محاكمة زعيم "خلية إرهابية" في مليلية كان يتخذ من بني انصار مقرا له    مستعجلات القصر الكبير تستقبل تلميذات تعاركن بأسلحة حادة    زلزال قوي يضرب دولة جديدة    الدار البيضاء تحتفي باليوم الوطني للمسرح    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    تحقيق السيادة في مجال الذكاء الاصطناعي    من يجبر بخاطر المتقاعدين المغاربة؟!    مصر تُهدد بإنهاء "كامب ديفيد" إذا لم تنسحب إسرائيل من رفح    تليسكوب "ليزا"...    شطيرة نقانق عملاقة تزين ساحة "تايمز سكوير" بنيويورك    مقتل 3 أشخاص وإصابة 12 آخرين في إطلاق نار خلال حفل بأمريكا    بعد الخسارة أمام بركان.. قرار عاجل من مدرب الزمالك المصري    كأس الكونفدرالية الإفريقية: نهضة بركان يفوز على الزمالك المصري في ذهاب النهائي (2-1)    رئيس مجلس النواب في زيارة عمل برلمانية لجمهورية الصين الشعبية    ثمان نقابات بقطاع الصحة تعلن عن إضراب جديد وتحشد لإنزال بالرباط    أحوال طقس اليوم الاثنين في المغرب    قنصلية متنقلة لفائدة مغاربة إسبانيا    من البحر إلى المحيط.. لماذا يتحول مسار الهجرة من المغرب إلى أوروبا؟    بنموسى يكشف أسباب تسقيف سن ولوج مباريات التعليم    تحليل آليات التأثير الثقافي في عصر الرقمنة    الأساطير التي نحيا بها    الدرس الكبير    السينما في الهوامش والقرى تشغل النقاد والأكاديميين بالمعرض الدولي للكتاب    هل انفصلت فاطمة الزهراء لحرش عن زوجها؟    الاعلان عن اختفاء قاصر من بليونش بعد محاولة هجرة إلى سبتة سباحة    ليلة ثالثة من الأضواء القطبية مع استمرار عاصفة شمسية "تاريخية"    تراجع صرف الدولار واليورو بموسكو    "المراهنة على فوضى المناخ".. تقرير يفضح تورط المصارف العالمية الكبرى في تمويل شركات الوقود الأحفوري    النفط يواصل تراجعه وسط مؤشرات على ضعف الطلب وارتفاع الدولار    الاشتراكيون يفوزون في انتخابات إقليم كتالونيا الإسباني    فيلم الحساب يتوج بالجائزة الكبرى في برنامج Ciné Café    نقابة تُطالب بفتح تحقيق بعد مصرع عامل في مصنع لتصبير السمك بآسفي وتُندد بظروف العمل المأساوية    لماذا قرر حزب بهاراتيا جاناتا الهندي الحاكم أن لا يخوض الانتخابات في إقليم كشمير؟    "إغلاق المعبر يعني أن أفقد قدمي الثانية" شهادات لبي بي سي من مرضى ومصابين في رفح    ما الذي قاله مدرب نهضة بركان بعد الانتصار على الزمالك المصري؟    كرة اليد.. اتحاد طنجة يتأهل لربع نهائي كأس العرش    إبراهيم صلاح ينقذ "رين" من خسارة    دفاتر النقيب المحامي محمد الصديقي تكشف خبايا مغربية عقب تحقيق الاستقلال    مدرب بركان يشيد بالفوز على الزمالك    خلاف مروري بساحل أكادير يتحول إلى جريمة دهس مروعة (فيديو)    لقاء لشبيبة حزب التجمع الوطني للأحرار بفاس حول الحصيلة المرحلية للعمل الحكومي    المنتخب المغربي للتنس يتوج بطلا لإفريقيا    مطلب ربط الحسيمة بشبكة السكة الحديدية على طاولة وزير النقل    "إيقاعات تامزغا" يرفع التحدي ويعرض بالقاعات السينمائية الأسبوع المقبل        باريس سان جيرمان يودع مبابي أمام تولوز بالدوري الفرنسي الليلة    وفاة أول مريض يخضع لزرع كلية خنزير معدل وراثيا    معرض الكتاب.. لقاء يحتفي بمسار الأديب أحمد المديني    ارتفاع في سعر صرف الدرهم مقابل الأورو خلال أسبوع (بنك المغرب)    الصين تطور أول نظام للهيدروجين السائل المركب بالسيارات من فئة 100 كيلوغرام    مركز متخصص في التغذية يحذر من تتناول البطاطس في هذه الحالات    العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!    الأمثال العامية بتطوان... (596)    القضاء المغربي يصدر اول حكم لصالح مواطنة اصيبت بمضاعفات صحية بسبب لقاح كورونا    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشروع النهضوي العربي

بدأت فكرة المشروع النهضوي العربي في التبلور منذ عام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية والتركيبية) وطرحت توصياته - في جملة ما طرحت - الحاجة الى مشروع نهضوي (1).
وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادة المشروع النهضوي كمسائل فكرية ذات أولوية في برامج النشر والندوات من أجل توفير مادة علمية يبنى عليها لبلورة رؤية نهضوية. في هذه الاثناء، كلف المركز بعض اصدقائه الباحثين بتقديم مقترحات حول تصور المشروع ومخططه، وتوصل الى مجموعة منها عرضت على مناقشات داخلية في عام 1996 وفي ماي 1997 عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وادخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط الاولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.
وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في عام 2001، وشارك فيها ما يزيد عن المئة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها - على مدار اربعة ايام - القضايا النهضوية الست التي تشكل اهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري، ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه (2)، وشكل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها، وقد عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلف المركز باحثين بإعداد مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عقد الاجتماع هذا في لبنان في يوليوز 2001، وتناول خلال يومين من المداولات - مواد المخطط الأولي بالدرس والتدقيق، منتهيا الى اقرار صيغة شبه نهائية له، ما لبث المركز أن أقرها في صيغة نهائية في غشت 2001 مشكلا فريقا لتحرير فصوله من اعضاء لجنة الصياغة.
وقد أعدت اللجنة الأوراق الثماني الخلفية لنص المشروع، في ضوء حصيلة ندوة فاس ومرفقات أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمي المركز أحد اعضاء لجنة الصياغة منسقا، وكلفه في صيف عام 2004 بتحرير المسودة الاولى لنص المشروع اعتمادا الى اوراق وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. و بعد انجاز المسودة الاولى، دعا المركز الى عقد اجتماع للجنة الصياغة في القاهرة (يوليوز 2005) لمناقشة المسودة حضره خمسة عشر عضوا من اعضائها الثمانية عشر، وبعد يومين من المناقشة أحيلت الملاحظات الى منسق التحرير قصد ادخال التعديلات اللازمة على النص. ثم دعيت لجنة الصياغة الى الاجتماع ثانية في القاهرة في يوليوز 2006 لمناقشة المسودة الثانية. غير ان العدوان الصهيوني على لبنان في حرب يوليوز 2006 واغلاق المطار والحصار الذي ضرب على لبنان حال دون سفر خمسة من اعضائها الى القاهرة، مما اضطر الى تأجيله لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت في نونبر 2006، دعي الى المشاركة فيها باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم ادخل منسق التحرير ثانية التعديلات على مسودة النص لتعرض المسودة الثالثة بعد ذلك باشهر على المؤتمر القومي العربي (2007) وترسل الى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية لإبداء الرأي فيها، وتنشر على الموقع الالكتروني للمركز لعموم القراء العرب، للغاية نفسها.
وبعد أن تجمعت حصيلة وفيرة من تعليقات لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء المفكرين والباحثين والخبراء، كلف احد اعضاء لجنة الصياغة بإدخال التعديلات الواجبة على المشروع ليصير إلى مسودته الرابعة، وعقب ذلك عقدت لجنة الصياغة اجتماعا نهائيا في بيروت في 2009 لإبداء الرأي في المسودة لإدخال آخر تعديلات عليها.
لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله في هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في انجازه (من قوميين واسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثلا نظرة الاطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعا للأمة جمعاء لا لفريق منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركا في المراحل كافة: من اعداد المقترحات والتصورات، الى فرق العمل التي ناقشت المخطط واقرته، الى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، الى اعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وهاهو المركز يطرح المشروع النهضوي العربي في صورته النهائية على الامة، واثقا من انه سوف يكون دافعا قويا لنضالها من أجل تجسيد اهدافه الستة في الواقع العربي، وناظما فعالا لهذا النضال.
الفصل الثامن
آليات تحقيق المشروع
يحتاج كل مشروع الى آلية عمل للتحقيق تتناسب مع قواه الاجتماعية، وتلحظ مواطن القوة ومواردها في المجتمع، وهذا ما ينطبق على المشروع النهضوي العربي حيث آلية تحقيقه تفترض أخذ المعطيات التالية في الحسبان.
أولا: القوى الاجتماعية والسياسية والوسائل النضالية
في أي تصور للقوى الاجتماعية والسياسية العربية التي قد تكون الحامل التاريخي للمشروع النهضوي: وفي أي تقدير للوسائل النضالية المفترض أنها الأنسب للاستعمال من أجل تحقيق ذلك المشروع، لابد من التشديد على الموضوعات النظرية والسياسية التالية:
1 إن أخطر ما قد يتعرض له المشروع النهضوي، عند تصوره آليات تحقيقه، هو النظر إليه بما هو كل لا ينتظر سوى التحقق دفعة واحدة، بدلا من النظر إليه بما هو سلسلة من المسارات المختلفة والمتفاوتة، وسلسلة من التراكمات المحكومة بقانون التفاوت في التطور.
2 لاشك أن المشروع النهضوي العربي يستند الى قاعدة عريضة من القوى صاحبة المصلحة فيه، ومع ذلك لابد من الانتباه الى أن القوى الاجتماعية العربية في حالة حراك شديد وسيولة في وقائع التحول. ولذلك، فإن كل تعيين مبدئي لقوى افتراضية (قوى الشعب العاملة، الأمة، النخبة، الكتلة التاريخية... إلخ) قد يصطدم بوقائع اجتماعية معاكسة، أو قد يُسقط من الحسبان قوى جديدة أو صاعدة ربما يرشحها الواقع لأدوار كبيرة، ولذلك، فإن أهداف المشروع النهضوي وقضاياه ستظل تنتج قواها الاجتماعية التي تحملها حين تجد مصلحة فيها. ومن الضروري في هذا السياق ضمان مساندة الجماهير العربية للمشروع بحيث تحرص تلقائيا ودوما على جوهره وتمنع أية قوى غير مؤمنة به أو ببعض جوانبه الأساسية من تعويق مسيرة النضال من أجل تجسيده وتوجيهها جهة أخرى. ويقتضي هذا أن تستمد من المقاصد النهائية للمشروع قائمة من المعايير والمؤشرات لتقييم عناصر القوة ومواطن الضعف، التي تنفذ منها التحديات، وتقدير القوى المضادة لمسيرته سواء في الداخل أو من الخارج والتحالفات بينها، وكيفية التعامل معها. وهنا يجب أن تحظى العوامل الآنية والمستقبلية، وليس التاريخية، بالاهتمام، مما يستدعي إيضاح التكاليف والمنافع لكل من شرائح المجتمع، في كل من الأجل القصير والطويل، والتنبيه الى الآليات التي يمكن أن تلجأ إليها القوى المضادة ،خاصة خلال المراحل الألى التي يعظم حج التغيير الذي يصيب الأوضاع القائمة للوطن العربي وشرائحه المختلفة.
وانطلاقا من ذلك يتعين على منظري المشروع النهضوي أن يلحظوا مكانة كل فئات الشعب العربي وقواه، بما في ذلك تلك التي قد يضر المشروع بمصالحها في مراحله الأولى. فعلى الرغم من أن القوى السياسية الذاتية للمشروع هي القوى التي ترتضي العمل بمبادئه، ويفترض أن تكون الأكثرية، فمن المؤكد وقوف فئات أخرى في المجتع ضده، فئات قد أدت بها الظروف المحلية والدولية، والآثار السلبية، الى ربط نفسها ارتباطا نفعيا بالأجنبي، وخلق المتعاونين المحليين الذين ييسرون تنفيذ مآرب هذا الأجنبي، ويجنون من ذلك المنافع ضد إرادة معظم فئات الأمة ومصالحها. ومع مضي مشروع الوحدة العربية قدما في حيز التنفيذ وبروز محاسنه وجني ثماره يزداد المقتنعون بجدواه ويتحولون الى منادين به ومنضوين تحت لواء تنفيذه، ويلقى السائرون في ركب الأجنبي مصير سابقيهم.
3 على الرغم من المسؤولية التاريخية للفصائل القومية العربية تجاه المشروع النهضوي العربي الجديد، ومن ثم ضرورة خروجها من حالة التشرذم والانقسام التي تعانيها، فإن القوى السياسية للمشروع النهضوي ليس معطاة سلفا، وإنما هي قوى قيد التكوين مع نمو تناقضات الأنظمة الحاكمة دون أن يعني ذلك تجاهل أدوار التيارات المتولدة عن الفترة السابقة: أي القومية واليسارية والاسلامية والليبرالية. ويجب توقع أفقين اثنين على الأقل: الأفق الأول هو توقع ما يمكن أن تولده التحولات المعتملة الآن داخل التيارات الأربعة الرئيسة المذكورة من تركيبات متجددة، بل متغيرة. أما الأفق الثاني، فهو توقع نشوء حركات جديدة، علما بأن بعضها نشأ أصلا، ومنه تلك الحركات المشمولة بتسمية الحركات الاجتماعية الجديدة أو حركات المجتمع المدني.
4 تحتاج فكرة الطليعة، بمعناها التقليدي الموروث، الى تمحيص نقدي، لأنها بنيت على فكرة الحزب العقائدي صاحب الرسالة التنويرية، أو على تنزل النخبة «الواعية» بمنزلة من ينوب عن الجمهور. إن أي تصور للعمل الحزبي بأفق نهضوي ينبغي أن ينطلق من الحاجة الى استبدال الاحزال الشعبية (العقائدية النخبوية) بالأحزاب الطليعية، أي استيلاد الاحزاب الوسائل بدلا من الاحزاب التي هي أهداف بذاتها. ولابد من إعادة بناء الصلة بين الحزب والناس، على نحو تصبح فيه المرجعية في العمل الحزبي للناس، لا الى النص (العقائدي الإيديولوجي)، وعلى نحو يصبح فيه مبدأ تمثيل الناس والاحتكام الى الرأي العام داخل الاحزاب وخارجها مقياسا لصواب رؤاها وبرامجها والسياسات. نعم، للأحزاب دور تربوي في المجتمع وفي أوساط جمهورها. لكنه لا ينبغي أن يكون تلقينيا، بل أن يكون قائما على حوار، ولا ينبغي أن يتصور نفسه دور هداية للناس الى الحق المطلق. وفي مطلق الاحوال، لا يمكن فرض التغيير على الناس فرضا بدعوى وجود مصلحة لهم فيه لا يعونها، بل يجب أن يأتي ثمرة اختيارهم الحر واقتناع الواعي. والاحتكام الى الرأي العام هو المقياس الأول والأخير في تغليب خيار مجتمعي على آخر.
5 ينبغي عدم الخلط بين الدولة والسلطة حين الحديث عن المجتمع المدني وقوى التغيير الاجتماعية. إن الفكرة النيوليبرالية التي تضع المجتمع في وجه الدولة وتعتبر كل إضعاف للثانية قوة للأول تُسهم في توسيع فضاءات التعدد والحرية، فكرة خطيرة. إن الدولة بما هي الدولة وتعتبر كل إضعاف للثانية قوة للأول تسهم في توسيع فضاءات التعدد والحرية، فكرة خطيرة. إن الدولة بما هي إطار السيادة على الارض والناس والثروات ومنظومة التشريعات الشاملة للجميع وجملة المؤسسات التمثيلية والتنفيذية والقضائية عنصر أساس، بل حاسم، في البناء الوطني والقومي، وجهاز لا غنى عنه في إدارة الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع. ومن النفاق غير المجدي الادعاء بأن لا دور للدولة ممكنا في الاقتصاد والاجتماع الحديثين. ومن المنطقي أن يكون هذا الدور حيويا في بلادنا لحداثة الدولة فيها، وهشاشة وحداتها الداخلية، وضرورة بناء وحدتها القومية. إن التمييز القاطع بين إضعاف الدولة والتحرر من الأنظمة والمؤسسات السلطوية الاستبدادية ضروري هنا. ذلك أن إضعاف الدولة من كافة النواحي العسكرية والأمنية والاقتصادية والاقتصادية والاجتماعية قد يفضي الى إضعاف الوحدة الوطنية، بل ربما أسهم أحيانا في تفجيرها. ناهيك بأن من المستحيل تصور أي تقدم نحو بناء الوحدة القومية دون الأخذ في الاعتبار الدور الحاسم الذي يمكن ويجب أن تنهض به الدولة في هذا المجال.
6 ينبغي، في مضمار الحديث عن موقع المنظمات غير الحكومية في المشروع النهضوي العربي ومساهمتها فيه، الاعتراف بأن قيامها آذن بتململ وتحرك عميقين في المجتمعات العربية المعاصرة، وأن مما يحسب لها في خانة الإيجابيات مساهمتها في تعريف قطاعات واسعة من المواطنين العرب بحقوقهم الأساسية، ونجاحها أحيانا في التخفيف من الآلام والحرمان لدى فئات من شعبنا، وفي فرض تشريعات أكثر احتراما لحقوق الإنسان والبيئة والمرأة، ثم نجاحها في الزج بمئات الألوف من الشباب العربي في الشأن وإتاحة فرصة اتصال قطاعات منهم من الطبقتين الوسطى والعليا بأوساط شعبية لم تتح لهذه القطاعات من قبل فرصة بها والتعرف على مشكلاتها. لكن تقدير ما يمكن أن تساهم به في المشروع النهضوي لا يكفي أن يستند الى تلك الأدوار الإيجابية، بل ينبغي استكمال صورته باستحضار الأوجه السلبية في عملها، وأبرزها:
أ إن قسما كبيرا من المنظمات غير الحكومية في الوطن العربي لا تنطبق عليه التسمية ذاتها. فبعضها أنشأته أطراف في السلطة، أو لم يكن مستقلا عن هذا الجناح أو ذاك من السلطة، وبعضها الآخر له انتماؤه الحزبي.
ب إن قسما كبيرا منها مرتهن بمصادر التمويل الخارجية وما تمليه من شروط وتوجهات وأولويات، غالبا ما تكون مشدودة الى المركز الامبراطوري الامريكي والمنظمات الدولية التابعة له.
ج نادرا ما شكلت المنظمات غير الحكومية مدارس ناجحة في الديمقراطية، على الرغم من إعلاء معظمها الديمقراطية فوق سائر أهدافها.
د جزأت المنظمات غير الحكومية المطالب الشعبية والمجتمعية الى اختصاصات مختلفة (نساء، بيئة، حقوق إنسان، تنمية، تمويل... إلخ).
7 في العلاقة بين المنظمات غير الحكومية والأحزاب السياسية، تبدو الأولى، وكأنها تنافس الثانية، معتمدة في تجنيدها الشباب على نفور هؤلاء من الاحزاب لأسباب شتى. لكن الذي ينبغي أن نلحظه هو أن المنظمات غير الحكومية تتجه حثيثا الى النشاطات القطاعية أو الموضعية، ولا تؤدي الأدوار المفترض بالأجهزة الحزبية تأديتها: في تكتيل المصالح والمطالب وفق رؤى وبرامج مشتركة، وتأمين انتقال الحركة والنضالات الجماهيرية والاجتماعية من المستوى المناطقي أو القطاعي الى المستوى الوطني، ومن المستوى المطلبي والنقابي الى الستوى السياسي.
8 يستدعي تحقيق المشروع النهضوي عملا سياسيا عربية مشتركا. وقد عرفت العقود المنصرمة تجارب عدة في بناء أحزاب عاملة على المستوى القومي. وسيكون من المفيد والضروري، عند أي تجربة مستقبلية من العمل السياسي العربي الموحد، الاستفادة من الأخطاء التي انطوت عليها التجارب السابقة، وبالذات تلك التي سمحت بتسخير نضالات فروع الحزب في سائر الأقطار لخدمة نظام بعينه تحت عنوانه خدمة الحزب.
9 تكتسب أجهزة الإعلام، السمعي البصري خاصة، أهمية خطيرة في تكوين الرأي العام كما في التلاعب به أو تزييفه، ويتوقف نوع الأدوار التي تقوم بها على نوع الوظائف الاجتماعية التي تنهض بها ونوع المضامين التي تحملها، وعلى مصادر التمويل التي تتحكم في توجهاتها. ومع إن بعض الفضائيات العربية أتاحت هوامش أمام تكوين رأي عام مشغول بقضايا المجتمع والوطن، وأفسح مساحات ولو ضيقة أمام التعبير عن المواقف الملتزمة بالقضايا الوطنية والقومية والاجتماعية، التي غيبتها فضائيات التجهيل والتمييع المملوكة لأصحاب رؤوس الأموال الريعية، فإنه لا معنى للبحث في فاعلية الدعوة والدعاية للمشروع النهضوي العربي دون البحث في انتقالهما من الحيزين الشفوي والكتابي الى الحيز الإعلامي: المرئي والمسموع. وسيظل مطروحا على قوى المشروع النهضوي حيازة أداته الإعلامية الفضائية المستقلة.
10 ينبغي لقوى المشروع النهضوي العربي الاستفادة القصوى من الإمكانيات المذهلة التي توفرها وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة، لتنظيم الاتصال بين أطرافها، وتوصيل دعوتها الى الرأي العام.
11 يجب النظر الى آليات تحقيق المشروع النهضوي العربي بالدرجة الأولى من خلال المنظور الديمقراطي. ويشتمل هذا المنظور، ليس فقط، على منظومة آليات للتمثيل والسيادة الشعبيين، وإنما أيضا على عدد من الوسائل الراقية تحقق التوسيع الدائم لآفاق الحرية، وتأمين التسويات السلمية للنزاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وسواها. وإن استلهام المنظور الديمقراطي يعني في المقام الأول السعي الى التنافس على كسب الرأي العام بواسطة الانتخابات المحلية والوطنية واحترام جدل الأكثرية والأقلية والتداول السلمي للسلطة.
إن كل فكرة، مهما تكن سامية، ومهما يكن عمق اقتناع حامليها بأنها لمصلحة الشعب والأمة، لا يجوز فرضها بالقوة أو العنف، معبرا عنه بواسطة الاستفتاءات أو الانتخابات أو الوسائل الأخرى لرصد اتجاهات الرأي العام.
ولما كان تحقيق المشروع النهضوي يفترض تغييرات جذرية في المجتمع والسلطة والعلاقة بين الدول العربية ذاتها والأمة العربية والعالم، فإن أهمية إيلاء الأولوية في التغيير للتغيير الديمقراطي السلمي تتزايد باطراد.
ثانيا: نحو تجسيد المشروع
يجمع بين المشروع النهضوي العربي اليوم والمشروع النهضوي الحديث الذي انطلق في القرن التاسع عشر، واستأنف نفسه في خمسينيات القرن العشرين الماضي، جامع مشترك هو: إرادة النهضة.
وغير خاف أن الإرادة النهضوية لدى الأمم كما لدى النخب عملية مركبة يتداخل فيها المخزون الروحي والحضاري مع التراكم المعرفي والثقافي، مع الوعي العميق بمسار حركة التاريخ وقوانينها، مع الاستعداد للتقدم والرغبة فيه. وهي اليوم جميعها متوفرة كإمكانية لدى قطاع حي كبير من الأمة العربية. وتحتاج الى استنهاض. وترتبط إرادة النهضة بتعميم ثقافة النهضة داخل الأمة لإخراج مشروع النهضة من رؤية فوقية نخبوية الى ثقافة جماهيرية. وهي ثقافة ترسخ أكثر كلما تهيأت لها أسبابها التحتية العميقة بالتربية: العائلية والمدرسية والجامعية والمؤسسية.
1 آليات النهضة ومؤسساتها
أ إن المقاومة، من حيث تعبير مادي عن إرادة التحرر من الاحتلال، آلية دافعة في عملية النهضة، وهي ليست ضرورة للمشروع النهضوية من زاوية الحاجة الى التصدي للطامع والمخططات الأجنبية فحسب، بل لأن مشروعا نهضويا لا تكون المقاومة مضمونا له هو مشروع هش وقابل للانكسار. وكلما كانت روح المقاومة متقدة في الأمة كانت إرادتها في النهضة عالية. وأخطر ما يمكن أن يدمر إرادة النهضة إنما هي روح اليأس والإحباط والهزيمة النفسية.
ب مهما كانت إرادة النهضة قوية، وثقافة النهضة متسعة، فإن نهوض الأمم لا يتحقق بمجرد الرغبة في تحقيقه، بل بواسطة عمل عقلاني دؤوب في إطار مؤسسات تحمل المشروع النهضوي وتجسده.
ج قد تكون المؤسسات السياسية، من أحزاب وجبهات وتجمعات، هي العمود الفقري لسائر المؤسسات الأخرى، لكن عملية النهضة أشمل من أن تنحصر في عمل سياسي مؤسسي، بل تحتاج الى مؤسسات تغطي المجال الاجتماعي برمته.
د إن المؤسسية ثقافة، في المقام الاول، وليست هيكلا إداريا فحسب، ولذلك فهي تفترض عقلا مؤسسيا تتحرر به المؤسسات الاهلية العربية المفترض بأن تنهض بحمل المشروع النهضوي من ظواهر الفردية واحتكار الرأي والقرار وانعدام تقاليد التداول على المسؤولية والسلطة مما تزخر به المؤسسات الرسمية العربية التي تفتقر الى روح العمل الجماعي.
2 كيف نجسد المشروع النهضوي
هذا المشروع هو الوعاء الاجتماعي الأكبر الذي يحتوي في داخله كل الأوعية الاجتماعية والسياسية في وطننا الكبير. فما من فرد أو مؤسسة اجتماعية، أو سياسية عربية، بما في ذلك الأحزاب، أكبر منه، فهمومه هي هموم الجميع. ولا يمكن أن يكون تجسيده عملية سرية أو حكرا على فرد أو منظمة سياسية أو اجتماعية. ولابد من أن يضطلع أشخاص ذوو مكانة علمية ودينية واجتماعية واقتصادية راقية من شتى أقطار الوطن العربي بمسؤولي قيادية في هذا الصدد، وهم يؤمنون بداهة إيمانا لا يتزعزع بالمشروع بحيث يشكلون هيئة حكماء الأمة المتسامين فوق الفئات والطبقات والمصالح الخاصة أو الفئوية الحزبية أو العرقية أو العقائدية.
وتضع هذه الهيئة برنامج عمل يمكن متابعته وتقييمه بوسائل تقييم مقبولة، مستفيدة بهذا من مراكز الأبحاث العربية ذات التوجه القومي ومن أنصار المشروع في كل قطر عربي.
ومن المفروض أن يكون هذا المشروع القاسم المشترك بين الأحزاب القومية وكافة المؤسسات العروبية الثقافية والفكرية والاقتصادية، وأن تسعى الى تحقيقه بتفان عظيم، وأن تقيم أقوى العلاقات والتنسيق في ما بينهها لتحقيق هذا المشروع.
ويقتضي وضع المشروع القومي الوحدوي موضع التنفيذ:
وجود دعاة مؤمنين به، يحملونه الى الآفاق رؤية يتمثلها أوسع قطاع من الرأي العام العربي. وينبغي أن يتحلى هؤلاء بمؤهلات فكرية، ومناقب عالية، وصدقية لدى الناس، وانصراف كامل عن إغراءات السلطة وصراعاتها، ونفس وحدوي وجواري للتواصل مع القوى والتيارات كافة.
تنظيم حلقات حوارات موسعة يشارك فيها المثقفون، وصانعو القرار، ومراكز الأبحاث والدراسات، والأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، حتى يتحول الى قضية عامة.
تكريس فكرة النهضة كهاجس، وجعلها موضوعا للتفكير والدراسة في الجامعات وللتأليف والكتابة لدى المثقفين ليتسع نطاق رؤيته وتغذية تلك الرؤية بمعطيات فكرية جديدة.
فتح المؤسسات الإعلامية لمنابرها أمام مناقشات موسعة للمشروع قصد إنضاج فكرته لدى الرأي العام.
اعتماد آليات خاصة لمتابعة التنفيذ كتشكيل «جماعات تفكير وتأمل» تركز مهمتها في تنظيم لقاءات حوارية معمقة حول قضاياه التفصيلية، أو كإقامة «مرصد خاص» بهذا المشروع لمتابعة المجريات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية المتعلقة بالمشروع.
لم تعد الأمة العربية أمام ترف الاختيار بين ممكنات عديدة، إنها أمام أحد خيارين، لا ثالث لهما: إما أن تنهض وتتقدم وتنفض عنها حالة التأخر والتقهقهر، وإما ستزيد عروتها تفككا ونسيجها تمزقا وفكرتها العربية الجامعة اندثارا. إن النهضة اليوم أكثر من خيار، هي فريضة وجودية، دون القيام بها سقوط وانحلال. وإذا كان للقوى الحية في الأمة ما تقدمه لمشروع النهضة من رأي وتخطيط وتنظيم وتوعية وتعبئة، فإن قابلة النهضة التي ستقوم باستيلادها هي جماهير الأمة الواعية لمصلحتها، المدركة لما يُحدق بمصير الوطن والأمة من دون مستقبل نهضوي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.