أخنوش: تنمية الصحراء المغربية تجسد السيادة وترسخ الإنصاف المجالي    الأحزاب تثمن المقاربة الملكية التشاركية    رفض البوليساريو الانخراط بالمسار السياسي يعمق عزلة الطرح الانفصالي    الطالبي العلمي يجري مباحثات مع وزير الشؤون الخارجية السنغالي    تنصيب عمر حنيش عميداً جديدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    أخنوش يستعرض أمام البرلمان الطفرة المهمة في البنية التحتية الجامعية في الصحراء المغربية    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    أخنوش: "بفضل جلالة الملك قضية الصحراء خرجت من مرحلة الجمود إلى دينامية التدبير"    مصرع شخص جراء حادثة سير بين طنجة وتطوان    أمن طنجة يُحقق في قضية دفن رضيع قرب مجمع سكني    كرة أمم إفريقيا 2025.. لمسة مغربية خالصة    نادية فتاح العلوي وزيرة الاقتصاد والمالية تترأس تنصيب عامل إقليم الجديدة    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    "حماية المستهلك" تطالب بضمان حقوق المرضى وشفافية سوق الأدوية    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    تلاميذ ثانوية الرواضي يحتجون ضد تدهور الأوضاع داخل المؤسسة والداخلية    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    الركراكي يستدعي أيت بودلال لتعزيز صفوف الأسود استعدادا لوديتي الموزمبيق وأوغندا..    كيوسك الإثنين | المغرب يجذب 42.5 مليار درهم استثمارا أجنبيا مباشرا في 9 أشهر    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطاب الأخ الأمين العام الأستاذ عباس الفاسي في الذكرى الثامنة والثلاثين لوفاة الزعيم علال الفاسي بمراكش
نشر في العلم يوم 20 - 05 - 2012

ترأس الأمين العام لحزب الاستقلال الأستاذ عباس الفاسي أمس بقاعة قصر المؤتمرات بمراكش المهرجان الخطابي الحاشد الذي نظمه الحزب احتفاء بالذكرى 38 لوفاة زعيم التحرير علال الفاسي رحمه الله والذي اختارت له اللجنة التنظيمية هذه السنة شعار : « نضال دائم لبناء مجتمع متضامن » . وقد ألقى الأخ الأمين العام خطابا هاما بالمناسبة جاء فيه :
أيها السادة،
أيتها السيدات،
يسعدنا أن نُخَّلد اليوم الذكرى المجيدة، في رحاب مدينة مراكشَ الحمراء الزاهرةِ، نظرا لمكانتها المتميزةِ لدى الجميع، ولِمَا كان لها من حظوة وتقدير عند الزعيم علال الفاسي، الذي كان معجبا بدورها التاريخي على مر العصور، في الدفاع عن قيمنا الحضاريةِ، باعتبارها من أهم العواصِم الإسلاميةِ، ونظرا لما سجلت من صفحات خالدة في تاريخ بلادنا القديم والحديث، لدرجة كان معها إخوتنا المشارقة إلى عهد قريب يُعَرِّفون بلدنا المغرب باسمِ «مراكشَ»، وهي اليوم تشهد نهضة تنموية أصبحت معها نقطةَ جَذْبٍ عالميةٍ، تستقطب اهتمامَ العديد من الفعاليات الوطنية والدولية في مختَلفِ المجالات.
فتحيةٌ صادقةٌ لمدينة مراكشَ وساكنتِها، وإلى جهة مراكش تانسيفت الحوز الواعدة وإلى كل السادة والسيدات الحاضرين هنا.
رحيل علميْن من أعلام حزب الاستقلال
أيها السادة،
أيتها السيدات،
إننا نحيي هذه الذكرى والأسى مازال متَقاسما بيننا جميعا، لرحيل علميْن من أعلام حزب الاستقلال، ورجالات النضال السياسي، والثقافي، والصحافي، أعني رفيق الزعيم علال الفاسي في الحركة الوطنية، شاهدَ هذا العصرِ ومُرَبِّيَ الأجيالِ المجاهد أبو بكر القادري، عضو مجلس الرئاسة في الحزب، وعضو المجلس الإداري لمؤسسة علال الفاسي، وكذا خريجُ مدرسةِ الزعيمِ الوطنيةِ والإعلامية، المناضل الصلب الواضح والصادق الأستاذ عبد الجبار السحيمي، واللذين تجاوز التأثُّرُ العميقُ لوفاتهما العائلة الاستقلالية، ليطََال جموعَ الفاعلين في مختلف المجالاتِ بوطننا، على تبايُن مشارِبِهم الفكرية، وتنوع توجُهَاتِهم المذهبيةِ والسياسيةِ.
وإذا كان لكل واحد منهما جوانبُه الخاصةُ المتميزةُ، فإن ما يجمع بينهما أساسا هو الاستقامةُ في السلوكِ والثباتِ على المبدإِ والتواضعِ ودماثةِ الأخلاقِ والحرصِ على كسب الأصدقاء، الشيء الذي يؤكده آلاف المعزِّين من الداخل والخارج وعلى رأسهم جلالة الملك محمد السادس نصره الله والذي نعتز في حزب الاستقلال بمضامين رسالتي تعزية جلالته فيهما، واللتين أبان من خلالهما جلالتُه مرةً أخرى عن عمق تقديره السامي لرجالاتِ العملِ الوطنيَّ إبانَ الكفاحِ من أجل استرجاع الاستقلال وبَعْدَهُ، المخلصين لمقدسات وقيم ثوابت وطننا الغالي، والذي كان في مقدمتهم الزعيم علال الفاسي الذي قال فيه جلالة المغفورِ له الحسنِ الثَّاني :
«عرفنا فقيدنا الجليلَ علالَ الفاسي قبل الاستقلال، وعرفنا من نضاله المريرِ وكفاحه المتصلِ الواثقِ في سبيل التحرير... وعرفنا ما كان بينه وبين والدنا محمدٍ الخامسِ رضوان الله عليه من وثيقِ الصِّلاتِ ومكين الأواصر ومُحْكَمِ العهود، وما توافق عليه العاهل الراحل والزعيم الراحل وتحالفا عليه مع صِفْوةِ المناضلين الذين أخلصوا لوطنهم... وكان إبعاد الملك عن عرشه وإقصاؤه عن وطنه ووطن أجداده، واعتساف المستعمِر السيادة، بعد إبعاد العاهل الشهم ورفضه التفريط في الأمانة، وكانت مبادرة علال لمواجهة التحدي يوم دوَّى نداؤه من عاصمة الكِنانة (نداء القاهرة) بالاستنكارِ والتنديدِ، والوعيدِ، كل هذا إيذانا بثورةٍ عارمةٍ أعادت بأيامها المشهورةِ وملامحها المأثورةِ الحق إلى أهله». (انتهى كلام جلالته).
قاد جيلا وصنع رَعيلا من الماهدين
ونحن إذ دأبنا في حزب الاستقلال على تخليد ذكرى الزعيم العطرة، فإنما نتوخَّى من ذلك بالأساس الوفاء لروحِه الطاهرة، واستخلاص العبر من سيرته ومواقفه، ولتُنهِل أجيال الشباب الصاعد من مَعين إبداعاته الثقافية والسياسية والأدبية والاجتماعية، عِلْما بأن شخصية الزعيم علال الفاسي لا تمكن الإحاطة بكل جوانبها، لأنه كان متعدد المواهب ومن أولئك الرجال الذين أراد لهم الله التَّمَيُّزَ والاقتدارَ في مسار حياتهم الحافلة بصنوف العطاء والتضحية، فأهَّلَهُ لأن يستشعر ضرورة تَحمَّل عبءِ المسؤوليةِ في وقت مبكر، لإنهاض أمَّتِه من كبوَتِها، وسَجَّل للتاريخِ وللأجيال المتعاقبة بقصيدته الرائعة التي مطلعها :
أبعد مرور الخمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب
لحظةُ انطلاقة مسار شاب قاد جيلا وصنع رَعيلا من الماهدين، وطَبَع مسار أمة. فقد كان طُموحُه الوطني فوق سنه، والعديد من أفكاره وتصوراته أثبتت الأيام أنه كان فيها سابقا لزمانه، فشق مساره النضالي مسلحا بما وهبه الله من ملكة فَنّْ القيادة والقدرة على إقناع النخب وتأطيرها، وتعبئة الجماهير للالتفاف حوله، من خلال التواصل الدائم بمختلف شرائح الشعب التي انجذبت لأفكاره، وتفاعلت مع توجهاته واختياراته الوطنية، النابعة من عمق العبقرية المغربية الإسلامية الأصيلة، المتفتحة، الواعية بما يتطلبه الظرف، وما يقتضيه المستقبل، فاستمال القلوب والأفكار، وبعث فيها الطموح لبناء مجتمع جديد، بمحاضراته، ومقالاته الصحفية، وخطبه، وأناشيده الوطنية، وقصائده العصماء، وحواراته السياسية والعلمية، وتحليلاته المذهبية والعقائدية، مع رجالات الفكر والسياسة والدين، من مختلف المذاهب والديانات، إذ كان مفكرا سياسيا استوعب مدارس الفكر السياسي القديم والحديث، وعالما مشاركا مجتهدا ومجددا متفتحا، ووطنيا غيورا على وطنه حريصا على مصلحة مواطنيه، وكان يُؤَرِّقُه ما يكابده المغرب من تسلط الاستعمار العسكري المباشر، وما يُخطِّطُ له من سياسات تستهدف مقومات الإنسية المغربية، فترسخت لديه القناعة بأن تعدد أساليب المستعمر تقتضي تعدد واجهات النضال، وأساليب التصدي لمؤامراته ومناوراته ينبغي توظيفها كلها، وأن من أهمها التصدي لمخاطر الغزو الثقافي، لذا أولى عناية خاصة لتكوين الشباب وتثقيفه، من خلال التركيز على مسألة التربية والتعليم الذي يجب أن يشمل الجميع فتيانا وفتيات، فقراء وأغنياء، لينالوا جميعا، حظهم من العلم والمعرفة، بالإضافة إلى بذر روح التربية على خلق المواطنة في نفوس التلاميذ، وتنشئتهم التنشئة القائمة على حب وطنهم، والإخلاص له والعمل من أجله وخدمة لمواطنيهم جميعا.
التربية تستطيع أن تفعل الأعاجيب
لذا نجده يقول في النقد الذاتي :
«إن التربية تستطيع أن تفعل الأعاجيب، وهي التي لها القدرة على أن تكون من أجيالنا العناصر الصالحة، التي ترفع من قدر مواطنيها ووطنها ودينها وأمتها».
وبهذه القناعة جعل في مقدمة اهتماماته، إبان معركة التحرير وبعد الاستقلال، العناية بمجال التعليم والعمل على تربية أجيالنا الصاعدة، في إطار مدرسة الفكر المغربي الأصيل، مع الانفتاح على ثقافات العصر، للاستفادة من عطاء كل الحضارات، دون الوقوع في شرك الانسلاخ من الذات، وفقدان الهوية، وجهل مقومات إنسية مجتمعنا، وخصوصية أمتنا، والابتلاء بكارثة الاستلاب الفكري والثقافي، ويخاطب رفاقه وخصومه على السواء يقول : «لاتحسبوا أنني من الجامدين الذين يرفضون الاقتباس من الغرب، بل أريد أن نكون مثل أسلافنا الذين اقتبسوا من كل العالم، وبلوروا الحضارة العربية الإسلامية الماضية، والتي أسست للحضارة المعاصرة، وأرست مبادئ إنسانية هامة، ورسخت قيما فكرية توطد مفاهيم الحرية والمساواة ومشاعر الأخوة».
فهو يرى أن الاحتلال العسكري ليس شيئا خطيرا في حد ذاته، إذا لم تصاحبه أو يترتب عنه تأثر المواطنين بما يغرسه المستعمر في نفوسهم من أفكار، وقيم تتنافى مع قيمهم الأصيلة ولا تماشي مثلهم، وتتناقض مع ثوابت حضارتهم، ويقول : «إن المستعمر يعرف أن القوة لا تدوم، وأن التحكم في الشعوب واستغلال خيراتها لا يؤثر شيئا إذا احتفظت الأمة بكيانها المعنوي، ووجدانها الخاص، وبقدر ما يحتفظ المواطنون بخصائصهم الاعتقادية، ومميزاتهم الثقافية بقدر ما تسلم الأمة من الفناء مهما طال أمد الاستعمار».
لذا كان حريصا على إخراج بلادنا من ظلمة الجهل الذي يريد الاستعمار تكريسه، فدعا إلى خلق تعبئة وطنية من أجل تيسير التعلم لناشئتنا، تعليما وطنيا يعمل على إشاعة الوعي بضرورة التمسك بروح المواطنة الحقة، التي جبل عليها الإنسان المغربي على مر العصور، والتي حصنته وأكسبته مناعة من الانصهار في بوتقة الغزاة، وفي هذا الصدد يقول : «المغربي وطني منذ نشأته، فهو يحب الأرض التي وجد فيها لأن الوطنية عنده ليست في الفكرة وحدها ولا في الأرض وحدها ولكن في مجموع الأرض والمثل العليا التي اختارها، وبذلك فهو شغوف بالعقيدة الوطنية السليمة المتكاملة، التي يجد فيها العمق الذي يطمح إليه».
وقد كان الزعيم دائما يؤكد على أن الوطنية المغربية، ليست مرحلة من مراحل التاريخ المغربي، تزول بانتهاء الأسباب التي أوجدتها، ولكنها انبعاث للوجود المغربي، بما يشتمل عليه من حضارة إسلامية وكيان إفريقي، وهي توحيد بين الفكر والاتجاه، وجمع شمل كل الطبقات مهما كانت أهدافها الخاصة مختلفة، ورفع التحدي لضمان صيانة الوحدة الوطنية لكل فئات الشعب، والتصدي لنزعات التفرقة واستغلال القبلية ضد الوطنية، ومحاولة خلق صراعات طبقية، أو فئوية، أو عرقية، أو لغوية، أو إقليمية.
وقد كان يقول دائما : « إن الوحدة التي جاهدنا من أجهلها، تعني أن يظل الشعب موحدا بكل أصوله وأعرافه، في المدن والبوادي، في السهول والجبال، وأن يعود الوطن موحدا كما كان ملكا لجميع مواطنيه، إننا لن يهدأ لنا بال حتى تتم وحدة وطننا».
عانى مرارة السجون، وتحمل عناء الغربةدفاعاعن حرية الو طن وكرامة المواطنين
فعاش من أجل هذا الهدف السامي، متصديا للمخططات الاستعمارية الهادفة إلى النيل من وحدتنا الوطنية منذ سنة 1930، والسعي باستمرار للإجهاز على وحدتنا الترابية، فقدم من أجل ذلك جسيم التضحيات، وكابد قساوة المنافي، وعانى مرارة السجون، وتحمل عناء الغربة وطول الترحال بين أقطار العالم، من أجل الدفاع عن حرية وطنه وكرامة مواطنيه، ومناصرة قضايا التحرر عموما وخاصة نضال أقطارنا المغاربية، وبناء المغرب الكبير الذي شكل مكتب المغرب العربي بالقاهرة لبنته النضالية الأولى، وكان في مقدمة المتحمسين لإنجاز هذا المطمح الشعبي غداة الاستقلال، فدعا إلى عقد مؤتمر طنجة الذي انعقد برئاسته في شهر أبريل 1958، وحضره زعماء وقياديون من حزب الدستور التونسي، وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وقدم فيه حزب الاستقلال مقترحات هامة، مثل الدعوة إلى إنشاء اتحاد أقطار إفريقيا الشمالية.
ونظرا لأهمية هذا المؤتمر التاريخي وحرصا منا في حزب الاستقلال على أن تظل روحه وأهدافه ومغازيه حية في أذهان الأجيال، درجنا على التذكير به في كل المناسبات، وخلدنا ذكرى مرور خمس وأربعين سنة على انعقاده في أبريل 2003 بطنجة، تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس وحضره قياديون بارزون من أقطارنا المغاربية الخمسة، وقد أكدت في الخطاب الذي ألقيته بالمناسبة على : «تمسك حزب الاستقلال الدائم بالتوجه الوحدوي لبناء المغرب العربي، وأن هذا الماضي المجيد المشترك، يجب أ يحثنا على إمعان التفكير مليا في الحاضر كأمر واقع، من أجل استشراف مستقبل مشرق لشعب مغاربي، قادر بمؤهلاته على أن يلتحق بصفوف الدول المتقدمة». وذلك انسجاما مع روح ذلك المؤتمر التاريخي الذي صدرت عنه توصيات جد طموحة مثل : «إنشاء مؤسسات مشتركة، ومجلس استشاري منبثق عن المجالس المحلية في تونس والمغرب وعن المجلس الوطني للثورة الجزائرية، في أفق قيام اتحاد فدرالي بين البلدان المغاربية، باعتباره النظام الأكثر ملائمة لدولنا، كما أصدر توصيات متقدمة تهم الجزائر وتحرير الأجزاء المغتصبة من ترابنا الوطني، تلك الأجزاء التي واصل الزعيم الدفاع عنها بإصرار وإيمان، وطرحها بقوة ووضوح مسلحا بالحجج والبراهين، على كل المستويات الوطنية والدولية الرسمية والشعبية، إلى أن لقي ربه غداة نداء الكويت التاريخي، مدافعا عن استرجاع أقاليم الساقية الحمراء ووادي الذهب وتحرير فلسطين وإنقاذ المسجد الأقصى.
أيها السادة،
أيتها السيدات،
مناصرة الشعوب المستعمرة، والدفاع عن القضايا العادلة
لقد كان الزعيم شموليا في منظوره النضالي، وأثبت حضوره في مناصرة الشعوب المستعمرة، والدفاع عن القضايا العادلة، وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني الذي عايش نكبته وظل يحمل هم مأساته الأليمة، وكان في الواقع نضاله من أجل استقلال المغرب مقرونا بالكفاح من أجل تحرير فلسطين، وقد جعل مكتب المغرب العربي بالقاهرة رهن إشارة المناضلين الفلسطينيين، وكانت تربطه علاقات وثيقة مع قيادات كافة الفصائل الفلسطينية، وخاصة منظمة فتح، وقد واكب مراحل إعداد انطلاق الكفاح الفلسطيني المسلح الذي كان في مقدمة الداعين له، وكان من بين الزعماء القلائل الذي أحيطوا علما بساعة انطلاق رصاصته الأولى، ولم يتوقف عن الدعوة إلى حشد الدعم المادي والمعنوي والتعبئة الفكرية والشعبية لنصرة إخواننا الفلسطينيين، وكان في مقدمة المؤسسين للجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، وقد قال في حقه الشهيد ياسر عرفات : «نحن في فلسطين، وفي منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، نعتز بأخينا علال الفاسي الذي كان واحدا منا، عمل من أجل فلسطين وشعبها ونصرة قضيتها العادلة. وإننا لن ننسى أبدا أن الزعيم المناضل الوطني القومي علال الفاسي رحمه الله، لقي ربه وهو يدافع عن فلسطين وقضية شعبها».
وإن اهتمامه الدائم بالقضية الفلسطينية، نابع من عمق وعيه بأبعاد المؤامرة التي تستهدف الأمة العربية والإسلامية عموما، التي كان شديد الإيمان بقضاياها رغم ما لديه من مؤاخذات وملاحظات على بعض الأنظمة اللاديمقراطية التي كانت متحكمة في بعض أقطارها، فلم يثنه ذلك عن مناصرة مطامحها المشروعة، والبحث عن أسباب التعبئة لمواجهة أوضاع التفرقة بين فئاتها وطوائفها والصراع فيما بين دولها، وقد كان له دور بارز ومؤثر في تأسيس رابطة العالم الإسلامي التي كان عضوا في مجلسها التأسيسي، باعتباره مفكرا سياسيا مسموع الكلمة، وعالما مجتهدا ومجددا متفتحا حريصا على إبراز حقيقة الدعوة الإسلامية، التي تحث على الأخوة والمساواة بين جميع البشر، لأنه يرى أن ذلك هو مضمون الحديث الشريف القائل : «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».، فالأخوة المقصودة هنا عنده هي الأخوة الإنسانية، علاوة على أن روح الأخوة التي نسجها الإسلام بين أفراد أمتنا تتطلب منا جميعا، الترفع عن أسباب الصراعات التي تعطل مسار تضامننا، ووحدتنا، وتعرقل مجهودات تنمية أقطارنا، ولا تخدم سوى أعداء نهضتنا، وفي هذا السياق كان دائم الدعوة إلى ضرورة الابتعاد عن أسباب التوترات الداخلية، لما في ذلك من بذور التفرقة، وإذكاء الصراعات التي نشهدها مع الأسف اليوم في العديد من الدول العربية والإسلامية.
لذا كان حريصا على ربط الصلة مع كافة الدول الإسلامية، والأقليات المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، وخاصة الجمهوريات الإسلامية التي كانت خاضعة للاتحاد السوفياتي في عز الحرب الباردة، فلم يدخر جهدا في سبيل إحكام الصلة معها، علاوة على عمله الدؤوب من أجل توثيق أواصر التقارب بين التيارات والمذاهب، مؤكدا على أن من أخطر ما يواجه أمتنا الإسلامية في العصر الحالي هو ما يسعى إليه خصوم أمتنا وبعض الغلاة من أبنائها من تعميق شقة الخلاف بين الشيعة والسنة الشيء الذي كان دائما يعمل على الحد منه، واحتواء تداعياته، ويمعن في تركيز البحث والتحليل على ما يجمع هذين المذهبين العظيمين، ويؤاخي بين أتباعهما المنتشرين في أنحاء العالم كقوة بشرية وفكرية واقتصادية وسياسية لما في ذلك من حفاظ على وحدة الأمة الإسلامية وتجميع طاقاتها، بما يخدم مصالح شعوبها باعتبارها أمة وسطا لا مجال فيها لا للغلو ولا للتطرف، وفي هذا الصدد يقول الإمام الشهيد موسى الصدر في تأبين الزعيم «بانفتاحك يا علال على العالم الإسلامي، وحضورك الدائم، ونضالك منذ أيام نداء القاهرة، كنت تشكل وتدا من أوتاد هذه الأمة، فالفقيه (الطوسي) في (خراسان) كهموم المسلمين في (الفلبين)، لا تغيب عنهما، ولا يغيبا عنك، كما في مؤتمر تنظيم الأسرة في المغرب، وترفعك عن المذهبيات، وإعطائها حجمها الواقعي لا أكثر ولا أقل، كان وضاحا في مواقفك ومجالسك... وقد أثبت بقبولك الملتزم بالتطورات الحديثة، بل بمشاركتك في التطوير كما برز في مشروعك التعادلية الاجتماعية أثبت براءة الأحكام الدينية لا سيما الفقه الاجتهادي من الجمود».
أيها السادة،
أيتها السيدات،
كان الزعيم علال الفاسي رائدا وحدويا بامتياز في أفكاره وتوجهاته ومواقفه
لقد كان الزعيم علال الفاسي رائدا وحدويا بامتياز في أفكاره وتوجهاته ومواقفه، فبقدر ما كان حريصا على التركيز على عوامل الوحدة الوطنية والمذهبية والترابية لبلادنا، كان داعيا لبلورة عناصر التقارب والتوحد بين أقطارنا المغاربية وإظهار مقومات التلاقي بين الدول العربية والإسلامية، وإبراز موجبات التضامن مع الأقطار الإفريقية، التي عايش عن قرب معاناتها من الاضطهاد الاستعماري خصوصا خلال العشر سنوات التي قضاها منفيا في أدغالها، علاوة على إعجابه بغنى الحضارة الإفريقية وتنوع ثقافتها، وما لمسه من ميل الإنسان الإفريقي للإسلام الذي كان للمغرب دور هام في نشر تعاليمه السمحة في بلدان جنوب الصحراء، لذ كان راسخ القناعة بأن النضال من أجل تحرير المغرب والأقطار المغاربية هو جزء من الكفاح التحرري الإفريقي عموما، وقد تبلورت هذه الفكرة بمناسبة انعقاد أول مؤتمر لممثلي إفريقيا وآسيا بالأمم المتحدة في مصر بداية سنة 1953 بطلب منه مع قادة تحرير الجزائر وتونس لمواجهة الاعتداء الفرنسي على المغرب، خصوصا بمناسبة مذبحة الدار البيضاء، في شهر ديسمبر 1952، فعمل على تكوين جبهة تحررية تضم جميع حركات تحرير الدول الخاضعة للاحتلال الفرنسي، وكان في مقدمة الداعين لإنشاء حركة (آفراسيا) لكبح جماح الاستعمار في آسيا وإفريقيا»، وأسهم بفعالية في الدفاع عن هذا التوجه التحرري في مؤتمر (باندونج) الذي أسس لبروز منظمة دول عدم الانحياز.
وقد وجه رسالة إلى اللجنة التنفيذية السرية للحزب من القاهرة بتاريخ 29 يناير 1954 يقول فيها : « نحن الآن نعمل على توسيع أمر التعاون في الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي وقد وصلنا الآن إلى تكوين حركة رأي فيما يخص إجلاء فرنسا، كما أننا اتفقنا مع رئيس الحزب الاشتراكي الفيتنامي على تكوين جبهة للكفاح ضد الاستعمار الفرنسي في إفريقيا وآسيا».
وكان في السنوات الأخيرة من حياته قد قرر مع الرئيس السينغالي الراحل (ليبولد سيدار سنغور) تنسيق جهودهما بغية إعطاء الفكر مكانا أكبر في العمل السياسي، رغبة في ملاءمة الفكر السياسي الإفريقي مع متغيرات القرن العشرين، وتشييد رؤيا إفريقيا أصلية ومتفتحة اتجاه مشاكل القارة.
أيها السادة،
أيتها السيدات،
الملكية الدستورية جزء من عقيدة حزب الاستقلال
بعد هذه الإلمامة المقتضبة لبعض الاهتمامات الفكرية والنضالية لزعيمنا الخالد، ينبغي التذكير بأنها كلها وغيرها من جوانب عطائه الغزير التي لا يتسع المجال للتطرق إليها، كانت جميعها مقرونة بنضاله الدائم من أجل الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان أنى كان، وخاصة في بلادنا التي لم تفتر جهوده المتواصلة لا قبل الاستقلال ولا بعده، عن مواصلة طرح مسألة الديمقراطية باعتبارها المقوم الحيوي لصيانة كرامة المواطنين والارتقاء ببلادنا إلى مصاف الدول الديمقراطية، وذلك بإرساء دعائم الملكية الدستورية التي يقول عنها في كتاب «منهج الاستقلالية» : «فالملكية الدستورية جزء من عقيدة حزب الاستقلال....... والملكية الدستورية التي نرمي إليها هي التي تزيد النظام المغربي تثبيتا، ولكنها تضعه في مركزه اللائق به من المفهوم العصري للنظام والحكم، إن الدستور لا يقصد منه التحدي للملك أو المساس باختصاصه كرئيس للدولة وأمير للمؤمنين، ولكنه تنظيم للملكية... التي تتفق وحاجيات العصر ومعطيات الرقابة الشعبية على الشؤون العامة».
وقد كان الزعيم في هذا الإطار داعيا إلى إعمال فضيلة الحوار - التي كان متشبعا بها- بين جميع الفرقاء.
وإننا بهذه المناسبة لنجدد اعتزازنا بالخطوات الهامة التي قطعتها بلادنا في العهد الجديد، على مسار الإصلاحات المتعددة الأبعاد، وخاصة السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية، التي أعطت لبلادنا مكانة متميزة بين الأمم والشعوب، وأمنتها من مخاطر تداعيات ما تشهده العديد من الدول من أحداث وتطورات تبعث على الانشغال، الشيء الذي ينبغي معه تظافر جهود كل الفاعلين، على اختلاف مواقعهم من أجل تحصين المكتسبات، وإثراء وتدعيم ما راكمته بلادنا من إنجازات وطنية، من أجل المصلحة العليا للبلاد بعيدا عن كل المزايدات أو الحسابات التي لا تصب في اتجاه تكريس مكانة النموذج المغربي المتميز الذي أصبح محط تقدير دولي عريض.
أيها السادة،
أيتها السيدات،
مجهود متواصل على مدار العام لمؤسسة علال الفاسي» الرائدة
وقبل الختام أود الإشارة إلى أنه إذا كنا في حزب الاستقلال نقيم مهرجانا حاشدا مثل هذا كل سنة بإحدى المدن، فإنه ينبغي التذكير بأن لنا مجهودا متواصلا على مدار العام، تقوم به «مؤسسة علال الفاسي» الرائدة، التي أود بهذه المناسبة الإعراب لكل القيمين عليها وخاصة اللجنة الثقافية التي تضم نخبة من رجالات الفكر والسياسة المرموقين والأخ محمد بوستة رئيس المجلس الإداري للمؤسسة عن صادق التقدير لما تبذله هذه المعلمة الفكرية من مجهودات موفقة للتعريف بالرصيد الفكري والنضالي للزعيم علال الفاسي، وتناول مختلف جوانب شخصيته المتعددة الأبعاد بالدرس والتحليل، من خلال سلسلة الندوات والمحاضرات واللقاءات والأبحاث التي تعد بمناسبة جائزة علال الفاسي، التي تنظم بمقاربة متفتحة تفسح المجال لمختلف الفعاليات الفكرية السياسية والثقافية من مختلف المشارب الفكرية التي أصبحت كلها ترى أن الزعيم علال الفاسي أكبر من إطار الحزب، ويتجاوز حدود الوطن، لأنه من أعلام الفكر الإنساني عموما.
فجازاه الله خير جزاء على ما بذله من مجهودات وما قدمه من تضحيات لتحرير وطنه، وإسعاد مواطنيه، ورفعة أمته وإشاعة مفاهيم السلم والإخاء بين الأمم والشعوب وأسكنه فسيح جناته.
والسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.