوقت أن الترابطات بينهما هي أعمق مما تبدو في الظاهر. وقد توصلت الآن إلى الاعتقاد الجازم بأن الحملات الصليبية هي أحد الأسباب المباشرة للنزاع القائم في الشرق الأوسط اليوم. أعرف أن إعلاني هذا قد يبعث على الدهشة والإجفال، إنما لا يسعني إلا أن أغتنم هذه الفرصة لكي أمعن النظر فيه وفي العمق.
وحتى يتأتى لي ذلك، سأحاول أن أقيم عرفا أطلق عليه اسم »الرؤية الثلاثية«. فعندما نسعى إلى أن نكون موضوعيين، عادة ما نقول إننا نريد أن نرى وجهي المسالة »كليهما«. لكن في الصراع الطويل هذا بين الديانات الثلاث، هناك ثلاثة وجوه وليس وجهين فقط. وعند كل نقطة سأحاول أن أتناول موقف ووجهة نظر اليهود والمسيحيين والمسلمين. فمنذ الحملات الصليبية وإلى يومنا هذا، تورطت الديانات الثلاث جميعا، بشكل أو بآخر، في حروب مقدسة ضد بعضها بعضا. وأن العلاقة الأصلية التي شدت الواحدة منها إلى الأخريين لطالما تخللتها على امتدادها وقائع القسوة والمعاناة. وقد وقعت أعظم المآسي عندما سعت ديانة منها إلى إلغاء الديانتين الباقيتين، أو حين ضافرت اثنتان منها قواهما معا وتجاهلتا الثالثة تجاهلا تاما. وإذ يكون المرء في الشرق الأوسط، ليعي بشكل حاد ذلك الترابط القوي ما بين الديانات الثلاث. ولربما لهذا السبب بالذات، يقف أيضا على مدى اغتراب الواحد منها على الأخريين. أحسب أن فكرتي هذه معقدة نوعا ما. لكن يحدوني الأمل في أ، القارئ سيتحملني لأنني وجدت أن الواحد منا ما إن يعتاد على رؤية الأمور بمنظار »الرؤية الثلاثية« حتى لا يعود يراها بالطريقة ذاتها بعد ذلك. لقد غيرت الرؤية الثلاثية صورة الشرق الأوسط لدي تغييرا جذريا، وقد سلحتني بتقييم جديد لعمل أو آليات التحامل والافتئات.
وبالفعل لقد قام الأوربيون بشن حرب صليبية قبل صدور هذا القول الصليبي أعلاه وبعده وكانت ثروات العالم الإسلامي وخيراته مما غذي في نفوسهم النزعة الاستعمارية ودفعهم إلى التضحية بكل شيء في سبيل تامين سيطرتهم على البلاد الإسلامية حتى تمكنوا من توزيع نفوذهم عليها وجعلها مستعمرات محتلة وأخرى محمية وان كانت الغاية واحدة مهما كانت الدولة المحتلة أو الحامية.
الاستعمار الجديد ونهب الثروات
لقد كانت نية التوسع والغزو الفكري والاقتصادي والقانوني أهم ما كانت تنطوي عليه نفوس المستعمرين الأوربيين. وهذا ما يشكل جوهر الفرق بين الاستعمار الغربي الحديث وبين حركات الغزو كما عرفتها شعوب وأمم أخرى في التاريخ ذلك أن عنصر المنفعة الاقتصادية مدرك بشكل جلي في حركات الاستعمار الحديث بينما تكاد تكون منعدمة فيما سبقه من الغزو والفتح ولا شك أننا نحن الشعوب المستعمرة تدرك هذا ونلمسه لأننا حقل التجربة وميدان الممارسة.
العودة إلى تشيئة الإنسان
وهذا أصبح جليا مع الخوصصة وإعادة سيطرة الشركات الاستعمارية الكبرى على المقدرات الاقتصادية والثروات في البلاد المستعمرة سابقا.
كما لمسنا بجانب ذلك ما مارسه الاستعمار ضدنا من سلطة القهر والغلبة والإذلال وهذه أيضا خاصة من خصائص الاستعمار الحديث إذ يعمل دائما على فرض رأي الأقلية المستعمرة على الأكثرية المستعمرة عن طريق إجراءات قانونية تسندها السلطة ويغزرها الجندي والبندقية كما لمسنا أيضا النظرة التي كان المحتل ينظر بها إلينا إذ لم يكن أي واحد من البلاد المستعمرة يرقى عنده إلى مستوى الإنسان.
إن الاستهانة بالإنسان المستعمر واعتباره أهليا فقط عادت إلى الظهور في كثير من الأحوال والدول فالإنسان المسلم أو المستعمر السابق أصبح كائنا غير مرغوب فيه، وهذا ما نلحظه ونراه من خلال أسلوب سياسة الكراهية والحقد الذي ظهر في أوروبا وأمريكا لقد كان الأمر يمارس بنوع من التعميم سابقا اما الآن فإن الأحزاب والمنظمات ترفع لواء ذلك بكل شراسة ووضوح.
بل الإنسان الأهلي شيء وليس إنسانا، ولذلك فمعاملته معاملة من نوع خاص تتجلى فيها الإهانة والاحتقار في أبشع الصور. ولقد كتب كثير من المؤرخين والسياسيين في البلاد الإسلامية لتصوير هذه الوضعية وجعلها واضحة أمام الناس وأمام التاريخ. ولكن مهما تفنن هؤلاء في التصوير فلن يصلوا إلى ما كتبه المستعمرون أنفسهم وما سجلوه في تقاريرهم ومذكراتهم لان ما كتبه هؤلاء يشكل وثيقة للإدانة ما بعدها إدانة، وإذا كان كل ذلك الضغط واضطهاد والعبث بالمقدسات مما يحاول الكثيرون أن يسدلوا عليه الستار فان التاريخ يجب إن يكون خير معين على اليقظة الدائمة والحذر المستمر ذلك أن جشع الأوروبي وسيطرته وأنانيته هي لا تتغير ولا تتبدل وان شئت أن تدرك ذلك فاستشر التاريخ ينبئك النبأ اليقين عن معاملة الصليبيين للمسلمين وأطفالهم ونسائهم حيث يتحدث التاريخ عن تمزيق الجثث وحرقها بالنار وبقر بطون النساء والعبث بالأعراض. ان هذا كله سجله التاريخ بأيدي من ارتكبوه وسيبقى ما بقي للتاريخ وهذا الذي سجل عن الحروب الصليبية ربما كان مما يقره الكثيرون -من الصنائع- ولكنهم يرجعونه إلى العصور الوسطى حيث كانت الهمجية تسيطر على النفوس وتتحكم في العقول ولكن هذا التبرير مردود ذلك ان مآسي الأوربيين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين في البلاد الإسلامية تؤكد ان طبيعة الإنسان الأوربي وهي طبيعة الوحش المفترس لا يلين ولا يرحم... اقرأ معي هذه الفقرة الآتية من مذكرات ضابط فرنسي في الجزائر، يقول لضابط كما يروي مؤلف كتاب تشريح جثة الاستعمار:
»كانت الساعة الثانية وكان الحاكم قد رحل، كانت النيران التي ما زالت مشتعلة في الجبال تدلني على اتجاه سير طابوره، كانت أكوام الجثث مكومة بعضها فوق بعض مع الذين تجمدوا بردا وماتوا خلال الليل، كان أولئك هم سكان بني ناصر التعساء كانوا هم الذين أحرقت قراهم وأكواخهم وطاردتهم«.إنها الوقاحة تتحدث.
كي لا ننسى خزي التاريخ الاستعماري
ترى في أي تاريخ كتبت هذه الفقرة ومتى سجلها الضابط في صفحة من مذكراته ان احتلال الجزائر امتد لأزيد من قرن ولاشك أن هذه الفقرة يحتمل ان تكون كتبت في اليوم الأول من الاحتلال كما انها يحتمل ان تكون قد كتبت في آخر يوم وذلك لان تاريخ الاستعمار تاريخ متشابه من أوله إلى نهايته كما أنها يمكن ان تكون صادقة على كل قرى ومدن البلاد التي نكبت بالاستعمار وحتى لا اترك القارئ يتيه في التفكير والتخمين اذكر له ان هذه الفقرة كتبت في 8 فبراير 1843 ولنتخطى الزمان بقرن أو بمائة سنة وسنتين لنسال ماذا حدث في المغرب على امتداد عمر الحماية به وهي شيء لا يزال نذكره ونستحضره ونتحدث به في الذكريات الوطنية ولا يزال الكثير من الوطنيين يحتفظون بذكريات مراكز التعذيب ومعسكرات الاعتقال.
وهذا الذي سجله ذلك الاستعماري في الجزائر تحدث الآن مآسي أشد فظاعة وأكثر في أكثر من بلاد الإسلام والمسلمين، فمآسي العراق وأفغانستان وفلسطين والسودان والصومال والقائمة طويلة تتحدث وتروي قصص مخزية للإنسان الاستعماري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
ولئلا أطيل على القارئ فإنني لن انقل نصوصا أخرى عن محنة المسلمين في مصر والهند وليبيا وتونس على يد الجلادين المسيحيين. فهذا شيء معروف ولكنه منسي وهذا هو منتهى الخطر ونقطة الضعف فينا ان الأوربيين لا ينسون وهم مفطورون على الحقد والانتقاء وليلا يعيد التاريخ نفسه يجب ألا ننسى.
استهداف المؤسسات الإسلامية
وكما استهدف الاستعمار أشخاص المسلمين بالاضطهاد والقمع استهدف كذلك المؤسسات الإسلامية اذ كانت هي امتداد التاريخي للأمة الإسلامية التي يخشى الأوربي ان تسيقظ وان تعيد سيرتها الأولى ولذلك حارب المعاهد الدينية وحارب الأوقاف الإسلامية وسيطر على كل من شأنه ان يشعرنا بوجودنا وكياننا الحضاري التاريخي.
لقد حول المساجد إلى كنائس واصطبلات وفنادق واتخذ بعضا منها متاحف ومسخ كل شيء وعمل على إيجاد »نخبة« تؤمن على مشاريعه وترعاها وليلا تندثر الشخصية الإسلامية قام المصلحون المسلمون في وجه استعمار وأسسوا النوادي والجمعيات وكانت مع الحركات السلفية والوطنية جنبا إلى جنب للمحافظة على المقدسات الإسلامية وإيقاظ الضمير المسلم من سباته، ولكن الوسائل لم تكن متكافئة اذ كانت وسائل الدول الاستعمارية وإمكانياتها أقوى بكثير من وسائل الحركات المناهضة لخططه بل ان الاستعمار تمكن في بعض الحالات من توجيه هذه الحركات الوجهة التي يريد وهذا دور من الأدوار التخريبية التي لعبها الاستعمار في البلاد الإسلامية عن طريق الأفراد والجماعات التي ينشئها ويهيئها لهذه الغاية.
بين احتكار الثروات ومسخ الإنسان
لقد فلت آنفا ان غاية الاستعمار كانت هي الوجود الروحي والحضاري للبلاد الإسلامية حتى لا يجد من يقف في وجهه أو يحول دون أهدافه وسقت من اجل ذلك فقرة لأحد الكتاب الصليبيين واراني هنا مضطرا إلى نقل فقرة أخرى لكاتب مغاير ومن اتجاه فكري معين عن هدف الاستعمار يقول كي دوبوشير في كتابه تشريح جثة الاستعمار »لم يعد الاستعمار يتردد في ان ينزع كل سلطة من الملوك والأمراء والرؤساء التقليديين أصحاب البلاد الأصليين وان يضع البلاد المغلوبة على أمرها موضعها الذي يريده لها وان يستحوذ على ثرواتها الطبيعية وأدوات الإنتاج فيها وان يحول الشعوب المستعمرة إلى ايد عاملة ذليلة وان يفرض قوانينه ومعاييره وقواعده وان يخضع السكان الأصليين لعملية سيكلوجية تهدف إلى تسييرهم في اتجاه يتفق مع مصالحهم« ص45 و 46 ذاك ما يقوله كاتب غربي في الثلث الأخير من القرن العشرين ولقد قال ماركس قبل ذلك ان البرجوازية الأوروبية تفسر كل الأمم على ان تتخذ الأسلوب البرجوازي للإنتاج وإلا تعرضت لخطر الموت، إنها تفسر هذه الأمم على ان تدخل الحضارة المزعومة أي ان تصبح برجوازية، انها بكلمة واحدة تشكل العالم على صورتها«
الإنسان المستعمَرة
ان الذي يهتم كثيرا بالنسبة لموضوعنا من قولة ماركس هو الجملة الأخيرة »انها بكلمة واحدة تشكل العالم على صورتها، وبالفعل لقد عمل الاستعمار الغربي من اجل ان يجعل كل واحد في البلاد الإسلامية التي نكبت به مستعمرة تمشي وتغدو وتروح على الأرض تفكر بتفكير الاستعمار وتدين بدين الاستعمار وتنتج وتصرف إنتاجها على طريقة الاستعمار في الإنتاج وتصريف الإنتاج أي ان تكون هناك أقلية محظوظة وأكثرية لا تجد ما تتفق وهذه الحقيقة لم تكن لتخفى على المسلمين لو أنهم استعملوا عقولهم في تدبر ما عندهم من تراث فكري. فلو أنهم استوحوا القران لوجدوا انه يقول بصريح العبارة ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم«.
الإسلام الشكلي شبهة
ولقد اتبع الكثير من المسلمين طريقهم ومناهجهم ولكن مع ذلك لم يحظ بالرضى ولم تناله البركة لأنه لا تزال فيه شبهة وهذه الشبهة قد تعود به إلى الارتداد إلى الأصل وهذه الشبهة هي هذا الإسلام الشكلي الذي أبقى عليه الاستعمار والذي يتمثل في بعض المظاهر التي لا تمت إلى جوهر العقيدة وحقيقتها بصلة.
ولقد كان القطاع الهام الذي يعتمد عليه الاستعمار في العمل الذي يقوم به من أجل تشكيل المستعمرين على صورته هو التعليم ولذلك فلا بد من الحديث عن التعليم والغايات التي يتوخاها منه الاستعمار من اجل الحفاظ على وجوده في كل الأحوال ومهما كانت الظروف وذاك ما سأتحدث عنه في المقال القادم بحول الله.«
أزمة وأزمة
هذا ما سبقت كتابته منذ عقود ولكنه حدث بعدها بالنسبة لأوضاع العالم الإسلامي وعلاقته بالاستعمار ودور النخبة والقيادات في البلاد الإسلامية ما هو أكثر مما حدث أثناء الاحتلال الاستعماري، فالاستعمار الجديد خطى خطوات تجاوزت الاستعمار القديم، إذ تدخل في أخص خصوصيات المسلمين وهي المجال الديني والعقدي، ففرض في مناهج التعليم أشياء ما كانت لتحدث وذلك أنه طلب وعمل على حذف آيات قرآنية وأحاديث نبوية أو مقاطع منهما حتى لا تلقن للتلاميذ في المدارس، واستطاع ان يجند من أجل ذلك بعض المسؤولين إن لم يكن الكل وبعض النخب التي ترى في كل ما يأتي من الغرب الصليبي نعمة وبركة.
وهكذا أضافت القيادات في العالم الإسلامي في أزمتها مع شعوبها أزمة جديدة هي أزمة التوجيه التربوي والتعليم والتربية الدينية، فكانت هذه أزمة تساندها أزمة تزوير الانتخابات والإرادة الشعبية للإنسان المسلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.