صاحبة السمو الملكي الأميرة للا مريم تترأس المجلس الإداري للمصالح الاجتماعية للقوات المسلحة الملكية    ارتسامات المؤتمرين حول المؤتمر الثامن عشر لحزب الاستقلال    الحكومة تقترح على النقابات زيادة 10% في الحد الأدنى للأجور    الصين تؤكد التزامها لصالح علاقات مستقرة ومستدامة مع الولايات المتحدة    دعوة لإحياء جمعة الغضب بالمغرب دعما للشعب الفلسطيني    وزارة التعليم تشن حملة ضد "العلكة" في مدارس تيزنيت    "العمق" تتوج بالجائزة الثانية في الصحافة الفلاحية والقروية (فيديو)    مندوبية السجون تقرر إغلاق السجن المحلي المعروف ب"سات فيلاج"    انتخاب رئيس جديد على رأس الإتحاد الإسباني لكرة القدم    بايتاس : الحكومة لا تعتزم الزيادة في أسعار قنينات الغاز في الوقت الراهن    كأس الكاف .. نهضة بركان يعلن طرح تذاكر مباراته أمام اتحاد العاصمة الجزائري    الطقس غدا السبت.. أمطار فوق هذه المناطق ورياح قوية مصحوبة بتناثر غبار محليا    جماهير اتحاد العاصمة تثور على السلطات الجزائرية بسبب المغرب    بوطازوت تفتتح فعاليات الدورة الخامسة لمهرجان الشرق للضحك        سعر الذهب يتجه نحو تسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    العرائش : انطلاق أشغال مشروع تهيئة الغابة الحضرية "ليبيكا"        احتجاجا على حرب غزة.. استقالة مسؤولة بالخارجية الأمريكية    تطوان .. احتفالية خاصة تخليدا لشهر التراث 2024    "شيخ الخمارين ..الروبيو ، نديم شكري" كتاب جديد لأسامة العوامي التيوى    البحرية الملكية تقدم المساعدة ل 85 مرشحا للهجرة غير النظامية    أخنوش معلقا على احتجاجات طلبة الطب: ليس هناك سنة بيضاء و3 آلاف طالب يدرسون كل يوم    طلبة الطب والصيدلة يتفاعلون بشكل إيجابي مع دعوة أخنوش    محمد عشاتي: سيرة فنان مغربي نسج لوحات مفعمة بالحلم وعطر الطفولة..    فضايح جديدة فالبرنامج الاجتماعي "أوراش" وصلات للنيابة العامة ففاس: تلاعبات وتزوير وصنع وثيقة تتضمن وقائع غير صحيحة    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الجمعة على وقع الانخفاض    جرسيف.. مشروع بكلفة 20 مليون درهم لتقوية تزويد المدينة بالماء الشروب    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    أخنوش يحسم الجدل بخصوص التعديل الحكومي    مجمع الفوسفاط ينجح في تعبئة ملياري دولار عبر سندات اقتراض دولية    السعودية قد تمثل للمرة الأولى في مسابقة ملكة جمال الكون    المغرب يطرح مناقصة لبناء مزرعة رياح بقدرة 400 ميغاوات    أخنوش: الأسرة في قلب معادلتنا التنموية وقطعنا أشواطاً مهمة في تنزيل البرامج الاجتماعية    "IA Branding Factory"… استفادة 11 تعاونية من الخدمات التكنولوجية للذكاء الاصطناعي    طلبة الطب يقررون تعليق كل الخطوات الاحتجاجية وفسح المجال للحوار    رسميا.. بدر بانون يعود لأحضان فريقه الأم    بطولة إفريقيا للجيدو... المنتخب المغربي يفوز بميداليتين ذهبيتين ونحاسيتين في اليوم الأول من المنافسات    رغم القمع والاعتقالات.. التظاهرات الداعمة لفلسطين تتواصل في العالم    مؤسسة (البيت العربي) بإسبانيا تفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها ال18    عرض فيلم "أفضل" بالمعهد الفرنسي بتطوان    انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس "مولان روج"    تحت اشراف الجامعة الملكية المغربية للملاكمة عصبة جهة سوس ماسة للملاكمة تنظم بطولة الفئات السنية    الدكتور عبدالله بوصوف: قميص بركان وحدود " المغرب الحقة "    شاهد كيف عرض فيفا خريطة المغرب بمتحفه في زوريخ    وزير دفاع إسرائيل: ما غنوقفوش القتال حتى نرجعو المحتجزين لعند حماس    هل دقت طبول الحرب الشاملة بين الجزائر والمغرب؟    البيرو..مشاركة مغربية في "معرض السفارات" بليما لإبراز الإشعاع الثقافي للمملكة    مؤتمر دولي بفاس يوصي بتشجيع الأبحاث المتعلقة بترجمة اللغات المحلية    الأمثال العامية بتطوان... (582)    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فستانُ ماما
نشر في العلم يوم 10 - 06 - 2011

المسألةُ المحورية في البحث عن الزمن المفقود ليست هي : « لماذا يصير المرء كاتبا ؟ « كما ليست ، حين يتساءل سارد الرواية : « لماذا ألقي
التحيّة على الماركيزة Cambremer ؟ « . أيّة إجابة لن تكون شافية . لقد تعلّمتُ من التّحليل النّفسي أنّ مجرّد وضع تساؤلات بمساعدة هذا الظرف الإستفهامي ، لا يتمّ ُ مطلقا تحصيلُ جواب . أنا لا أسأل نفسي لماذا كتبتُ ، تحت عنوان» ماما « ، كتابا مخصّصا لعلاقات مارسيل بروست مع أمّه ، جانْ ، ليس أقلّ من تساؤلي في ذاك الكتاب لماذا أصبح بروست كاتبا و لم يصر بالأولى ديبلوماسيا كما كانت تحلمُ أمّه أو طبيبا كما يرغبُ أبوه ويودّ أخوه : و ها ، سيّدتي ، لماذا لم يكن ابنُك معقود اللّسان . السّؤال الوحيد هو : كيف أصبح مارسيل الصّغير بروست الكبير ؟ عبر أيّة تقمّصات نفسية ، عبر أيّة وجوه عائلية ، عبر أيّ نماذج من الأدباء ؟ موضوع البحث ينحصرُ في أربع كلمات كما أوضح جيرار جينيت : كيف يصبح السّارد كاتبا ؟ (1) . غايتي أن أروي كيف أصبح بروست السّاردَ ، أو بالأحرى كيف مارسيل غدا مارسيل ، بما أنّ هذا و ذاك يحملان نفس الإسم الشخصي . لا يتعلّق الأمر بشرح عمل بروست عبر حياته ولا حتى عبر حياته اللاواعية حسب نقد بيونفساني ممقوت . لقد بحثتُ ببساطة أن أجلي ، في خطاب السّارد كما في خطاب مؤلّف البحث عن الزمن المفقود ، نقط الإلتقاء و نقط التعارض . ورغبةً في تجنّب كلّ تحليل نفسي مُطبّق على الأدب ، فإنّي جرّبتُ ، في المقابل ، أدباً مُطبّقاً على التّحليل النّفسي ، لأنّني أعترفُ أنّ الروايات دائما علّمتني الكثير عن تشكّلات اللاوعي و الكيفية التي تتصرّف اللغةُ بها و تتصرّف هي باللغة ، أكثر ممّا أفادتني المؤلّفات النّفسية . يتعلّقُ الأمر بالنسبة إليّ ، بإضاءة و من خلال كتابه، الحياة النفسية لبروست الذي أضحى كاتبا ليقول و ربّما ، ليحلّ صراعاته الدّاخليّة وبخاصّة صراعه مع الماما ، هذا الجانب من الرّغبة التي تغذي هذه الحكاية ، حكاية الحبّ و الموت و بلا ريب البُغض بين ابن و أمّه : أن يصيركاتبا كي يحكي للماما يظلّ معلّقا فوق الفراغ . الجانبُ الآخر ممّا عليه أن يقوله ، أبدا لا يستطيع قوله .أبدا . ليس هذا بأقلّ من قتل الحقيقة حين لا تُقال قطّ وحين يتمّ استنفادها بكتابتها . يتعلّق الأمر ببساطة ، كما في التّحليل النّفسي ، بعرض و بترك بعض الكلمات تنفتحُ ، و قد تقاطعت مع كلمات أخريات ، لتقول ما الكائن و ما الرّغبة ، أو ، مثلا ، التساؤل بصدد هذه الكلمات : الظل ، الفتيات ، الزهور(2) لماذا ضمّها بروست في عنوان ، رابطا بين أشياء ثلاثة لا يحبّها و تؤذيه : المساء ، الأنوثة ، الرّبيع . من بين هذه الكلمات أيضا ، كلمة الذئب ، كلمة حماقة ، كلمة ذيل ، كلمة عكس أو قلب ، كلمة رسالة و بخاصة كلمة ماما .
كلمة حول هذه الكلمة ، ماما . ما عدا الغلط أو السّهو ، لا كتاب يحمل هذه الصّفة . أ يكون هذا الإسم الصّغير كلمة كبيرة ؟ لم يوظف مؤلّف « ضد سانت بيف « مطلقا و نادرا في البحث عن الزمن المفقود هذا التعيين : أمّي ، بينما يكاد يقول في كلّ مكان: أبي . لمّا يتكلّمُ عنها يستعمل نفس الإسم حين يتكلّمُ إليها : ماما . طريقة لكي يشير بأنّها ها هنا دائما ، في هذا الموضع من الحبّ و من الضّيق . هذه الكلمة ليست إسما ، إنّها صوت ، صرخة ، نداء .
و ماذا حين يرنّ هذان المقطعان اللفظيان في الفراغ ؟ عندئذ ، لكي يتمّ استرجاع الماما ، للحيلولة دون أن يقتله غيابها ، لم يبق له سوى الكلمات . رسالة كالتي كتبها رامبو إلى فرلين يوم 5 يوليوز 1873 و التي ، بعد لائحة طويلة و مملّة من اللّوم و عدم التحمّل يُنهيها على هذا النّحو :» الكلمة الحقّة الوحيدة هي : ارجعْ « . كما تلك التي كتبها سارد الرواية و هو طفل منتظرا بيأس قبلة الماما . في الرواية النهائية للقبلة المفقودة و المستعادة ، في بداية Combray ، تملّكت الطفل فجأة فكرة أن يكتب إلى الماما هذه الكلمة التي يضمرها لها . لمّا لا تلامس الكلماتُ إلاّ الصّمت ، نحاول أن نبعث فيها الحياة ، أن نبصرها ، أن نمنحها جسدا من الحبر و من الورق . « الآن ، لم أنفصل عنها بتاتا ؛ الحواجز انهارت ، خيط عذب يضمّنا «(3) . الكتابة في جذرها البعيد ، هي هذا الشيء ، العمل على أن تعود ، التي أنا بدونها أضمحلُّ و أتلاشى ، هو الإعتقاد بأنْ ليس هناك إلاّ كلمة وحيدة ، إلاّ حقيقة وحيدة ، ارْجعي . هل يمكننا الكتابةُ دون الإيمان المحتدم و الضاري بسحر الكلمات ، بقدرتها على الإبتهال و التضرّع ، بدون اليقين « بأنّنا ما نُسمّيه نخلقهُ « . كما يقول السّارد(4) ؟ « لو أنّني ، على الأقل ، أستطيع أن أقذف زجاجتي في البحر ، أن أرمي بهذا الكتاب « كما كتب بروست سنة 1918 (5) . ما هي الروايات إلاّ أن تكون رسائل لا نعرف لها باعثا و لا متلقيا ؟ في المحصّلة ، كلمات رُمي بها في زجاجات ، قُذف بها في البحر ، لن يقرأها إلاّ أيّ أحد . كلمات تقول جميعها نفس الشيء ، الشيء الوحيد : لا تذْهبي ! الكلام لا يقولُ الحقيقة إلاّ حين لا يقولُ شيئا بتاتا ، أو يقولُ حقيقة صغيرة جدّ بسيطة :» يسوءني أن أوجد « . يكتب بروست بغرابة أنّنا لا نتوفّر على عضو مكرّس للتقبيل (6) . هذا خطأ ؛ أو غير صائب سوى إذا اعتبرنا أنّ الفم و الشفتين و اللّسان تصلح للكلام أيضا و الحاجة قائمة إلى عضو كي لا يتكلّم ، كي لا يلثم الكلمات . القبلة تعطيل لوجع أن يكون عليك أن تتكلّم لتُصيّر نفسك محبوبا .
و الكتابةُ ؟ نكتبُ لأنْ لا أحد ينصتُ . نكتبُ كي نصمت ، كي نصير محبوبين دون كلام . نكتبُ حتى نقبّل الغائبين ، الذين تركونا ، الذين انفصلنا عنهم ، الذين ماتوا ، والذين هجرناهم و هذه القطعة من صميمنا التي افتقدناها معهم . هذا لا جرم فيه ، لكنّه لا يكفي . نكتبُ أيضا لكي نفقد ، نفترق ، نقتل الأحياء ، لا نموت مع الأموات . غداة موت أمّه ، اكتشف مارسيل بروست بين أوراقها الحميمية ، دفترا . في هذا الدفتر ، سجّلت جانْ حزنها إثر ممات السيّدة Weil عام 1890 . في الحال أدرك بروست، الذي كان حينئذ منفصلا عن أمّه ، أنّها لم تكتب إليه ، لم ترغب ، كما تعتقد ، في أن تفاقم غمّه بأن تقول له غمّها . ليس إلاّ فيما بعد ، في سنة 1905 و أمام وفاة جانْ ، مزج الفقد بالفقد و استعاد أحاسيسه الخاصّة به في خضم المأتم الأمومي ، أحاسيس كان ، إلى تلك اللحظة ، قد تجاهلها . سيتركُ لكلمات الألم و الهجر التي كتبتها أمُّه أن تتقدّم إليه إلى اليوم الذي ، و حتى يعلن حزنه ، سيصفُ في روايته موت جدّته من الأمّ . هكذا ، يكون البحثُ عن الزمن المفقود قد كُتب بشكل مضاعف عن موت الأمّهات .
أثناء احتضارها ، كانت أمّ بروست تستعيدُ بعض الألعاب بصدد روايات جورج صاند ، عبارة عن ألغاز و أحجيات أدبية منطلقة من كورنيل لتنتهي إلى العدم . موتها لم يكن إلاّ تضمينات امرأة مثقفة تركتْ لولدها العناية بفكّ رموزها .» تصرّفْ كأنّك لا تعلم أنّني أموت « . ليكنْ موتي كلمة سارّة ، لينْتمِ لا إلى الحياة الموجعة ، بل إلى الأدب المُسلّي . بين هذه الأقوال الشبيهة باستطرادات من الدعابة و من العفّة ، أفلتتْ من السيدة بروست هذه العبارة : « ليطمئنْ صغيري ، الماما لن تتركه « .
سيُستجاب لها . كُتبتْ « محادثة مع ماما» التي ينبىء فيها الإبن أمّه بأنّه يكتب بينما هي ، بهيّةً و مشرقةً ، تتطلّع في مرآتها (7)، ثلاث أو أربع سنوات بعد هذا الموت ، و حكاية ميلاد هذه النسخة الأولى من البحث عن الزمن المفقود هي طريقة لجعل الأمّ تحيا ثانية بين الأوراق . هذا هو ربّما توزيع الأدوار بين مارسيل و الماما . للإبن الذكاء ، للأمّ المعرفة . لها، القراءة ، النصّ من غير مؤلّف ، النّبرة الشفاهية ، العبارة اللّذيذة و المتساوقة ، الما قبل القبلة المتعذّر بلوغه . له ، الكتابة ، التمتمات المُستعادة بلا انقطاع ، نتف من الورق بدلا من القبل ، فستان الكتاب المُمزّق و المُعاد خياطته باستمرار ، المستقبل السّابق للرغبة .
لا يهمّ إن كان هذا المشهد قد حدث أم لا ، هكذا أو بشكل آخر ، المهمّ هو الطريقة التي يتصوّر عبرها بروست الكاتب ميلاده الخاص ككاتب . على الوجهين : الطفل المرتجفُ على الدّرج ، الشاب المُستهام المُهتاج المتطلّع إلى أمّه الجالسة إلى منضدة زينتها و هو يخبرها بأنّه سيكتبُ كتابا . البحثُ عن الزمن المفقود ليس ضريحا كما كان الشأن مع العظماء في الماضي ، إنّه أكثر تواضعا بكثير ، فستان طويل من الكلمات ، إعداد غير ورع للمأتم . يتصرّف بروست ، و قد صار كاتبا ، كأنّه لا يعلم بأنّ أمّه قد ماتت .
الكاتبُ و أمّهُ ، من قبل كما من بعد ، « يلعبان لعبة الأدب « ، كما تُلعبُ لعبة مطاردة اللّصوص ، لعبة التخبئة أو لعبة الدّمية . « يظهرُ أنّك ستصبحُ كاتبا ، و يظهرُ بأنّني لن أدرك ذلك « . إنها الأمُّ التي تلعب و تُمسرح ابنها ، لكن ، بما أنّ الإبن هو الذي يكتب هذا المشهد ، فهو الذي يُمسرح أمّه و يجعلها كاتبة . يدّعيان هنا معا منشأ سيناريو منحرف و ميلاد مُثُلية مارسيل ، و لكن أيضا صيرورة بروست روائيا . من السرّ المضاعف حول الجنسية و حول كتابة الرواية ، كانت جانْ بروست ، لا شكّ ، المتلقيّة و المتواطئة . ميثاقان لاواعيان انعقدا بين بروست و أمّه . الأوّلُ تعلّق بالمثلية وبالتّفاهم حول عدم الاعتراف باختلاف الجنسين ، الثاني تعلّق بالموت و عدم الاعتراف بلا تراجع الزّمن . إذا كان الأوّل في القلب من السلوك الجنسي ، فإنّ الثاني يبيحُ الخلق الفنّي . العبقريةُ و العيوبُ حتى نتكلّم مثل السّارد ، أو الإبداع الفنّي والجنسية المنحرفة كما تُقال الأشياء في التّحليل النّفسي ، يحافظان على صلات وثيقة .
لكن ، كيف نفسّر لماذا بروست كتب روايته فائقة الحدّ و لم يصرْ روبير دومونتسكيو آخر ، نرسيس دون أثر ، مؤلف كتب ضعيفة القيمة ، مشايع لمثلية متكتّمة و بذيئة ، لكن قطعا ليس كاتبا ؟ لماذا لم يبق ابن أمّه و أصبح أب تحفته و رائعته ؟ من أين أتته الجسارة على كتابتها و القوّة على إنهائها ؟ ليس لديّ إجابات ، لكن أعتقدني أخال أنّ الأب أدريانُ بروست ليس دون أثر . الأمّهاتُ يمنحن الكلمات ، الآباءُ يمنحون الكتب . بروست مُثُليّ مُخفق أصبح كاتبا ، بينما مونتسكيو مُثليّ أصبح كاتبا غير موفّق .
الفرضيةُ التي أصوغها برسم بورتريه متقاطع للكاتب و أمّه ، هي أنّه من دون هذه الأمّ ، لم يكن بروست دون شكّ ليصير مُثُليّا و لا كاتبا ، لكنّه إذا لم يكن استطاع بالجهد ، بالبغض و بالرّغبة في التحرّر من مُثليته و من أمّه في الكتابة لمكُث ذاك الذئب الصّغير الذي يبرز أوراقه الصّغيرة للماما الصّغيرة ، ليقول لها : « عُودي « .
نكتبُ لننفصل عن جسد الأمّ و عن معرفة الأمّ بالجسد . حين اكتشف سوانْ أنّ أُوديتْ لم تكن على هواه ، و أنّ العناء أخذ منه و بدّد سنوات من حياته لأجل امرأة لم تكن تلذّ له ، كان الوقت متأخّرا حتى يشرع في الكتابة حقّا و يصنع كتابا عن حبّه الكبير . سيموتُ دون كتاب . انتظارٌ طويلٌ أمام باب مغلق لا يتسرّب منه إلاّ شعاع ضوء ما هو زائل .
بالنسبة للسّارد ، سينحو منحى آخر. إذا كان هناك من هو على هواه ، يستحقّ العناء من أجله ، مُقارنا بكلّ الآخرين و بالأخصّ بكلّ الأخريات ، منْ في إمكانه أن يهديه حياته بأسرها كما لهواه الكبير ، فإنّها بالطبع الماما . لكنّه ، بالضّبط سينفصلُ عنها . البحثُ عن الزمن المفقود رسالة طويلة بعثها مارسيل إلى الماما ليقول لها أخيرا بأنّها لم تكن ما يستبغيه .
الهوامش :
1 G.Genette , Figures , III , éd Seuil , 1972 , p.75
2 _ الإحالة هنا إلى الجزء الثاني من بحث بروست عن الزمن المفقود :A L'ombre des jeunes
filles en fleurs
3 _ RTP ,I, p: 30
4 _ RTP , I , p: 89
5 _ Correspondance , XVII, p:147
6 _ RTP , II , p: 659
7 _ Contre Sainte _ Beuve , éd Gallimard 1954 , p:118 _149 ( « محادثة مع ماما « هي مقدّمة هذا الكتاب الذي صدر بعد رحيل بروست بسنوات )
* ميشيل شنايدر كاتب و محلل نفساني فرنسي( 1944 ) أصدر سنة 1999 عن منشورات غاليمار كتاب « Maman « يتناول فيه صلات مارسيل بروست بأمّه .
** هذا النص مأخوذ منMagazine Littéraire , Hors Série , n? 2 . 2000 , 30 _ 32 p:


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.